(الصفحة 50)
لانصراف الأدلّة عن مثل ذلك انصرافاً ظاهراً لا ينبغي الارتياب فيه ، وهو أي الانصراف الظاهر هو الدليل الوحيد من غير أن يكون له دليل آخر . وأمّا إذا كان عدم الضبط في مرحلة متوسّطة ، فإن كان القضاء متوقّفاً عليه ، كما لو لم يكن له معين وكاتب ومنشئ; فالظاهر الاعتبار; للتوقّف المزبور . وإن لم يكن القضاء متوقّفاً عليه ، فالدليل على اعتبار هذه المرحلة من الضبط هو الانصراف أيضاً لا الانصراف بالنحو الموجود في الفرض السابق; ولذا يكون الاعتبار في هذا الفرض على الأحوط كما في المتن .
العاشر : الكتابة ، وقد تنظّر في المتن في اعتبارها ، وإن ذهب إليه عامّة المتأخّرين من الأصحاب(1) ، بل استظهر من السرائر دعوى الإجماع عليه ، حيث نسبه إلى مقتضى مذهبنا(2) . ولكن لا دليل على الاعتبار ، والإجماع على ذلك غير ثابت .
الحادي عشر : اعتبار البصر على رأي ، محكيّ عن الأكثر(3) بل عامّة من تأخّر(4) ، وعن الرياض أنّ شهرة هذا القول بالغة حدّ الإجماع; لعدم معروفيّة القائل بالخلاف من الأصحاب ، وإن أشعر بوجوده بعض العبارات(5) ، وقد جعل في المتن اعتباره بنحو الاحتياط الاستحبابي; لعدم الدليل على الاعتبار سوى الانصراف الذي يمكن منعه; لعدم وضوحه ، كدعوى توقّف تميّز الخصوم على البصر ، الذي لو فرض التوقّف في مورد التزمنا به ، لكن هذا لا يثبت القاعدة الكلّيّة والاعتبار بنحو الاطلاق ، كما لايخفى .
- (1) رياض المسائل : 9 / 240 ، التنقيح الرائع : 4 / 236 .
- (2) السرائر : 2 / 166 .
- (3) كفاية الأحكام : 262 ، القضاء والشهادات (تراث الشيخ الأنصاري) : 22 / 42 .
- (4 ، 5) رياض المسائل : 9 / 242 .
(الصفحة 51)مسألة 2 : تثبت الصفات المعتبرة في القاضي بالوجدان والشياع المفيد للعلم ، أو الاطمئنان والبيّنة العادلة ، والشاهد على الاجتهاد أو الأعلميّة لابدّ وأن يكون من أهل الخبرة1.
1 ـ لا شبهة في ثبوت الصفات المعتبرة في القاضي عند كلّ من المترافعين ـ كما سيصرّح به في المسألة الآتية ـ بالوجدان أي العلم ، وتثبت بالشياع والاستفاضة أيضاً ، بشرط أن يكون مفيداً للعلم أو الاطمئنان ، ومرجع ذلك إلى عدم حجّية الشياع في نفسه ، بل الحجّة هي العلم أو الاطمئنان ، وحجّية الأوّل واضحة لا ريب فيه ، وأمّا حجّية الاطمئنان; فلأنّه عند العرف والعقلاء علم ، ويعامل معه معاملة العلم ، والشارع لم يردع عنه ، بل أكثر العلوم يرجع إليه .
وفي الحقيقة لا يكون علماً . نعم ورد في باب الشياع صحيحة حريز ، وربّما يستفاد منها اعتبار الشياع; ولو لم يكن مفيداً للاطمئنان ، أي الظنّ المتأخم للعلم . قال :
كانت لإسماعيل بن أبي عبدالله (عليه السلام) دنانير ، وأراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن ، فقال إسماعيل : يا أبه إنّ فلاناً يريد الخروج إلى اليمن ، وعندي كذا وكذا ديناراً ، أفترى أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن؟ فقال أبو عبدالله (عليه السلام) : يابنيّ أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل : هكذا يقول النّاس . فقال : يا بنيّ لا تفعل . فعصى إسماعيل أباه ودفع إليه دنانيره ، فاستهلكها ولم يأته بشيء منها .
فخرج إسماعيل وقضى أنّ أبا عبدالله (عليه السلام)حجّ وحجّ إسماعيل تلك السنة ، فجعل يطوف بالبيت وهو يقول : «اللّهم أجرني واخلف عليّ ، فلحقه أبو عبدالله (عليه السلام) فهمزه بيده من خلفه وقال له : مه يا بنيّ ، فلا والله مالك على الله هذا ، ولا لك أن يأجرك
(الصفحة 52)
ولا يخلف عليك ، وقد بلغك أنّه يشرب الخمر فائتمنته . فقال إسماعيل : يا أبه إنّي لم أره يشرب الخمر ، إنّما سمعت الناس يقولون .
فقال : يا بنيّ إنّ الله عزّوجلّ يقول في كتابه :
{يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلمُؤْمِنِين}(1)يقول : يصدّق لله ويصدق للمؤمنين ، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم ، ولا تأتمن شارب الخمر ، فإنّ الله عزّ وجلّ يقول :
{وَلاَ تُؤْتُوا السُفَهَاءَ أَموَالَكُم}(2) فأيّ سفيه أسفه من شارب الخمر؟! إنّ شارب الخمر لا يزوّج إذا خطب ، ولا يشفّع إذا شفع ، ولا يؤتمن على أمانة ، فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على الله أن يأجره ولا يخلف عليه(3) .
والرواية وإن كانت صحيحة ، لكن في دلالتها مناقشة أو مناقشات من جهة أنّ تصديق النّبي (صلى الله عليه وآله) للمؤمنين مرجعه إلى تصديقه (صلى الله عليه وآله) لكلّ مؤمن ، لا للمجموع الذي يفيد قولهم العلم أو الاطمئنان ، ومن الواضح أنّ تصديق الواحد لا يرجع إلى ترتيب الأثر العملي على قول الواحد ولو كان فاسقاً ، بل إلى قوله تعالى :
{أُذُنُ خَيْر لَكُمْ}(4) مع أنّ الرواية ظاهرة في كون الرجل شارب الخمر ، والظاهر أنّ الإمام (عليه السلام)كان عالماً بذلك ، وإلاّ فمجرّد البلوغ الذي يتحقّق بإخبار واحد فاسق ، لا يجوز النسبة إليه من مثل الإمام الناهي عن ائتمان شارب الخمر ، ولا يكاد يحتمل الجمع بين ائتمان شارب الخمر الموجب لاداء الدنانير إليه ، وحصول الاطمئنان له بشرب الخمر من قول الناس ، كما يؤيّده قوله : «إنّي لم أره يشرب الخمر» . كما لايخفى .
- (1) سورة التوبة 9: 61.
- (2) سورة النساء 4 : 5 .
- (3) الكافي : 5 / 299 ح1 ، الوسائل : 19 / 82 ، كتاب الوديعة ب6 ح1 .
- (4) سورة التوبة 9 : 61 .
(الصفحة 53)مسألة 3 : لابدّ من ثبوت شرائط القضاء في القاضي عند كلّ من المترافعين ، ولا يكفي الثبوت عند أحدهما1.
مسألة 4 : يشكل للقاضي القضاء بفتوى المجتهد الآخر ، فلابدّ له من الحكم على طبق رأيه ، لا رأي غيره ولو كان أعلم2.
مسألة 5 : لو اختار كلّ من المدّعي والمنكر حاكماً لرفع الخصومة ، فلايبعد تقديم اختيار المدّعي لو كان القاضيان متساويين في العلم ، وإلاّ فالأحوط اختيار
فالإنصاف أنّه لا يتمّ الاستدلال بالرواية على حجّية الشياع مطلقاً ، ولو لم يفد العلم أو الاطمئنان .
1 ـ لأنّ القضاء عبارة عن فصل الخصومة ورفع التنازع ، أو ولاية على ذلك ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بالاجتماع عند كلّ منهما .
2 ـ بناءً على اعتبار الاجتهاد في القاضي مطلقاً أو في زمان خاصّ كما عرفت ، يكون الوجه في ذلك رفع التنازع والتخاصم بما يراه الحاكم رفعاً شرعيّاً ، خصوصاً فيما إذا كان منشأ التخاصم اختلاف مرجعي التقليد للمتداعين كما عرفت مثاله سابقاً ، فإنّه حينئذ لا يرتفع النزاع والتخاصم إلاّ بما يراه الحاكم الشرعي حكماً إلهيّاً ، وإلاّ فالحكم على طبق رأي الغير لا يكون كذلك .
وهذا لا فرق فيه بين أن يرى الغير مساوياً له أو أعلم منه ، فإنّ المجتهد ولو كان متجزّياً إذا خالف رأيه رأي الغير يرى الغير مخطئاً ولو كان أعلم ، وهذا بخلاف اعتبار العدالة في القاضي ، الذي يكون الوجه فيه عند العرف تساويهما عنده بحيث يطمئنان بذلك .
(الصفحة 54)الأعلم . ولو كان كلّ منهما مدّعياً من جهة ومنكراً من جهة اُخرى ، فالظاهر في صورة التساوي الرجوع إلى القرعة1.
1 ـ لو كان القاضيان متساويين في العلم لا مختلفين ، الذي عرفت أنّ مقتضى الاحتياط الوجوبي تعيّنه للمراجعة إليه ، وكان كلّ من المدعي والمنكر متمحّضاً في هذه الجهة بأن كان المدّعي مدّعياً فقط والمنكر منكراً كذلك ، واختار كلّ منهما حاكماً خاصّاً لرفع الخصومة مع تساويهما في العلم ، فقد نفى البعد في المتن عن تقديم اختيار المدّعي .
وعمدة المستند في ذلك الإجماع ، كما استدلّ به صاحب المستند فيما حكي عنه(1) ، وهو إنّما يتمّ على تقدير ثبوت الأصالة له ، بأن لا يكون مستند المجمعين بعض الوجوه الاعتباريّة التي أضافها المستدلّ إلى الإجماع ، مثل أنّه لم يطالب بالحقّ ولا حقّ لغيره أوّلا ، فمن طلب منه المدّعي استنقاذ حقّه يجب عليه الفحص ، فيجب اتّباعه ولا وجوب لغيره(2) .
واستشكل عليه السيّد في ملحقات العروة : بأنّ كون الحقّ له غيرمعلوم ، وإن أريد أنّ حقّ الدعوى له، حيث إنّ له أن يدّعي وله أن يترك، ففيه: أنّ مجرّد هذا لا يوجب تقديم مختاره، إذ بعد الدعوى يكون للآخر أيضاً حقّ الجواب، مع أنّه يمكن أن يسبق المدّعى عليه بعد الدعوى إلى حاكم، ويطلب منه تخليصه من دعوى المدّعي(3).
أقول : الظاهر تحقّق الإجماع وثبوت الأصالة له بعد أن لا يكون في المسألة نصّ ، ولا وجه آخر يصلح الاعتماد عليه . هذا ، وأمّا لو كان كلّ منهما مدّعياً من
- (1 ، 2) مستند الشيعة : 2 / 522 المسألة التاسعة (ط ق) .
- (3) ملحقات العروة الوثقى : 3 / 14 ـ 15 .