( صفحه 151 )
من المانعيّة وغيرها، فالمشهور(1) ظاهراً جريان استصحاب عدم التذكية وترتيب الآثار عليه، وكلام الفاضل التوني (قدس سره) (2) في الإشكال عليه معروف مذكور في رسالة الشيخ الأعظم (قدس سره) مع جوابه(3).
ولكنّ العمدة في الإشكال على هذا الاستصحاب: أنّ عدم التذكية المأخوذ في متعلّق الحكم الشرعي إن كان بنحو يصدق مع انتفاء الموصوف; وهو زهاق الروح وتحقّق الموت، فلا يعقل أن يتعلّق به الحكم الشرعي; لأنّ عدمها الصادق مع عدم الموضوع ليس بشيء حتّى يترتّب عليه أثر; من دون فرق بين أن يكون الأثر شرعيّاً أو غيره.
وإن كان بنحو لا يتحقّق إلاّ مع وجود الموصوف وفرض تحقّقه، بحيث كان المتعلّق هو زهاق الروح المتّصف بكونه بغير طريق شرعيّ، بنحو يكون الوصف أمراً عدميّاً، فهو وإن كان يعقل تعلّق الحكم به، إلاّ أنّه ليس له حالة سابقة، ضرورة أنّه لم يكن زهاق الروح مع هذا الوصف متيقّناً في زمان، فلا يجري استصحابه أصلا.
ثمّ إنّ صاحب المدارك (قدس سره) بعدما حكى عن جمع من الأصحاب(4): أنّ الصلاة كما تبطل في الجلد مع العلم بكونه ميتة، أو في يد كافر،
كذا تبطل مع الشكّ في تذكيته; لأصالة عدم التذكية، قال: وقد بيّنا فيما
- (1) الحدائق الناضرة 5: 526، فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم (رحمه الله) ) 3: 197.
- (3) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم (رحمه الله) ) 3: 197 ـ 202.
- (4) كالعلاّمة في تذكرة الفقهاء 2: 463 ـ 465 مسألة 117، والشهيدين في ذكرى الشيعة 3: 28، والدروس الشرعيّة 1: 149 ـ 150، وروض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 570.
( صفحه 152 )
سبق(1) أنّ أصالة عدم التذكية لا تفيد القطع بالعدم; لأنّ ما يثبت جاز أن يدوم وجاز أن لا يدوم، فلابدّ لدوامه من دليل سوى دليل الثبوت ـ إلى أن قال: ـ وقد ورد في عدّة أخبار الإذن في الصلاة في الجلود التي لا يعلم كونها ميتة، وهو مؤيّد لما ذكرناه(2).
والظاهر أنّ مراده من الأخبار مثل موثّقة سماعة بن مهران، أنّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) عن تقليد السيف في الصلاة وفيه الفرا والكيمخت؟ فقال: لا بأس ما لم تعلم أنّه ميتة(3).
وموثّقة علي بن أبي حمزة أنّ رجلا سأل أبا عبدالله (عليه السلام) ـ وأنا عنده ـ عن الرجل يتقلّد السيف ويصلّي فيه؟ قال: نعم، فقال الرجل: إنّ فيه الكيمخت، قال: وما الكيمخت؟ قال: جلود دوابّ منه ما يكون ذكيّاً، ومنه ما يكون ميتة، فقال: ما علمت أنّه ميتة، فلا تصلِّ فيه(4).
وما رواه الصدوق بإسناده عن جعفر بن محمد بن يونس أنّ أباه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الفرو والخفّ، ألبسه واُصلّي فيه ولا أعلم أنّه ذكيّ؟ فكتب: لا بأس به(5).
- (1) مدارك الأحكام 2: 387.
- (2) مدارك الأحكام 3: 157 ـ 158.
- (3) الفقيه 1: 172 ح811 ، تهذيب الأحكام 2: 205 ح800 ، وعنهما وسائل الشيعة 3: 493، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح12.
- (4) تهذيب الأحكام 2: 368 ح1530، وعنه وسائل الشيعة 3: 491، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح4، وج4: 456، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب5 ح2.
- (5) الفقيه 1: 167 ح789، وعنه وسائل الشيعة 4: 456، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب55 ح4.
( صفحه 153 )
ورواية السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل; لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل له: يا أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسيّ؟ فقال: هم في سعة حتّى يعلموا(1).
والظاهر أنّ الروايات الدالّة على اعتبار يد المسلم أو سوق المسلمين خارجة عن محطّ نظره، وأمّا جعل هذه الأخبار مؤيّدة لا دليلا، فلأجل عدم كونها واجدة لشرائط ما هو الصحيح بنظره، وهو الصحيح الأعلائي الذي كان كلّ واحد من رواة سنده مذكّى بتذكية عدلين.
واستشكل بعض الأعلام ـ على ما في تقريراته ـ على الاستشهاد بمثل موثّقة ابن أبي حمزة; بأنّ غاية ما يستفاد منها أنّ العلم بالميتة
قد اُخذ في موضوع الحكم بالنجاسة، وحرمة الأكل وغيرهما من الأحكام، إلاّ أنّه علم طريقيّ قد اُخذ في الموضوع منجّزاً للأحكام، لا موضوعاً لها، نظير أخذ التبيّن في موضوع وجوب الصوم في قوله ـ تعالى ـ : ( كُلُوا ْ وَاشْرَبُوا ْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الاَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاَْسْوَدِ
- (1) الكافي 6: 297 ح2، المحاسن 2: 239 ب48 ح1737، وعنهما وسائل الشيعة 3: 493، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح11، وج24: 90، كتاب الصيد والذبائح، أبواب الذبح ب38 ح2، وج25: 468، كتاب اللقطة ب23 ح1.
- وفي البحار الأنوار 65: 139 ـ 140، عنهما وعن نوادر الراوندي: 219 ح443، باختلاف يسير، وفي ج104: 249 و 251 ح9 و 15، عن المحاسن والنوادر.
- ورواه في تهذيب الأحكام 9: 99 ح432 عن محمد بن يعقوب.
( صفحه 154 )
مِنَ الْفَجْرِ )(1). والاستصحاب بأدلّة اعتباره صالح لأن يقوم مقام العلم الطريقي، كالبيّنة والأمارات(2).
ولا يخفى أنّه لا محيص عن الاعتراف بالموضوعيّة فيما إذا اُخذ العلم في ظاهر الدليل قيداً للموضوع ودخيلا فيه، ولا مجال لدعوى كونه علماً طريقيّاً لا مدخليّة له في الموضوع، بحيث يكون ذكره كعدمه، غاية الأمر أنّ
العلم المأخوذ في الموضوع تارة: يؤخذ فيه بما أنّه صفة خاصّة من الصفات النفسانيّة، واُخرى: بما أنّه طريق إلى الواقع وكاشف عنه، والفرق بين الصورتين إنّما هو في قيام البيّنة والاستصحاب ونحوهما مقامه في الصورة الثانية، وعدمه في الصورة الاُولى، والمقام إنّما هو من قبيل الصورة الثانية.
وإن شئت قلت: إنّ العلم المذكور في موضوعات الأحكام بما أنّه طريق إلى الواقع وكاشف عنه، لا يكون المراد به هو العلم الوجداني، بل الحجّة الشرعيّة وذكر العلم إنّما هو بعنوان المثال. وأمّا التبيّن في آية الصوم، فقد مرّ البحث(3) فيه، وأنّه يظهر من المحقّق الهمداني (قدس سره) ومن الماتن ـ دام ظلّه العالي ـ أنّه هو الفجر الواقعي، لا أنّ الفجر شيء، والتبيّن شيء آخر.
نعم، يكون العلم أمارة لهذا التبيّن النفس الأمري، وقد تقدّم(4) منّا ما يتعلّق بهذا الكلام، فراجع.
هذا، مع أنّ استشكاله لا يجري في مثل موثّقة سماعة; لأنّه قد حكم فيها
- (1) سورة البقرة 2: 187.
- (2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 2: 449.
- (3 ، 4) في ج1: 239 ـ 240.
( صفحه 155 )
بنفي البأس ما لم يعلم أنّه ميتة; ضرورة أنّه على التقدير الذي أفاده لا يبقى مورد للحكم بعدم البأس; فإنّ حمله على صورة العلم بوقوع التذكية لا يناسب السؤال الظاهر في مورد الشكّ، خصوصاً مع تفسير «الكيمخت» في موثّقة ابن أبي حمزة بما يرجع إلى أنّه مشكوك; لعدم العلم بكونه ذكيّاً أو ميتة.
ولا يجري هذا الإشكال بناءً على ما ذكرنا; لعدم جريان الاستصحاب في مورد الشكّ، إمّا لكون الميتة أمراً وجوديّاً لا يثبت به، وإمّا لعدم جريان استصحاب عدم التذكية في نفسه; لما عرفت(1).
والذي ينبغي أن يقال في جواب صاحب المدارك أوّلا: إنّه كما أنّ العلم بالميتة قد اُخذ موضوعاً للحكم بالنجاسة وعدم جواز الصلاة فيه، كذلك العلم بالمذكّى قد اُخذ في موضوع الحكم بجواز الصلاة فيه; لقوله (عليه السلام) في موثّقة ابن بكير: فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شيء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ قد ذكّاه الذبح(2).
ومقتضاه عدم جواز الصلاة مع الشكّ في التذكية، فيعارض مع الروايات المتقدّمة ولا ترجيح لها عليه.
وثانياً: أنّه لا يبعد دعوى كون مورد السؤال فيها هو ما يتهيّؤ من سوق المسلمين ويشترى منه; لأنّ مورد ابتلائهم في تلك الأعصار هو المأخوذ من سوق المسلمين; لأنّ المجلوب من بلاد الكفّار ـ الذي هو مورد الابتلاء في
- (1) في ص150 ـ 151.
- (2) تأتي بتمامها في ص175 ـ 176.