( صفحه 52 )
ليست بمحرّمة ولو قلنا بوجوب مقدّمة الواجب.
نعم، المقدّمة التي هي علّة تامّة لوقوع الحرام ـ بحيث يترتّب عليها قهراً من دون تخلّل الإرادة والاختيار ـ تكون محرّمة، ومن المعلوم أنّ النظر وكذا عدم التستّر لا يكون كذلك.
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الوجوه التي استدلّ بها على وجوب ستر الوجه والكفّين كلّها مخدوشة مردودة.
وأمّا القول بالتفصيل بين النظرة الاُولى وغيرها، فمستنده روايات ظاهرة في ذلك:
منها: رواية الكاهلي قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة(1).
ومنها: مرسلة الصدوق قال: وقال (عليه السلام) : أوّل نظرة لك، والثانية عليك ولا لك، والثالثة فيها الهلاك(2).
ومنها: ما رواه أيضاً في الخصال بإسناده عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة قال: لكم أوّل نظرة إلى المرأة، فلا تتبعوها نظرة اُخرى، واحذروا الفتنة(3).
ومنها: ما رواه أيضاً في عيون الأخبار عن محمد بن عمر الجعابيّ، عن الحسن بن عبدالله بن محمد الرازي، عن أبيه، عن الرضا، عن آبائه (عليهم السلام) قال:
- (1) الفقيه 4: 11 ح3، المحاسن 1: 196 ب49 ح340، وعنهما وسائل الشيعة 20: 192، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح6.
- (2) الفقيه 3: 304 ح1460، وعنه وسائل الشيعة 20: 193، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح8 .
- (3) الخصال: 632، وعنه وسائل الشيعة 20: 194، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح15.
( صفحه 53 )
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من قتل حيّة قتل كافراً، وقال: لا تتبع النظرة النظرة، فليس لك يا عليّ إلاّ أوّل نظرة(1).
والجواب عن الاستدلال بهذه الرواية: أنّ البحث إنّما هو في النظر إلى الوجه والكفّين، وليس في هذه الروايات إطلاق يشمل النظر إليهما، بل موردها هو النظر المحرّم. وأمّا أنّ أيّ نظر يكون محرّماً، فلا دلالة لها عليه.
وبالجملة: شمول الروايات للنظر إلى الوجه والكفّين والحكم بالتفصيل فيه غير واضح.
وربما يقال بأنّ المراد من النظرة الاُولى هي النظرة غير العمديّة، ومن الثانية هي النظرة العمديّة، ولكنّه لا شاهد على هذا القول أصلا، فظهر من
جميع ما ذكرنا عدم تماميّة أدلّة القائلين بوجوب ستر الوجه والكفّين، إمّا مطلقاً، أو في غير النظرة الاُولى.
وهنا شواهد وأدلّة على عدم الوجوب:
الأوّل: الآية الشريفة المتقدّمة(2)، المشتملة على استثناء ما ظهر من الزينة، بناءً على تفسيرها بالوجه والكفّين، كما لعلّه الظاهر من الآية، وقد وردت به روايات على ما تقدّم(3).
نعم، لو قلنا بأنّ الروايات الواردة في تفسيرها مختلفة، وأنّ الزينة الظاهرة
- (1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 65 ح284 و 285، وعنه وسائل الشيعة 20: 193، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح11.
- (2) في ص24.
- (3) في ص31 ـ 32.
( صفحه 54 )
تكون مجملة، لكان لازمه إجمال المخصّص المتّصل، وهو يسري إلى العامّ ويصير سبباً لإجماله. وعليه: فلا دلالة في الآية على جواز كشفهما، كما أنّه لا دلالة لها على حرمة إبدائهما على ما هو المفروض، فيصير وجوب سترهما مشكوكاً، ولا حاجة حينئذ للقائل بالجواز إلى إقامة الدليل عليه بعد اقتضاء أصالة البراءة لعدم الوجوب.
الثاني: الروايات الواردة في المقام، وهي كثيرة:
منها: ما رواه الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن مروك بن عبيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: ما يحلّ للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرماً؟ قال: الوجه والكفّان والقدمان، ورواه الصدوق في الخصال عن محمد بن الحسن، عن الصفّار، عن أحمد بن محمد مثله(1).
وهذه الرواية وإن كانت مرسلة، إلاّ أنّ في السند أحمد بن محمد بن عيسى، الذي أخرج البرقي من «قم» لنقله الرواية من الضعاف، فاشتمال السند على أحمد يجبر الإرسال، كما أنّ نقله عن مروك دليل على أنّه معتمد، مضافاً إلى تعبير أهل الرجال(2) عنه بأنّه شيخ، صدوق، فالرواية من جهة السند غير قابلة للمناقشة.
وأمّا من حيث الدلالة فواضحة، ولكنّه ربما يناقش فيها بأنّ اشتمالها على
- (1) الكافي 5: 521 ح2، الخصال: 302 ح78، وعنهما وسائل الشيعة 20: 201، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب109 ح2.
- (2) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ «رجال الكشّي»: 563، الرقم 1063، وعنه جامع الرواة 2: 226.
( صفحه 55 )
القدمين يوجب الوهن فيها; لعدم جواز النظر إلى القدمين إجماعاً(1). ولكنّه أجاب عنها الشيخ (قدس سره) بأنّه لا مانع من الالتزام بكون الرواية مطروحة بالإضافة إلى خصوص القدمين، ولا يوجب ذلك إشكالا بالإضافة إلى الوجه والكفّين(2).
وأمّا صاحب الحدائق (قدس سره) ، فقد التزم بجواز النظر إلى القدمين أيضاً; لأجل اشتمال الرواية عليهما(3).
ومنها: رواية مسعدة بن زياد قال: سمعت جعفراً وسئل عمّا تظهر المرأة من زينتها؟ قال: الوجه والكفّين(4).
ومنها: ما عن قرب الإسناد، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عليهما السلام) قال: سألته عن الرجل ما يصلح له أن ينظر إليه من المرأة التي لا تحلّ له؟ قال: الوجه والكفّ وموضع السوار(5).
ولا يخفى أنّ نفس السؤال دليل على أنّه كان في ذهن السائل ـ وهو علي بن جعفر ـ عدم وجوب ستر المرأة جميع بدنها، وأنّه ليس بحيث لا يجوز النظر إلى الجميع، بل كان هناك مقدار لا يجب ستره ويجوز النظر إليه، وإنّما
- (1) الخلاف 4: 247 ـ 248 مسألة 3، غنية النزوع: 355، مسالك الأفهام 7: 46، كشف اللثام 7: 25، رياض المسائل 10: 68 ـ 69، جواهر الكلام 29: 75 (ط.ق).
- (2) كتاب النكاح (تراث الشيخ الأعظم (رحمه الله) ): 47.
- (3) الحدائق الناضرة 23: 53 ـ 54.
- (4) قرب الإسناد: 82 ح270، وعنه وسائل الشيعة 20: 202، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب109 ح5، وبحار الأنوار 104: 33 ح7.
- (5) قرب الإسناد: 227 ح890 ، وعنه بحار الأنوار 103: 285 ح10.
( صفحه 56 )
كان السؤال عن تعيينه، ولم يستبعد المحقّق السبزواري (قدس سره) في محكيّ الكفاية(1)صحّة سند هذه الرواية.
ومنها: رواية عليّ بن سويد قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) : إنّي مبتلى بالنظر إلى المرأة الجميلة فيعجبني النظر إليها، فقال: يا علي لا بأس إذا عرف الله من نيّتك الصدق، وإيّاك والزنا; فإنّه يمحق البركة ويهلك الدين(2).
والظاهر أنّ معنى الابتلاء بالنظر إلى المرأة الجميلة كون حرفته وعمله مقتضياً للنظر إليها، كما قاله الشيخ الأنصاري (قدس سره) (3).
وقال في الجواهر: إنّ المراد هي النظرة غير العمديّة(4)، مع أنّه
لا يلائم قوله (عليه السلام) : «إذا عرف الله من نيّتك الصدق»; فإنّه يدلّ على أنّ
النظر كان ناشئاً عن النيّة والقصد، ويستفاد من الرواية عدم تداول ستر الوجه في ذلك الزمان، وإلاّ لم يتحقّق الابتلاء المذكور، وعدم تذكّر
الإمام (عليه السلام) لعلي بن سويد النهي عن المنكر، وعدم تنبّهه عليه، ظاهر في عدم كونه منكراً، فتدبّر.
ومنها: رواية أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها، إمّا كسر، وإمّا جرح في مكان لا يصلح النظر إليه، يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء، أيصلح له النظر إليها؟
- (1) كفاية الفقه، المشتهر بـ «كفاية الأحكام» 2: 85.
- (2) الكافي 5: 542 ح6، وعنه وسائل الشيعة 20: 308، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب1 ح3.
- (3) كتاب النكاح (تراث الشيخ الأعظم (رحمه الله) ): 54.
- (4) جواهر الكلام 29: 79 (ط.ق).