( صفحه 246 )
ودعوى رجوع الثانية إلى الاُولى; لأنّ ترك الواجب حرام. مدفوعة بمنع حرمة ترك الواجب بحيث كان هناك تكليفان: تعلّق أحدهما بالفعل، والآخر بالترك، بل الواجب ما تعلّق البعث بإيجاده، والحرام ما تعلّق الزجر به، من دون أن يرجع أحدهما إلى الآخر بوجه. وكذا تمتاز أصالة الحلّية; بأنّ مفادها جعل الحكم الإثباتي في مرحلة الظاهر، فيترتّب على الحلّية جميع الآثار المترتّبة عليها.
وأمّا البراءة الشرعيّة المدلول عليها بحديث «الرفع»(1)، فمرجعها إلى رفع الحكم الواقعيّ المجهول في الظاهر، من دون أن يكون مفادها وجود حكم إثباتيّ ولو في مرحلة الظاهر، فتدبّر.
وكيف كان، فالمنقول عن صاحب المدارك (قدس سره) التمسّك بأصالة الحلّية في المقام(2)، وتبعه على ذلك المحقّق القمّي (قدس سره) (3)، واختار جريانها أيضاً السيّد المجدّد الشيرازي (قدس سره) (4)، وتقريب الاستدلال بها من وجوه:
الأوّل: أن يكون المراد من الحلّية والحرمة هي التكليفيّة منهما، كما هو الظاهر من إطلاقهما، وجريانه في المقام مع أنّ الشكّ فيه إنّما هو في الحلّية والحرمة الوضعيّتين، إنّما هو بأن يقال: إنّ الشكّ في صحّة الصلاة فيما لم يعلم كونه من أجزاء غير المأكول مسبّب عن الشكّ في حلّية لحم الحيوان المأخوذ
- (1) تقدّم في ج1: 406; وفي هذا الجلد ص128 و 240.
- (2) مدارك الأحكام 3: 167.
- (3) جامع الشتات 2: 776 ـ 777.
- (4) تقريرات المجدّد الشيرازي لعليّ الروزدري 4: 101.
( صفحه 247 )
منه ذلك اللباس وحرمته، فإذا حكمنا بحلّيته لأصالتها، تترتّب عليها صحّة الصلاة فيه، كما لا يخفى.
وأورد عليه سيّدنا الاُستاذ (قدس سره) (1):
أوّلاً: أنّ الشكّ في كون الحيوان المأخوذ منه هذا اللباس محرّم الأكل أو غيره، تارة: بنحو يكون الحيوان المزبور مشخصاً معلوماً، والشبهة في حكمه شبهة حكميّة راجعة إلى ثبوت الجهل بالحكم الكلّي الإلهي.
واُخرى: بنحو يكون كذلك، لكنّ الشبهة موضوعيّة، والشكّ والترديد إنّما كان لأجل اشتباه الأمر الخارجي، من دون أن يكون راجعاً إلى الحكم الكلّي.
وثالثة: بنحو لا يكون الحيوان المزبور مشخصاً أصلاً; بمعنى أنّه لم يعلم
أنّ اللباس من أيّ حيوان اُخذ، هل اُخذ من الشاة أو من الثعلب مثلاً، ولا يكون في الخارج حيوان مشتبه الحكم بالشبهة الحكميّة
أو الموضوعيّة أصلاً.
ففي الأوّلين وإن كان لا مانع من جريان أصالة الحلّية بناءً على عدم اختصاصها بالشبهات الموضوعيّة، إلاّ أنّهما من الفروض النادرة في محلّ البحث. وفي الأخير الذي هو محلّ الابتلاء نوعاً; لكثرة وقوعه وتحقّقه، لا مجال لإجراء أصالة الحلّية في لحم الحيوان بعدما لم يكن هنا حيوان مشكوك اللحم أصلاً، ولا يكون لحمه على تقديره مورداً للابتلاء بوجه.
وبعبارة اُخرى: ليس في الخارج حيوان شكّ في حلّية لحمه بإحدى
- (1) نهاية التقرير 1: 381 ـ 383.
( صفحه 248 )
الشبهتين حتّى يجري فيه أصالة الحلّية، فتدبّر.
وثانياً: أنّ ظاهر الأدلّة أنّ الحكم ببطلان الصلاة وفسادها في أجزاء غير المأكول إنّما يكون مترتّباً على الحيوان المحرّم بعنوانه الأوّلي، كالأسد والأرنب والثعلب وغيرها، لا على الحيوان بوصف كونه محرّم الأكل، والتعبير عن ذلك العنوان بهذا الوصف في بعض الأخبار إنّما هو للإشارة إلى ذوات الموصوفات مع قطع النظر عن الوصف، ويؤيّده ما في بعض الروايات(1) من أنّ الصلاة في الثعالب والأرانب فاسدة، فعبّر عن موضوع الحكم بنفس ذلك العنوان الأوّلي من دون أخذ قيد التحريم فيه أصلاً.
وبالجملة: بطلان الصلاة في أجزاء الحيوانات المحرّمة ليس حكماً مترتّباً على تحريمها بحيث لو لم يجعل التحريم لكان جعل هذا الحكم لغواً، بل إنّما هو حكم في عرض الحكم بالتحريم من دون ترتّب وطوليّة بينهما أصلاً.
ودعوى أنّه لا مجال للعدول عن ظاهر العنوان المأخوذ في الدليل; فإنّ جعل وصف التحريم في الموضوع في مثل موثقة ابن بكير المتقدّمة(2) ظاهرة في المدخليّة والترتّب بحيث يكون الحكم بالفساد مترتّباً على وصف التحريم، ولا وجه للحمل على الإشارة إلى الذوات بعناوينها الأوّلية بعد كونها خلاف الظاهر.
مدفوعة بأنّه إذا كان التعرّض للذوات بتلك العناوين ـ مع أنّه موجب للتطويل بلا طائل; لعدم ترتّب فائدة عليه ـ فالطريق يكون منحصراً في
- (1) وسائل الشيعة 4: 355 ـ 358، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب7.
- (2) في ص175 ـ 176.
( صفحه 249 )
الإشارة إليها بعنوان جامع لا دخالة له في الحكم أصلاً، مضافاً إلى ما عرفت من التعبير في هذا الحكم بنفس العناوين الأوّليّة في بعض الروايات، وإلى اشتمال بعضها على التعليل بكون أكثرها مسوخاً(1)، أو كونها دابّة لا تأكل اللحم(2)، ومع الحمل على موضوعيّة عنوان الحرمة يلزم رفع اليد عن التعليل، فتدبّر.
فالظاهر حينئذ ما ذكر. وعليه: فالأصل الجاري في أثر الحليّة لا يثبت الأثر الآخر المشكوك إلاّ على القول بالأصل المثبت، وهو خلاف التحقيق.
وثالثاً: سلّمنا الترتّب وكون الحرمة واسطة في ثبوت البطلان والفساد، لكنّ المراد منها ومن الحلّية المترتّبة عليها الصحّة ليست الحرمة والحليّة الفعليّتين، وإلاّ لزم جواز الصلاة في أجزاء ما يحلّ أكله فعلاً; للاضطرار ونحوه ولو كان محرّماً ذاتاً، وعدم جوازه في أجزاء ما لا يحلّ أكله كذلك، كما إذا كان مغصوباً ولم يرض المالك بالتصرّف في خصوص لحمه; فإنّ وبره حينئذ يصير من أجزاء الحيوان الذي لا يحلّ أكل لحمه وإن كان محلّلاً ذاتاً.
ومن المعلوم أنّه لا يمكن الالتزام بذلك، فالمراد منهما هي الحرمة والحليّة المتعلّقتان بذوات الحيوانات بعناوينها الأوّلية، مع قطع النظر عن حدوث ما يوجب تغيير الحكم المتعلّق به أوّلاً، كالاضطرار والغصب ونحوهما. ومن
- (1) علل الشرائع: 342 ب43 ح1، وعنه وسائل الشيعة 4: 347، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب4 ح7.
- (2) الكافي 3: 401 ح16، وص397 ح3، تهذيب الأحكام 2: 203 ح797، الاستبصار 1: 384 ح1456، وعنها وسائل الشيعة 4: 348، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب3 ح2 و 3، ويلاحظ حاشية شرائع الإسلام للشهيد الثاني: 78 وغيرها.
( صفحه 250 )
المعلوم أنّ أصالة الحلّية لا تجدي في إثبات الحلّية الواقعيّة، كما هو الشأن في غيرها من الاُصول الشرعيّة(1).
فهذا الوجه من التقريب غير تامّ.
الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني (قدس سره) ممّا ملخّصه: أنّ الشرطيّة إنّما تنتزع من تقييد المأمور به بوجود شيء، والمانعيّة منتزعة من تقيّده بعدمه، وكلا التقيّدين يكونان من أجزاء المأمور به، فكما أنّ الصلاة مثلاً لها أجزاء من الأفعال والأقوال المخصوصة، كذلك لها أجزاء هي مجموع التقيّدات; بمعنى أنّ كلّ تقيّد جزء مستقلّ.
غاية الأمر أنّه جزء اعتباريّ، ولكنّه يشترك مع الأجزاء الحقيقيّة في الجهات والأحكام، فكما أنّ الأمر المتعلّق بمثل الصلاة من المركّبات الاعتباريّة ـ مع كونه واحداً حقيقة ـ له أبعاض كثيرة يتعلّق كلّ بعض منه
بجزء من أجزاء متعلّقه، كذلك يتعلّق بعضه بالتقيّد الذي هو جزء للمأمور به على ما عرفت(2)، وحيث إنّه لا وجود للتقيّد إلاّ بوجود القيد، بل هو عينه، فيكون نفس الشرط وعدم المانع معروضاً لذلك البعض.
فظهر أنّ عدم المانع ـ الذي هو محلّ البحث والكلام في هذا المقام ـ يكون كسائر الأجزاء متعلّقاً لبعض الأمر بالكلّ، وحيث إنّ النهي ليس إلاّ طلب الترك، فيكون وجود المانع منهيّاً عنه; لأنّ المفروض كون عدمه متعلقاً للطلب، غاية الأمر أنّ النهي المتعلّق بوجود المانع نهي ضمنيّ لا استقلاليّ،
- (1) نهاية التقرير 1: 381 ـ 383.
- (2) في ص234.