( صفحه 168 )
التاسعة: هل المطروحيّة في أرض الإسلام أمارة على وقوع التذكية على المطروح، أو على الأمارة عليه، أو أنّها لا تكون أمارة أصلا إلاّ إذا كان عليه أثر استعمال المسلم وجريان يده عليه، ومن المعلوم أنّه حينئذ يرجع إلى اعتبار يد المسلم وأماريّتها.
والدليل في هذا البحث رواية السكوني المتقدّمة(1)، عن أبي عبدالله (عليه السلام) : أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل; لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل له: يا أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسيّ؟ فقال: هم في سعة حتى يعلموا.
ويجري في معنى الرواية احتمالات:
أحدها: أن تكون الرواية بصدد بيان أصالة الطهارة عند الشكّ في النجاسة، ومنشأ الشكّ عدم العلم بكون السفرة لمسلم أو مجوسيّ من جهة ملاقاة المجوسي. وعليه: فالمراد بقوله (عليه السلام) : «هم في سعة حتّى يعلموا» هو التوسعة من جهة الطهارة إلى حصول العلم بالنجاسة.
ثانيها: أن تكون الرواية بصدد بيان أماريّة المطروحيّة في أرض الإسلام على وقوع التذكية على الحيوان المأخوذ منه اللحم الموجود في السفرة، ومنشأ الشكّ احتمال كونها لمجوسيّ، وهو لا يراعي شرائط التذكية المعتبرة في الإسلام، ولا يجتمع هذا الاحتمال مع ذكر مثل الخبز والبيض في رديف اللحم;
( صفحه 169 )
لعدم الشكّ فيه من هذه الجهة، كما هو ظاهر.
ثالثها: أن تكون الرواية بصدد بيان أنّ الحكم في مورد الشكّ في الحلّية مطلقاً هي الحلّية; وهو الإباحة، ومنشأ الشكّ احتمال عدم رضا المالك بالتصرّف فيها.
والاستدلال بها على الأماريّة متوقّف على كون المراد بها هو الاحتمال الثاني. ومن الواضح: عدم ظهور الرواية فيه لو لم نقل بظهورها في غيره; لما مرّ من عدم ملائمته مع ذكر مثل الخبز والبيض، إلاّ أن يقال بأنّ السؤال الثاني في الرواية لا يرتبط بما هو محطّ النظر في السؤال الأوّل، بل يمكن أن يكون من شخص آخر لا من السائل الأوّل.
وعليه: فيمكن دعوى كون الثاني ناظراً إلى خصوص اللحم من جهة التذكية وعدمها، فالحكم بالتوسعة إلى أن يعلم بكونه من مجوسيّ دليل على أماريّة المطروحيّة في أرض الإسلام.
ولكن هذه الدعوى لا توجب ظهور الرواية فيها; وإن كانت تصلح لأن يجاب بها عن الإشكال الوارد على الاحتمال الثالث; وهو: أنّه يوجب طرح الرواية; إذ لم يذهب أحد إلى الإباحة عند الشكّ فيها من هذه الجهة; فإنّ الإباحة حينئذ إنّما هي لأجل وجود الأمارة لا لمجرّد الشكّ،
كما لا يخفى.
العاشرة: المشهور(1) أنّ يد المسلم أمارة على التذكية مطلقاً، حتّى مع العلم بكونه مستحلاًّ للميتة بالدباغ، وقيل باختصاص الأماريّة بما إذا علم بكونه
( صفحه 170 )
غير مستحلّ لها به(1)، وعن جملة من الكتب ـ كالمنتهى ونهاية الإحكام ـ التفصيل بين ما لم يعلم باستحلاله فتكون يده أمارة، وما علم بكونه مستحلاًّ فلا تكون كذلك(2)، وهنا قول رابع; وهو التفصيل بين ما إذا أخبر بالتذكية ولو كان مستحلاًّ، وبين ما إذا لم يخبر، فتكون يده أمارة في الأوّل، دون الثاني(3).
ويدلّ على المشهور المطلقات المتقدّمة(4) في السوق، الناظرة إلى هذه الجهة; وهي كون المسلم غير عارف مستحلاًّ للميتة نوعاً، وهي كالصريحة في الشمول لذلك، خصوصاً بعد ملاحظة كون منشأ الشكّ للسائل الباعث له على السؤال ذلك، ومرسلة ابن الجهم المتقدّمة(5) ناظرة إلى هذه الجهة، وأنّ الضيق الواقع فيه السائل، وحكمه (عليه السلام) بأنّه يرغب عمّا كان يفعله إمامه (عليه السلام) إنّما هو لأجل ذلك.
هذا، مضافاً إلى التصريح بعدم اعتبار المعرفة بالإمامة في رواية إسماعيل المتقدّمة(6)، فالإنصاف أنّه مع ملاحظة الروايات والتأمّل فيها لا يبقى ارتياب في أنّ أماريّة يد المسلم أماريّة تعبّدية مجعولة لغرض التسهيل والتوسعة،
- (1) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 373، كشف اللثام 4: 418.
- (2) منتهى المطلب 4: 206، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 373، تذكرة الفقهاء 2: 464 مسألة 117، مسالك الأفهام 1: 285، كشف اللثام 4: 419.
- (3) ذكرى الشيعة 3: 29، الدروس الشرعيّة 1: 150، الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) 1: 101.
- (4) في ص156 ـ 158.
- (5) في ص158.
- (6) في ص160.
( صفحه 171 )
وعمدة النظر فيها كون البائع مسلماً غير عارف، خصوصاً في زمن الصادقين (عليهما السلام) ، الذي شاع فيه فتوى أبي حنيفة واستحلاله للميتة، وكثر متابعوه، ومع ذلك حكم في الروايات بالأماريّة والاعتبار.
وأمّا القول الثاني: فيدلّ عليه رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الصلاة في الفرا، فقال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) رجلا صرداً(1) لا يدفئه فرا الحجاز; لأنّ دباغها بالقرظ(2)، فكان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك؟ فقال: إنّ أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة، ويزعمون أنّ دباغه ذكاته(3).
وتقريب الاستدلال بها، أنّ موردها صورة الشكّ في كون البائع مستحلاًّ; لظهور عدم اعتماده (عليه السلام) في هذه الجهة إلى علم الغيب الثابت له، ومن الواضح: عدم كون جميع أهل العراق مستحلّين، بل كان فيهم من المسلمين العارفين أيضاً، فالرواية ناظرة إلى صورة الشكّ، وحاكمة بعدم جواز الاعتماد على يده; لأنّه (عليه السلام) كان يلقي في حال الصلاة الفرا المبعوث إليه من العراق، وكذا يلقي القميص الذي يليه، فالرواية دالّة على عدم الأماريّة مع الشكّ.
ويرد على الاستدلال بها ـ مضافاً إلى ضعف السند ـ إجمالها من حيث
- (1) الصَرِد، بفتح الصاد وكسر الراء المهملة: من يجد البرد سريعاً، مجمع البحرين 2: 1023.
- (2) القَرَظ، بالتحريك: ورق السَلَم يُدْبَغُ به الأديم، وفي الخبر: اُتي بهديّة في أديم مقروظ; أي مدبوغ بالقرض، مجمع البحرين 3: 1467.
- (3) الكافي 3: 397 ح2، وعنه وسائل الشيعة 4: 462، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب61 ح2.
( صفحه 172 )
الدلالة; لأنّه (عليه السلام) كان يجمع على طبق الرواية بين اللبس والانتفاع، وبين الإلقاء المذكور، مع أنّه على تقدير عدم الأماريّة لا يجوز الانتفاع به أصلا ولو في غير حال الصلاة.
ودعوى(1) كون لبسه إنّما هو لأجل الضرورة المسوّغة له، كما يشعر به قوله (عليه السلام) : «كان رجلا صرداً»; أي شديد التألّم من البرد، وعدم كون فرا الحجاز دافئاً.
مدفوعة بوضوح عدم كون الضرورة بالغة إلى حدّ يجوز معه المحرّم.
كما أنّ دعوى(2) الفرق بين اللبس، وبين الصلاة لأجل نفس هذه الرواية، كما ربما نسب إلى إشعار بعض الكتب(3).
مدفوعة أيضاً ـ مضافاً إلى كونها خلاف الإجماع(4) ـ بأنّها توجب عدم انطباق الدليل على المدّعى، فالإنصاف إجمال الرواية من حيث الدلالة، ولا يرفعه احتمال كون الإلقاء احتياطاً من الإمام (عليه السلام) في حال الصلاة وإن كان هذا الاحتمال مخالفاً لمدّعى المستدلّ، إلاّ أنّه أيضاً لا يكون صحيحاً; لعدم انحصار احتياط الإمام (عليه السلام) بالصلاة، كما لا يخفى.
هذا كلّه، مضافاً إلى مخالفة الرواية للمطلقات المتقدّمة(5)، الدالّة على الأماريّة مع العلم بالاستحلال فضلا عن الشكّ، كما عرفت.
- (1) راجع كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 133.
- (2) كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائينى للآملي 1: 133.
- (3) ذكرى الشيعة 3: 30.
- (4) جواهر الكلام 8 : 96.
- (5) في ص156 ـ 158.