( صفحه 243 )
اتّصافه بوصفي المضطرّ إليه والمكره عليه، مع أنّ تخصيص الموصول بالشبهات الموضوعيّة ينافي هذا الظهور; لعدم كون الفعل بنفسه معروضاً للجهل، وإنّما المعروض له هو عنوانه.
وحينئذ يدور الأمر بين حفظ السياق من هذه الجهة بحمل الموصول فيما لا يعلم على الحكم المشتبه، وبين حفظه من جهة اُخرى بحمله على إرادة الفعل، ولا ريب أنّ الترجيح مع الأوّل بنظر العرف.
وعلى هذا الوجه يصحّ الاستدلال بالحديث للمقام، بلحاظ كون المانعيّة الجزئيّة الثابتة لهذا اللباس على تقديرها مرفوعة; لأجل كونها
بنفسها مجهولة، وهذا إنّما يتمّ على تقدير الانحلال. وأمّا على تقدير
عدمه، فليس لنا أحكام جزئيّة مجهولة حتّى يتعلّق بها الرفع، بل الثابت
إنّما هو الأحكام الكلّية، والمفروض في الشبهات الموضوعيّة كونها معلومة غير مجهولة.
وقد ناقش سيّدنا الاُستاذ البروجردي (قدس سره) في شمول الحديث لمثل المقام من الشبهات الموضوعيّة; نظراً إلى أنّ الظاهر من الحديث عرفاً هو رفع التكاليف المجهولة التي توجب تضييقاً على المكلّف إذا علم بها، لا رفع الأحكام الجزئيّة، أو الموضوعات التي يرجع رفعها إلى رفع أحكامها بعد العلم بأصل الحكم الكلّي الذي صدر من الشارع.
وبعبارة اُخرى: أنّ المكلّف بعدما علم بحرمة الخمر الواقعي، المقتضي لوجوب الاجتناب عن الأفراد المعلومة، وكذا المشكوكة; لعدم جريان البراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة، فقد علم بما يوجب التضييق عليه،
( صفحه 244 )
فإذا فرض أنّ الشارع جوّز له الاقتحام في الأفراد المشكوكة، فلابدّ أن يبيّن ذلك بدليل يكون كالحاكم على دليل حرمة شرب الخمر الواقعي، نظير الأدلّة الدالّة على حلّية كلّ شيء فيه حلال وحرام إلى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعه(1)، وما يدلّ على طهارة المياه(2)، أو جميع الأشياء إلى أن يعلم أنّها قذر(3) أو نجس(4)، وغيرهما ممّا يكون دالاًّ على جواز الاقتحام في الشبهات الموضوعيّة.
وحيث لم يبيّن ذلك بمثل ما ذكر، فلا يمكن رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل على التحريم الظاهر في حرمة الفعل بعنوانه الواقعي. وبالجملة: فلم يثبت ظهور حديث الرفع في رفع الأحكام الجزئيّة المشكوكة في الشبهات الموضوعيّة(5).
وتندفع المناقشة ـ مضافاً إلى ما مرّ(6) من جريان البراءة العقليّة، وقاعدة قبح العقاب من دون حجّة ـ بأنّه ما الفرق بين قوله (صلى الله عليه وآله) : «رفع ما لا يعلمون»، وبين مثل قوله (صلى الله عليه وآله) : «رفع ما اضطروا إليه»، فكما أنّ الثاني حاكم على الأدلّة الأوّليّة، كذلك الأوّل; فإنّ مفاده عدم ثبوت الحرمة الواقعيّة في مورد الشكّ والجهل، فالإنصاف تماميّة الاستدلال بحديث «الرفع» للمقام.
- (1) تأتي في الصفحة الآتية.
- (2) وسائل الشيعة 1: 133 ـ 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق ب1.
- (3) تهذيب الأحكام 1: 284 ح832 ، وعنه وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب37 ح4.
- (4) الخلاف 1: 201 مسألة 161.
- (5) نهاية التقرير 1: 375 ـ 376.
- (6) في ص229 ـ 240.
( صفحه 245 )
جريان أصالة الحليّة في المقام
ومن الاُصول التي اعتمد عليها في المقام لإثبات الصحّة والجواز أصالة الحلّية التي تدلّ عليها روايات كثيرة:
منها: صحيحة عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كلّ شيء فيه حلال وحرام، فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه(1).
ومنها: موثقة مسعدة بن صدقة، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك ولعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي اُختك، أو رضيعتك،
والأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة(2).
ومنها: غير ذلك من الروايات(3) الدالّة عليها، والظاهر عدم اختصاصها بالشبهات الموضوعيّة; لشمول مثل الموثّقة للشبهات الحكميّة، وامتيازها عن أصالة البراءة الشرعيّة إنّما هو في اختصاصها بالشبهات التحريميّة، وعدم شمولها للشبهات الوجوبية دون البراءة الشرعيّة.
- (1) الكافي 5: 313 ح39، الفقيه 3: 216 ح1002، تهذيب الأحكام 7: 226 ح988، وج9: 79 ح337، مستطرفات السرائر: 84 ح27، وعنها وسائل الشيعة 17: 88 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب4 ح1، وج24: 236، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة ب64 ح2.
- (2) الكافي 5: 313 ح40، تهذيب الأحكام 7: 226 ح989، وعنهما وسائل الشيعة 17: 89 ، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب4 ح4.
- (3) وسائل الشيعة 17: 88 ـ 91 و 218 ـ 220، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب4 و 52.
( صفحه 246 )
ودعوى رجوع الثانية إلى الاُولى; لأنّ ترك الواجب حرام. مدفوعة بمنع حرمة ترك الواجب بحيث كان هناك تكليفان: تعلّق أحدهما بالفعل، والآخر بالترك، بل الواجب ما تعلّق البعث بإيجاده، والحرام ما تعلّق الزجر به، من دون أن يرجع أحدهما إلى الآخر بوجه. وكذا تمتاز أصالة الحلّية; بأنّ مفادها جعل الحكم الإثباتي في مرحلة الظاهر، فيترتّب على الحلّية جميع الآثار المترتّبة عليها.
وأمّا البراءة الشرعيّة المدلول عليها بحديث «الرفع»(1)، فمرجعها إلى رفع الحكم الواقعيّ المجهول في الظاهر، من دون أن يكون مفادها وجود حكم إثباتيّ ولو في مرحلة الظاهر، فتدبّر.
وكيف كان، فالمنقول عن صاحب المدارك (قدس سره) التمسّك بأصالة الحلّية في المقام(2)، وتبعه على ذلك المحقّق القمّي (قدس سره) (3)، واختار جريانها أيضاً السيّد المجدّد الشيرازي (قدس سره) (4)، وتقريب الاستدلال بها من وجوه:
الأوّل: أن يكون المراد من الحلّية والحرمة هي التكليفيّة منهما، كما هو الظاهر من إطلاقهما، وجريانه في المقام مع أنّ الشكّ فيه إنّما هو في الحلّية والحرمة الوضعيّتين، إنّما هو بأن يقال: إنّ الشكّ في صحّة الصلاة فيما لم يعلم كونه من أجزاء غير المأكول مسبّب عن الشكّ في حلّية لحم الحيوان المأخوذ
- (1) تقدّم في ج1: 406; وفي هذا الجلد ص128 و 240.
- (2) مدارك الأحكام 3: 167.
- (3) جامع الشتات 2: 776 ـ 777.
- (4) تقريرات المجدّد الشيرازي لعليّ الروزدري 4: 101.
( صفحه 247 )
منه ذلك اللباس وحرمته، فإذا حكمنا بحلّيته لأصالتها، تترتّب عليها صحّة الصلاة فيه، كما لا يخفى.
وأورد عليه سيّدنا الاُستاذ (قدس سره) (1):
أوّلاً: أنّ الشكّ في كون الحيوان المأخوذ منه هذا اللباس محرّم الأكل أو غيره، تارة: بنحو يكون الحيوان المزبور مشخصاً معلوماً، والشبهة في حكمه شبهة حكميّة راجعة إلى ثبوت الجهل بالحكم الكلّي الإلهي.
واُخرى: بنحو يكون كذلك، لكنّ الشبهة موضوعيّة، والشكّ والترديد إنّما كان لأجل اشتباه الأمر الخارجي، من دون أن يكون راجعاً إلى الحكم الكلّي.
وثالثة: بنحو لا يكون الحيوان المزبور مشخصاً أصلاً; بمعنى أنّه لم يعلم
أنّ اللباس من أيّ حيوان اُخذ، هل اُخذ من الشاة أو من الثعلب مثلاً، ولا يكون في الخارج حيوان مشتبه الحكم بالشبهة الحكميّة
أو الموضوعيّة أصلاً.
ففي الأوّلين وإن كان لا مانع من جريان أصالة الحلّية بناءً على عدم اختصاصها بالشبهات الموضوعيّة، إلاّ أنّهما من الفروض النادرة في محلّ البحث. وفي الأخير الذي هو محلّ الابتلاء نوعاً; لكثرة وقوعه وتحقّقه، لا مجال لإجراء أصالة الحلّية في لحم الحيوان بعدما لم يكن هنا حيوان مشكوك اللحم أصلاً، ولا يكون لحمه على تقديره مورداً للابتلاء بوجه.
وبعبارة اُخرى: ليس في الخارج حيوان شكّ في حلّية لحمه بإحدى
- (1) نهاية التقرير 1: 381 ـ 383.