( صفحه 153 )
ورواية السكوني، عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكّين؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) : يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل; لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن. قيل له: يا أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يدرى سفرة مسلم أو سفرة مجوسيّ؟ فقال: هم في سعة حتّى يعلموا(1).
والظاهر أنّ الروايات الدالّة على اعتبار يد المسلم أو سوق المسلمين خارجة عن محطّ نظره، وأمّا جعل هذه الأخبار مؤيّدة لا دليلا، فلأجل عدم كونها واجدة لشرائط ما هو الصحيح بنظره، وهو الصحيح الأعلائي الذي كان كلّ واحد من رواة سنده مذكّى بتذكية عدلين.
واستشكل بعض الأعلام ـ على ما في تقريراته ـ على الاستشهاد بمثل موثّقة ابن أبي حمزة; بأنّ غاية ما يستفاد منها أنّ العلم بالميتة
قد اُخذ في موضوع الحكم بالنجاسة، وحرمة الأكل وغيرهما من الأحكام، إلاّ أنّه علم طريقيّ قد اُخذ في الموضوع منجّزاً للأحكام، لا موضوعاً لها، نظير أخذ التبيّن في موضوع وجوب الصوم في قوله ـ تعالى ـ : ( كُلُوا ْ وَاشْرَبُوا ْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الاَْبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاَْسْوَدِ
- (1) الكافي 6: 297 ح2، المحاسن 2: 239 ب48 ح1737، وعنهما وسائل الشيعة 3: 493، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح11، وج24: 90، كتاب الصيد والذبائح، أبواب الذبح ب38 ح2، وج25: 468، كتاب اللقطة ب23 ح1.
- وفي البحار الأنوار 65: 139 ـ 140، عنهما وعن نوادر الراوندي: 219 ح443، باختلاف يسير، وفي ج104: 249 و 251 ح9 و 15، عن المحاسن والنوادر.
- ورواه في تهذيب الأحكام 9: 99 ح432 عن محمد بن يعقوب.
( صفحه 154 )
مِنَ الْفَجْرِ )(1). والاستصحاب بأدلّة اعتباره صالح لأن يقوم مقام العلم الطريقي، كالبيّنة والأمارات(2).
ولا يخفى أنّه لا محيص عن الاعتراف بالموضوعيّة فيما إذا اُخذ العلم في ظاهر الدليل قيداً للموضوع ودخيلا فيه، ولا مجال لدعوى كونه علماً طريقيّاً لا مدخليّة له في الموضوع، بحيث يكون ذكره كعدمه، غاية الأمر أنّ
العلم المأخوذ في الموضوع تارة: يؤخذ فيه بما أنّه صفة خاصّة من الصفات النفسانيّة، واُخرى: بما أنّه طريق إلى الواقع وكاشف عنه، والفرق بين الصورتين إنّما هو في قيام البيّنة والاستصحاب ونحوهما مقامه في الصورة الثانية، وعدمه في الصورة الاُولى، والمقام إنّما هو من قبيل الصورة الثانية.
وإن شئت قلت: إنّ العلم المذكور في موضوعات الأحكام بما أنّه طريق إلى الواقع وكاشف عنه، لا يكون المراد به هو العلم الوجداني، بل الحجّة الشرعيّة وذكر العلم إنّما هو بعنوان المثال. وأمّا التبيّن في آية الصوم، فقد مرّ البحث(3) فيه، وأنّه يظهر من المحقّق الهمداني (قدس سره) ومن الماتن ـ دام ظلّه العالي ـ أنّه هو الفجر الواقعي، لا أنّ الفجر شيء، والتبيّن شيء آخر.
نعم، يكون العلم أمارة لهذا التبيّن النفس الأمري، وقد تقدّم(4) منّا ما يتعلّق بهذا الكلام، فراجع.
هذا، مع أنّ استشكاله لا يجري في مثل موثّقة سماعة; لأنّه قد حكم فيها
- (1) سورة البقرة 2: 187.
- (2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 2: 449.
- (3 ، 4) في ج1: 239 ـ 240.
( صفحه 155 )
بنفي البأس ما لم يعلم أنّه ميتة; ضرورة أنّه على التقدير الذي أفاده لا يبقى مورد للحكم بعدم البأس; فإنّ حمله على صورة العلم بوقوع التذكية لا يناسب السؤال الظاهر في مورد الشكّ، خصوصاً مع تفسير «الكيمخت» في موثّقة ابن أبي حمزة بما يرجع إلى أنّه مشكوك; لعدم العلم بكونه ذكيّاً أو ميتة.
ولا يجري هذا الإشكال بناءً على ما ذكرنا; لعدم جريان الاستصحاب في مورد الشكّ، إمّا لكون الميتة أمراً وجوديّاً لا يثبت به، وإمّا لعدم جريان استصحاب عدم التذكية في نفسه; لما عرفت(1).
والذي ينبغي أن يقال في جواب صاحب المدارك أوّلا: إنّه كما أنّ العلم بالميتة قد اُخذ موضوعاً للحكم بالنجاسة وعدم جواز الصلاة فيه، كذلك العلم بالمذكّى قد اُخذ في موضوع الحكم بجواز الصلاة فيه; لقوله (عليه السلام) في موثّقة ابن بكير: فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شيء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ قد ذكّاه الذبح(2).
ومقتضاه عدم جواز الصلاة مع الشكّ في التذكية، فيعارض مع الروايات المتقدّمة ولا ترجيح لها عليه.
وثانياً: أنّه لا يبعد دعوى كون مورد السؤال فيها هو ما يتهيّؤ من سوق المسلمين ويشترى منه; لأنّ مورد ابتلائهم في تلك الأعصار هو المأخوذ من سوق المسلمين; لأنّ المجلوب من بلاد الكفّار ـ الذي هو مورد الابتلاء في
- (1) في ص150 ـ 151.
- (2) تأتي بتمامها في ص175 ـ 176.
( صفحه 156 )
هذه الأعصار ـ لم يكن محلاًّ لحاجتهم وابتلائهم في زمان السؤال، ومنشأ الشكّ لهم إمّا اختلاط أهل الذمّة بالمسلمين في السوق، أو غلبة العامّة في أسواقهم المستحلّين لذبائح أهل الكتاب، والقائلين بطهارة الجلد بالدباغ، أو عدم المبالاة في بعض من القصّابين والبائعين.
وعليه: فهذه الروايات لا إطلاق لها تشمل صورة عدم وجود أمارة شرعيّة على تحقّق التذكية.
وثالثاً: أنّه على تقدير الإطلاق لابدّ من تقييد هذه الروايات بما ورد ممّا يدلّ على أنّ المشكوك إذا اُخذ من سوق المسلمين يجوز التصرّف والصلاة فيه، وهي كثيرة:
منها: صحيحة فضيل، وزرارة، ومحمد بن مسلم أنّهم سألوا أبا جعفر (عليه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدرى ما صنع القصّابون؟ فقال: كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين، ولا تسأل عنه(1).
والظاهر أنّ المراد من سوق المسلمين هو السوق الذي كان أكثر أهله مسلماً وإن كان منعقداً في بلد الكفر، لا السوق المنعقد في البلد الذي يكون تحت سلطنة الإسلام وحكومة المسلمين ولو كان جميع أهله
أو أكثره مشركاً.
وأيضاً الظاهر أنّ اعتبار السوق إنّما هو بالنسبة إلى من كان مجهول الحال، ولا يعلم أنّه مسلم أو كافر; فإنّه يبنى على إسلامه لمكان غلبة المسلمين فيه،
- (1) الكافي 6: 337 ح2، الفقيه 3: 211 ح976، تهذيب الأحكام 9: 72 ح306 و 307، وعنها وسائل الشيعة 24: 70، كتاب الصيد والذبائح، أبواب الذبائح ب29 ح1.
( صفحه 157 )
ويكون إسلامه أمارة على وقوع التذكية الشرعيّة على الحيوان، وإلاّ فلو علم بكفر البائع والذابح، أو بكفر الأوّل فقط مع الشكّ في كفر الثاني، فلا يؤثّر في حلّية اللحم المشترى منه كون أكثر أهل السوق مسلماً.
وعليه: فيرجع اعتبار السوق إلى اعتبار يد المسلم، غاية الأمر أنّه لا فرق بين ما إذا اُحرز إسلامه بالقطع، أو بني عليه للغلبة ونحوها.
ومنها: صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الخفاف التي تباع في السوق؟ فقال: اشتر وصلِّ فيها حتى تعلم أنّه ميتة بعينه(1).
والظاهر أنّ السوق إشارة إلى المعهود; وهو سوق المدينة، الذي كان سوق المسلمين.
ومنها: صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فرا لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة، أيصلّي فيها؟ فقال: نعم، ليس عليكم المسألة، إنّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم، إنّ الدين أوسع من ذلك(2).
ومنها: صحيحته الاُخرى عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخفّ لا يدري أذكيّ هو أم لا، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري، أيصلّي فيه؟ قال: نعم، أنا أشتري الخفّ من السوق ويصنع لي
- (1) تهذيب الأحكام 2: 234 ح920، الكافي 3: 403 ح28، وعنهما وسائل الشيعة 3: 490، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح2، وج4: 427، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب38 ح2.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 368 ح1529، الفقيه 1: 167 ح787، وعنهما وسائل الشيعة 3: 491، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح3، وج4: 456، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب55 ح1.