( صفحه 95 )
على الآخر(1). وحكي غير ذلك أيضاً(2).
أقول: التحقيق يقتضي التكلّم في مقامين:
المقام الأوّل: فيما يستفاد من النصوص الواردة في الساتر، والظاهر أنّ الروايات المتقدّمة(3) المشتملة على الثوب والقميص والمقنعة والخمار ونحوها،
وإن كان مقتضى الجمود على ما تحت عبارتها عدم كفاية التستّر بغير هذه العناوين الواقعة فيها، إلاّ أنّ الظاهر بنظر العرف كون خصوصيّة هذه العناوين غير دخيلة في الحكم، ولذا لا يستفاد منها عرفاً عدم جواز التستّر بمثل الجلد ممّا لا ينطبق عليه عنوان الثوب والقميص.
فالظاهر أنّ المراد من العناوين المذكورة فيها كلّ ما يمكن أن يتّصف بعنوان الساتريّة، فلا فرق بين الثوب والقطن والصوف غير المنسوجين، بل الورق والحشيش; لتحقّق هذا العنوان في جميعها.
نعم، لا يستفاد منها الاكتفاء بمثل الطين; لعدم كونه ساتراً عرفاً، ولا يصدق عنوان الواجد للساتر على واجده، والاكتفاء به في الستر الواجب النفسي على فرضه إنّما هو لأنّ الملاك فيه كما عرفت(4) هو مجرّد مستوريّة العورة; لا وجود الساتر لها، ولذا يتحقّق بمثل الظلمة، والولوج في الماء، والدخول في الحفيرة. وأمّا في المقام، فالمعتبر وجود الساتر على ما تقتضيه
- (1) جامع المقاصد 2: 77 و 99 ـ 100.
- (2) ذكرى الشيعة 3: 17 ـ 18، جامع المقاصد 2: 100، روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 578 ـ 579، مفتاح الكرامة 6: 48 ـ 49.
- (3) في ص61 و 66 ـ 68.
- (4) في ص8 و 14.
( صفحه 96 )
الروايات، والطين لا يكون ساتراً عرفاً.
فالإنصاف أنّ مفاد هذه الطائفة من النصوص جواز الاكتفاء بكلّ ما يصدق عليه عنوان الساتر، ولكن مع ذلك لا دلالة لها على جواز الانتقال إلى غير الثوب مع التمكّن منه; لعدم ثبوت الإطلاق لها; لأنّها في مقام بيان كفاية الثوب الواحد للرجل والثوبين للمرأة، فمحطّ النظر فيها عدم لزوم التعدّد على الرجل، والزائد على الاثنين على المرأة، ولا تكون في مقام البيان من جهة أنواع الساتر حتى يستدلّ بإطلاقها على عدم الترتيب، فهي من هذه الجهة مجملة.
وأمّا صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل قطع عليه أو غرق متاعه فبقي عرياناً وحضرت الصلاة كيف يصلّي؟ قال: إن أصاب حشيشاً يستر به عورته أتمّ صلاته بالركوع والسجود، وإن لم يصب شيئاً يستر به عورته أومأ وهو قائم(1).
فقد استدلّ بها(2) على ثبوت الترتيب بين أنواع الساتر، وأنّ الاكتفاء بالحشيش إنّما هو مع تعذّر الثوب وفقده، ولكنّ الظاهر عدم تماميّة الاستدلال; لأنّ تعذّر الثوب إنّما ذكر في مفروض السؤال، ولم يقع قيداً لجواز التستّر بالحشيش في كلام الإمام (عليه السلام) حتّى يستفاد منه الترتيب.
ويؤيّده أنّه ليس المراد من الحشيش خصوص عنوانه، بل كما يشهد به قوله (عليه السلام) : «وإن لم يصب شيئاً يستر به عورته» يكون المراد به كلّ شيء
- (1) تقدّمت في ص61.
- (2) راجع روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 550، ومدارك الأحكام 3: 192، والحدائق الناضرة 7: 36، ومفتاح الكرامة 6: 50.
( صفحه 97 )
يكون ساتراً للعورة، فيؤيّد عدم القيديّة، خصوصاً بعدما عرفت من إلغاء العرف خصوصيّة الثوبيّة، ولكن مع ذلك لا دلالة للرواية على عدم الترتيب، بل تكون أيضاً من هذه الجهة مجملة.
فقد ظهر أنّ الأدلّة اللفظيّة قاصرة الدلالة على الترتيب نفياً وإثباتاً، فتصل النوبة إلى الاُصول العمليّة.
فنقول: يمكن أن يقال بأنّ المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير; نظراً إلى أنّ الأمر دائر بين تعيّن الثوب ونحوه، والتخيير بينه، وبين غيره من القطن والصوف غير المنسوجين والحشيش والورق، والأصل الجاري فيه على ما هو المشهور(1) هي أصالة الاحتياط(2).
ولكنّ الظاهر عدم تماميّة ذلك في مثل الموارد المذكورة; لأنّ الشكّ فيها ليس في أصل جواز التستّر بمادّتها; ضرورة أنّه لا يشكّ في جواز التستّر بالقطن والصوف بعد كون المنسوج منهما منطبقاً عليه عنوان الثوب، فالشكّ
فيها إنّما هو في اعتبار المنسوجيّة وعدمه بعد الفراغ عن كفاية المادّة في الساتريّة.
ومن الواضح: أنّه شكّ في أمر زائد، والمرجع فيه أصالة البراءة الجارية في موارد الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة، وهكذا الحشيش والورق; فإنّه لا يشكّ في كفاية المنسوج منهما، والشكّ إنّما هو في اعتبار المنسوجيّة، والأصل البراءة.
وأمّا في مثل الطين، فالظاهر تماميّة القول المذكور; لأنّ الشكّ إنّما هو في
- (1) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 357 ـ 358، فوائد الاُصول 3: 424 ـ 434.
- (2) مستمسك العروة الوثقى 5: 276.
( صفحه 98 )
أصل الاكتفاء بالمادّة، فالشكّ فيه إنّما هو من قبيل الشكّ بين المعيّن والمخيّر فيه، والأصل فيه هي أصالة الاحتياط.
هذا بالإضافة إلى حال الاختيار.
وأمّا في حال الاضطرار والانحصار بالطين ونحوه، فمع قطع النظر عن النصوص(1) الواردة في صلاة العاري، يكون مقتضى أصالة البراءة عدم وجوب التستّر به لأجل الصلاة; للشكّ في اعتبار التستّر به في هذا الحال مع عدم كونه كافياً في حال الاختيار. وعليه: فتجب عليه صلاة العاري.
نعم، حيث إنّه وقع التفصيل في نصوص صلاة العاري بين صورة الأمن من المطّلع وغيرها، بالحكم بوجوب الصلاة قائماً في الاُولى، دون الثانية، ولا يبعد دعوى توسعة دائرة الأمن، وعدم اختصاصها بما إذا لم يكن هناك ناظر محترم، كما إذا صلّى في بيت وحده وكان بابه مسدوداً، بل شمولها لمثل الطلي بالطين الموجب لتحقّق الأمن وإن كان هناك ناظر.
فإن كان حكم العاري في هذه الصورة وجوب إتمام الركوع والسجود، فاللاّزم حينئذ الطلي بالطين; للعلم التفصيلي بوجوبه; إمّا لأنّه ستر صلاتيّ; وإمّا لأنّه مقدّمة لرعاية القيام بلحاظ تحقّق الأمن معه.
وإن قلنا بأنّ حكمه في هذه الصورة الإيماء بالركوع والسجود، كما هو مفاد مثل صحيحة علي بن جعفر (عليه السلام) المتقدّمة(2)، فاللاّزم عليه حينئذ الجمع بين الصلاة مع إتمام الركوع والسجود، وبينها مع الإيماء لهما; للعلم الإجمالي
- (1) وسائل الشيعة 4: 448 ـ 450، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب50.
- (2) في ص61 و 96.
( صفحه 99 )
بوجوب إحدى الكيفيّتين عليه; لأنّه على تقدير كونه ساتراً صلاتيّاً في حال الاضطرار يجب عليه بالكيفيّة المتعارفة، وعلى تقدير عدم كونه ساتراً ولو في هذا الحال، وكون المكلّف عارياً، يجب عليه صلاة العاري، فاللاّزم الجمع بين الكيفيّتين.
ولكن ربما يقال بانحلال العلم الإجمالي; نظراً إلى أنّ موضوع صلاة العاري إمّا عدم وجود الساتر الشرعي، وإمّا عدم ساتريّة الموجود شرعاً، وكلّ منهما يمكن إثباته بالأصل، وإذا تحقّق موضوع صلاة العاري ولو بالأصل ينحلّ العلم الإجمالي; لما تقرّر في محلّه(1) من أنّ جريان الأصل المثبت للتكليف في أحد أطراف العلم الإجمالي يوجب انحلاله إلى العلم التفصيلي بثبوت التكليف في ذلك الطرف ولو ظاهراً، فيرجع في الطرف الآخر إلى أصالة البراءة عن التكليف.
وذلك كما إذا كان أحد الماءين اللذين وقع فيهما النجاسة إجمالا
مستصحب النجاسة; للعلم التفصيلي بنجاسته سابقاً، وحينئذ جريان الاستصحاب المثبت للتكليف فيه يوجب الانحلال، فيجري في الطرف الآخر أصالة الطهارة(2).
ويدفع هذا القول ـ بعد وضوح أنّ موضوع صلاة العاري هو عدم وجود الساتر; لأنّ المراد من العاري من لا يكون له ساتر، كما هو معناه عند العرف ـ : أنّ استصحاب عدم وجود الساتر ممّا لا مجال لجريانه; لأنّ
- (1) حقائق الاُصول 2: 243 ـ 251.
- (2) مستمسك العروة الوثقى 5: 277.