( صفحه 9 )
المتّفق عليه بين المسلمين(1) والمشهور بين العامّة وجوب التستّر من السرّة إلى الركبتين(2) ويستحبّ ذلك عند الخاصّة(3).
ويدلّ على وجوب ستر العورة قوله ـ تعالى ـ : ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا ْ مِنْ أَبْصَـرِهِمْ وَ يَحْفَظُوا ْ فُرُوجَهُمْ ذَ لِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ م بِمَا يَصْنَعُونَ )(4). ومفاد الآية مع قطع النظر عمّا ورد في تفسيرها من الروايات: أنّه يجب غضّ البصر وحفظ الفرج، والمراد من الغضّ من الشيء هو النقص عنه; لأنّ الغضّ هو النقصان، ومعنى الغضّ من البصر هو التقليل في النظر، ومراعاة عدمه في بعض الموارد.
وأمّا احتمال كون كلمة «من» في الآية زائدة فغير صحيح، لا في خصوص هذه الآية، بل في جميع الموارد، إلاّ فيما كان هناك ضرورة شعريّة; ضرورة أنّه لا وجه لذكر كلمة زائدة لا يترتّب عليها فائدة ولو التأكيد، فاحتمال الزيادة لا مجال له بوجه، وربما يحتمل أن تكون كلمة «من» لابتداء الغاية; نظراً إلى أنّ الرؤية والإبصار شروع ومقدّمة للأعمال المترتّبة عليه، التي لا ينبغي صدورها لقبحها وشناعتها.
ويؤيّد هذا الاحتمال ما رواه علي بن الحسين المرتضى في رسالة المحكم
- (1) المعتبر 2: 99، منتهى المطلب 4: 265، تحرير الأحكام 1: 202، الرقم 650، ذكرى الشيعة 3: 6 ـ 9، جامع المقاصد 2: 92، كشف اللثام 3: 227 ـ 230، مفتاح الكرامة 6: 3، المجموع 3: 168، بداية المجتهد 1: 116.
- (2) الاُمّ 1: 89 ، المجموع 3: 171، بداية المجتهد 1: 117، المغني لابن قدامة 1: 615 ـ 616، الخلاف 1: 393 مسألة 144، وص398 مسألة 149.
- (3) الخلاف 1: 398 مسألة 149، غنية النزوع: 65، الوسيلة: 89 ، قواعد الأحكام 1: 256، كشف اللثام 3: 231.
- (4) سورة النور 24: 30.
( صفحه 10 )
والمتشابه نقلا من تفسير النعماني بسنده الآتي عن علي (عليه السلام) في قوله ـ عزّ وجلَّ ـ : ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا ْ مِنْ أَبْصَـرِهِمْ وَ يَحْفَظُوا ْ فُرُوجَهُمْ ذَ لِكَ أَزْكَى لَهُمْ )، معناه: لا ينظر أحدكم إلى فرج أخيه المؤمن يمكِّنه من النظر إلى فرجه، ثمّ قال: ( قُل لِّلْمُؤْمِنَـتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـرِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ )(1); أي ممّن يلحقهنّ النظر، كما جاء في حفظ الفروج، فالنظر سبب إيقاع الفعل من الزنا وغيره(2).
ولكنّ الظاهر أنّ كلمة «من» في الآية للتبعيض; بمعنى كون مدلولها إيجاب غضّ بعض الأبصار، الظاهر في ترك النظر إلى بعض الاُمور، ويؤيّده كلمة «الغضّ»، الظاهرة في النقصان كما عرفت، ولا يبعد دعوى كون قوله
ـ تعالى ـ : ( وَ يَحْفَظُوا ْ فُرُوجَهُمْ ) قرينة على أنّ المراد من البعض الذي يجب ترك النظر إليه، هو فروج الغير.
كما أنّ الإبهام في هذا القول من جهة عدم ظهور كون المراد حفظ الفرج من الزنا، أو من نظر الغير، يرتفع بالجملة الاُولى من الآية الشريفة، ويصير ظاهراً بملاحظتها في كون المراد هو الحفظ من النظر، فإجمال كلّ من الجملتين الشريفتين يرتفع بالاُخرى.
ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى ظهور الآية فيه في نفسها، كما عرفت نفي البعد عنه ـ الرواية المتقدّمة، ويؤيّد ما ذكرنا ما ورد في تفسير الآية من الرواية
- (1) سورة النور 24: 31.
- (2) رسالة المحكم والمتشابه: 122، وعنه وسائل الشيعة 1: 300، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة ب1 ح5.
( صفحه 11 )
الاُخرى، الدالّة على أنّ كلّ ما ورد في القرآن من حفظ الفرج، فالمراد منه هو حفظه من الزنا إلاّ هذه الآية; وهي:
مرسلة الصدوق المعتبرة قال: وسئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله ـ عزّ وجلّ ـ : ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا ْ مِنْ أَبْصَـرِهِمْ وَ يَحْفَظُوا ْ فُرُوجَهُمْ ذَ لِكَ أَزْكَى لَهُمْ )، فقال: كلّ ما كان في كتاب الله من ذكر حفظ الفرج فهو من الزنا إلاّ في هذا الموضع; فإنّه للحفظ من أن ينظر إليه(1).
فإنّ الظاهر أنّ هذا التفسير ليس تفسيراً تعبّدياً غير ملائم لما هو ظاهر الآية بعد التأمّل، بل بيان للظاهر بالنحو الذي ذكرنا من ارتفاع إبهام حفظ الفرج بالجملة الشريفة الاُولى، وإذا كانت الجملة الثانية يرتفع إبهامها بالجملة الاُولى، فلِمَ لا يرتفع إبهام الجملة الاُولى بالثانية؟
فالإنصاف ظهور الآية فيما ذكرنا، كما دلّت عليه رواية النعماني، ولا يكون مدلولها أمراً تعبّدياً وتفسيراً على خلاف ما تدلّ عليه الآية بظاهرها.
وقد ذكر بعض الأعلام أنّ مفاد الآية وجوب حفظ الفرج عن كلّ ما يترقّب منه من الاستلذاذات; إذ الاستلذاذ به قد يكون بلمسه،
وقد يكون بالنظر إليه، وقد يكون بغير ذلك من الوجوه على ما تقتضيه القوّة الشهويّة والطبع البشري، وذلك لأنّ حفظ الفرج في تلك الآيات الكريمة غير مقيّد بجهة دون جهة(2).
ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما ذكرنا من أنّ مقتضى الارتباط بين الجملتين في
- (1) الفقيه 1: 63 ح235، وعنه وسائل الشيعة 1: 300، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة ب1 ح3.
- (2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 4: 316.
( صفحه 12 )
الآية الشريفة أن يكون إبهام كلّ واحدة منهما مرفوعاً بالآخر، ونتيجته أن يكون مفاد الآية ناظراً إلى حرمة النظر إلى عورة الغير، ووجوب حفظها عن نظر الغير ـ : أنّ ذلك لا يكفي في إثبات المدّعى; لأنّه عبارة عن حرمة النظر إلى عورة الغير مطلقاً; سواء كان مع التلذّذ أو بدونه، والآية على هذا التفسير تختصّ بما إذا كان مع التلذّذ، كما لا يخفى.
هذا بالنظر إلى الكتاب.
وأمّا الروايات الواردة في هذا الحكم فكثيرة:
منها: ما رواه الصدوق بإسناده عن شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق، عن آبائه (عليهم السلام) ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) في حديث المناهي قال: إذا اغتسل أحدكم في فضاء من الأرض فليحاذر على عورته.
وقال: لا يدخلنّ أحدكم الحمّام إلاّ بمئزر، ونهى أن ينظر الرجل إلى عورة أخيه المسلم.
وقال: من تأمّل عورة أخيه المسلم لعنه سبعون ألف ملك.
ونهى المرأة أن تنظر إلى عورة المرأة، وقال: من نظر إلى عورة أخيه المسلم، أو عورة غير أهله متعمّداً أدخله الله مع المنافقين، الذين كانوا يبحثون عن عورات الناس، ولم يخرج من الدنيا حتى يفضحه الله، إلاّ أن يتوب(1).
ولا يخفى أنّ النهي عن نظر الرجل إلى عورة أخيه المسلم ـ كما في جملة من
- (1) الفقيه 4: 2، 4، 5 و 6 ـ 7، وعنه وسائل الشيعة 1: 299، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة ب1 ح2.
( صفحه 13 )
الأخبار(1) ـ إن كان المراد به هو النهي عن غيبة المؤمن، وإذاعة سرّه، وكشف عيوبه، كما ورد تفسيره بذلك في جملة من الروايات(2)، فلا يرتبط بالمقام، وإن كان المراد هو النهي عن النظر إلى العورة المصطلحة، فهو ناظر إلى المقام، كما أنّه لو كان المراد منه الأعمّ على تقدير إمكانه يجدي لنا أيضاً، وهنا رواية ظاهرة في أنّ المراد به ما نبحث عنه هنا، وإن كانت الرواية المذكورة أيضاً مشعرة بل ظاهرة في ذلك، فتدبّر.
وتلك الرواية ما رواه حنان بن سدير، عن أبيه قال: دخلت أنا وأبي وجدّي وعمّي حمّاماً بالمدينة، فإذا رجل في بيت المسلخ، فقال لنا: ممّن القوم؟ ـ إلى أن قال: ـ ما يمنعكم من الاُزر؟! فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: عورة
المؤمن على المؤمن حرام. قال: فبعث أبي (عمّى خ ل) إلى كرباسة، فشقّها بأربعة، ثمّ أخذ كلّ واحد منّا واحداً ثمّ دخلنا فيها ـ إلى أن قال ـ : سألنا عن الرجل؟ فإذا هو عليّ بن الحسين (عليهما السلام) (3).
ومنها: الروايات الكثيرة الواردة في آداب الحمّام، الدالّة على وجوب الدخول فيه مع المئزر، أو على النهي عن دخوله إلاّ بمئزر، أو على أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلايدخل الحمّام إلاّ بمئزر، أو على غير ذلك من التعبيرات، وقد جمعها في الوسائل في الباب التاسع من أبواب آداب الحمّام.
- (1) وسائل الشيعة 1: 99 ـ 300، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة ب2، وج2: 33، أبواب آداب الحمّام ب3.
- (2) وسائل الشيعة 2: 37 ـ 38، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام ب8 .
- (3) الكافي 6: 497 ح8 ، الفقيه 1: 66 ح252، وعنهما وسائل الشيعة 2: 39، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام ب9 ح4.