( صفحه 485 )
في الجملة.
ثمّ إنّ القول بالوجوب في الجماعة يمكن أن يكون المراد به هو الوجوب الشرطي بالنسبة إلى الجماعة، بحيث كانا من شرائط صحّتها، ويمكن أن يكون المراد به هو اشتراطهما في ترتّب فضيلة الجماعة وثوابها، ويمكن أن يكون المراد به هو اشتراطهما في أصل صحّة الصلاة في الجماعة، بحيث يكون الإخلال بهما أو بأحدهما موجباً لبطلان أصل الصلاة فيها، فلا يجدي في صحّتها رعاية وظائف المنفرد، وعدم الإخلال بشيء منها، بخلاف الاحتمال الأوّل; فإنّ لازمه صحّة الصلاة مع رعاية تلك الوظائف، كما هو كذلك بالإضافة إلى سائر الشروط المعتبرة في الجماعة.
كما أنّه على تقدير القول بالوجوب مطلقاً ـ من دون اختصاص بالجماعة ـ يجري احتمال كون الوجوب نفسيّاً، بحيث كان ظرف الإتيان بهما قبل الصلاة من دون أن يكونا شرطين في صحّتها، وإن كان هذا الاحتمال بعيداً.
والتحقيق هو عدم الوجوب وفاقاً للمشهور، ولابدّ أوّلا من ملاحظة ما ورد من الكتاب العزيز في ذلك، فنقول:
قد ورد ذكر الأذان في موضعين منه:
أحدهما: قوله ـ تعالى ـ : ( يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ْ لاَ تَتَّخِذُوا ْ الَّذِينَ اتَّخَذُوا ْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا ْ الْكِتَـبَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُوا ْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَ لِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ )(1).
- (1) سورة المائدة 5: 57 ـ 58.
( صفحه 486 )
ثانيهما: قوله ـ تعالى ـ : ( يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا ْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا ْ الْبَيْعَ ذَ لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )(1).
فإنّ المراد بالنداء إلى الصلاة في الآيتين هو الأذان; إذ لو كان المراد به غيره لنقل ذلك في كتب التواريخ والسير المعدّة لنقل جميع حالات النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمسلمين في زمانه، ومن المعلوم عدمه، فلا ينبغي التأمّل في أنّ المراد به هو الأذان لا شيء آخر.
والتعبير عنه بالنداء إلى الصلاة يشعر بل يدلّ على أنّه مجعول لدعوة الناس إلى إقامة الجماعة في المساجد; إذ النداء لغة عبارة عن الصوت البليغ الذي يسمعه جمع من الناس(2)، وهو لا يناسب الصلاة منفرداً، كما أنّ التعبير عنه بالنداء يدلّ على خروجه عن حقيقة الصلاة جزءاً وشرطاً; لأنّ النداء إلى الشيء يغاير ذلك الشيء.
والظاهر أنّ الإقامة أيضاً نداء، غاية الأمر أنّ الأذان نداء ودعوة للغائبين، والإقامة تنبيه للحاضرين المجتمعين في المسجد، نظراً إلى اشتغالهم نوعاً بذكر الاُمور الدنيويّة بعد حصول الاجتماع والحضور في المسجد، فربما لا يلتفتون إلى قيام الصلاة إلاّ بعد ركعة أو أزيد، والإقامة تنبيه لهم إلى قيامها.
ويؤيّد ذلك ما ورد في بعض الأخبار الآتية(3) من التعبير عن الأذان والإقامة معاً بالأذان، والظاهر أنّه ليس من باب التغليب، بل من جهة أنّ
- (1) سورة الجمعة 62: 9.
- (2) لسان العرب 6: 165، النهاية لابن الأثير 5: 37، مجمع البحرين 3: 1766.
- (3) في ص488 ـ 496.
( صفحه 487 )
الإقامة أيضاً أذان وإعلام، والفرق بين الإعلامين ما ذكرنا. وعليه: فكما يكون الأذان خارجاً عن حقيقة الصلاة، كذلك تكون الإقامة أيضاً خارجة عنها.
وبهذا يظهر عدم وجوب شيء منهما ـ لا بنحو الوجوب الاستقلالي، ولا بنحو الوجوب الشرطي ـ لأصل الصلاة أو للجماعة; لأنّ القول بالوجوب حينئذ مساوق للقول بوجوب الجماعة، مع أنّها فضيلة للصلاة إجماعاً، فكيف يكون النداء إليها بشيء من النداءين واجباً، فالوجوب الاستقلالي يدفعه الارتباط بينهما، وبين الصلاة; لكونهما نداءين إليها، والوجوب الشرطي للجماعة ينافيه المغايرة بين النداء إلى الشيء، وبين ذلك الشيء، والوجوب الشرطي لأصل الصلاة لا يجتمع مع ارتباطهما بصلاة الجماعة، والتعبير عنهما بالنداء، كما عرفت.
وأمّا استحبابهما في صلاة المنفرد، فالنكتة فيه ما ورد في الروايات الكثيرة المشتملة على التحريص والترغيب إلى فعلهما بالنسبة إلى المنفرد; من التعليل بأنّ الصلاة مع الأذان والإقامة سبب لائتمام صفّين من الملائكة به، ومع الإقامة فقط موجب لائتمام صفّ واحد، وفي بعضها: أنّ حدّ الصفّ ما بين المشرق والمغرب، وفي بعضها: توصيف الصفّ بأنّه لا يرى طرفاه(1).
وكيف كان، فالمصلحة الموجبة لمطلوبيّتهما في صلاة المنفرد، هي صيرورتها بهما أو بأحدهما جماعة، وبعدما كانت الجماعة فضيلة للصلاة لا واجبة، فلا وجه لوجوبهما، وإن شئت قلت: إنّهما في صلاة المنفرد أيضاً
- (1) وسائل الشيعة 5: 381 ـ 383، كتاب الصلاة، أبواب الأذان والإقامة ب4.
( صفحه 488 )
إيذان وإعلام، غاية الأمر أنّه إعلام للملائكة بالاجتماع والشركة في انعقاد الجماعة.
ثمّ إنّه ربما(1) يستدلّ على عدم الوجوب بأنّه لو كانا واجبين لزم أن يكون وجوبهما ضروريّاً، كوجوب أصل الصلاة; لاشتراكهما معها في عموم البلوى، فلو كانا واجبين يلزم أن لا يكون وجوبهما مشكوكاً مورداً للاختلاف بين المسلمين، بل اللاّزم وضوحه بحيث يعرفه الناس في زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله) .
وبالجملة: كثرة الابتلاء بهما ككثرة الابتلاء بالصلاة، وعدم التفات البعض، أو الكثير، أو الأكثر إلى فعلهما ـ كما ربما يستفاد من الأخبار الكثيرة الدالّة على التحريض والترغيب إلى فعلهما ـ تدلّ على عدم وجوبهما.
ويمكن المناقشة في ذلك بأنّ لازم هذا الكلام أن لا يكون شيء من أجزاء الصلاة وشرائطها والخصوصيّات المعتبرة فيها مشكوكاً أصلا، بحيث كان الشكّ فيها مساوقاً للحكم بعدم مدخليّتها في الصلاة بوجه، وذلك لما ذكره المستدلّ من عموميّة البلوى، مع أنّه ليس كذلك، بل الظاهر أنّ أصل وجوب الصلاة بنحو الإجمال أمر ضروريّ لا مجال للارتياب فيه. وأمّا الخصوصيّات المعتبرة التي لها دخل في كيفيّتها; فيمكن جريان الشكّ فيها، ولا يكون ملازماً لاستفادة عدم الوجوب أصلا.
ويدلّ على استحباب الأذان والإقامة أيضاً ما رواه عبيد بن زرارة، عن أبيه، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل نسى الأذان والإقامة حتّى دخل في
- (1) السرائر 1: 209، مصباح الفقيه 11: 227، نهاية التقرير 1: 532.
( صفحه 489 )
الصلاة؟ قال: فليمض في صلاته، فإنّما الأذان سنّة(1).
والمراد بالأذان في قوله (عليه السلام) : «إنّما الأذان سنّة» ليس خصوص الأذان المقابل للإقامة، وإلاّ لم يكن وجه لتعليل المضيّ في الصلاة ولو مع نسيان الإقامة، كما هو مورد السؤال في الرواية بكون الأذان سنّة، والمصحّح لهذا الاستعمال ما عرفت(2) من أنّ الإقامة أيضاً إيذان وتنبيه، غاية الأمر أنّها إعلام للقريب، والأذان إعلام للبعيد.
وتقريب دلالتها على عدم الوجوب، أنّ الظاهر أنّ المراد بالسنّة الواقعة في التعليل هو الاستحباب مقابل الفريضة بمعنى الوجوب; لأنّه ـ مضافاً إلى كونه الظاهر من «السنّة» ـ يكون الدليل عليه هو وقوعها في مقام التعليل لعدم الإعادة ووجوب المضيّ في الصلاة، وصلاحيّة السنّة بهذا المعنى لوقوعها تعليلا لذلك واضحة.
وأمّا احتمال أن يكون المراد بالسنّة في الرواية هو ما ثبت مطلوبيّته من قول النبيّ (صلى الله عليه وآله) أو فعله، فإن كان المراد به ما لم يكن فرضاً من الله تعالى، مأموراً به في الكتاب العزيز ـ وبعبارة اُخرى: ما لم يكن ثابتاً بالكتاب ـ فالأذان والإقامة وإن لم يكن شيء منهما مأموراً به في الكتاب العزيز، إلاّ أنّ أكثر الفروض والواجبات الشرعيّة تكون كذلك، ولا تصلح السنّة بهذا المعنى لأن تقع تعليلا لعدم قدح تركه; إذ ليس من خصوصيّات الثابت بغير
- (1) تهذيب الأحكام 2: 285 ح1139، الاستبصار 1: 304 ح1130، وعنهما وسائل الشيعة 5: 434، كتاب الصلاة، أبواب الأذان والإقامة ب29 ح1.
- (2) في ص486 ـ 487.