( صفحه 237 )
بالسواد والبياض، وبالطول والقصر، وغيرهما من المتضادّين.
وإلى أنّ التقيّد بالعدم الراجع إلى شرطيّة العدم غير معقول; فإنّ الشرطيّة من الأوصاف الوجوديّة المفتقرة إلى موصوف متحقّق، والعدم ليس بشيء حتّى يتصف بالشرطيّة، ويؤثّر في تأثير السبب والمقتضي ـ :
أنّه على تقدير إمكانه خلاف ظاهر الأدلّة الواردة في الصلاة في أجزاء غير المأكول; فإنّ ظاهرها ـ كما عرفت(1) في بعض الجهات المتقدّمة ـ ثبوت المانعيّة التي هي أيضاً أمر وجوديّ معروضها وجود المانع، ومرجعها إلى كونه حائلاً بين الطبيعة المأمور بها، وبين وجودها، ويمنع عن تحقّقها في الخارج، والتعبيرات التي يستفاد منها المانعيّة، بين ما ظاهره النهي عن الصلاة في جلد ما لا يؤكل لحمه، وبين ما ظاهره الحكم بالفساد في الصلاة في أجزائه، وبين ما ظاهره نفي الجواز الظاهر في الحكم الوضعيّ الراجع إلى الفساد.
أمّا ما يدلّ على النهي، فحكمه حكم النواهي الواردة في التكاليف النفسيّة، من جهة جريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة، فكما أنّ قوله: «لا تشرب الخمر» مع كونه حكماً واحداً; وهو الزجر عن وجودات الطبيعة ـ غاية الأمر له إطاعات متعدّدة وعصيانات متكثّرة ـ لا ينافيه جريان البراءة في الشبهة الموضوعيّة; لعدم تماميّة الحجّة المتوقّفة على ثبوت الكبرى والصغرى معاً، وليس المراد من البيان في القاعدة هو خصوص البيان الذي يكون من وظيفة المولى، بل الحجّة المتوقّفة على ما ذكر.
( صفحه 238 )
كذلك قوله (عليه السلام) : «لا تصلّ في جلد ما لا يؤكل لحمه»(1) زجر واحد عن وجودات الطبيعة، ويجري فيه جميع ما ذكر، والفرق إنّما هو في النفسيّة والغيريّة، وأنّ الزجر عن وجود الشرب إنّما هو لجهة في نفسه، وعن الصلاة في أجزاء غير المأكول إنّما هو لجهة فيها، كما لا يخفى، فلا فرق في جريان البراءة العقليّة بينهما أصلاً.
وأمّا ما يدلّ على الفساد، فحكمه حكم النهي، بل أظهر; لاحتمال كونه من القضايا الحقيقيّة الموجبة للانحلال إلى التكاليف المتعدّدة حسب تعدّد وجودات الموضوع. وعليه: فيصير جريان البراءة في مورد الشكّ أوضح; لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في حكم مستقلّ على ما هو المفروض.
ثمّ إنّه على تقدير تسليم كون المانعيّة منتزعة من تقييد المأمور به بعدم شيء، فهل تجري البراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة للمانع، أم لا؟ صريح المحقّق النائيني (قدس سره) الأوّل، حيث إنّه بعد بيان أنّ قيديّة العدم في المقام تتصوّر على وجوه ثلاثة:
أحدها: أن يكون القيد نعتاً عدميّاً مساوقاً لمحمول المعدولة.
ثانيها: أن يكون من باب سلب المحصّل، لكن بنحو يكون السلب الكلّي بوحدته الشاملة لمجموع وجودات الموضوع قيداً واحداً.
ثالثها: أن يكون من هذا الباب، لكن بنحو يكون منحلاًّ إلى عدم وجود كلّ فرد، وكان القيد آحاد ذلك العدم، قال ـ بعد استظهار الوجه الثالث من الأدلّة الواردة في الباب ـ ما ملخّصه:
( صفحه 239 )
إنّه أيّ فرق يعقل بين موضوعيّة الخمر لحرمة شربه، وبين موضوعيّة المانع لتقيّد الصلاة بعدم وقوعها فيه؟ فكما تجري البراءة في الأوّل على ما عرفت، لا ينبغي الإشكال في جريانها في الثاني(1).
وأورد عليه سيّدنا الاُستاذ (قدس سره) ـ بعد حمل الوجه الثاني على خلاف ظاهره، والدالّ على أنّ المانع هو مجموع وجودات الموضوع لا كلّ فرد منها، فيستلزم عدم تحقّق المانع في زمان أصلاً، وكذا صحّة الصلاة فيما إذا صلّى في بعض أفراده، وأنّ المراد منه هو كون نفس السلب الكلّي قيداً واحداً ـ بأنّ المستفاد من الأدلّة المانعة أنّ المطلوب للشارع هو عدم وقوع الصلاة في شيء من أجزاء غير المأكول، والعدم أمر واحد عند اعتبار العقل بخلاف الوجود; فإنّ الطبيعة توجد بوجود فرد مّا، ولا تنعدم إلاّ بعدم جميع الأفراد، فالقيد أمر واحد لابدّ من العلم بتحقّقه، وحصول اليقين بوجوده، فلا مجال لجريان البراءة في صورة الشكّ(2).
أقول: قد ذكرنا(3) أنّ الأعدام تتكثّر حسب تكثّر الوجودات، وأنّ كون القيد أمراً واحداً لا يقدح في جريان البراءة العقليّة أصلاً، مضافاً إلى ظهور بعض الروايات(4) في كون الحكم ثابتاً في المقام على نحو القضيّة الحقيقيّة، مع أنّ حمل الوجه الثاني في كلامه (قدس سره) على خلاف ظاهره لا وجه له بعد كونه في
- (1) رسالة الصلاة في المشكوك للنائيني: 268 ـ 272.
- (2) نهاية التقرير 1: 373 ـ 374.
- (3) في ص226 و 236.
- (4) تقدّمت في ص237.
( صفحه 240 )
مقام التصوير بحسب الثبوت، لا مقام الاستظهار من الأدلّة والإثبات، كما لا يخفى.
هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بجريان البراءة العقلية في المقام.
جريان البراءة الشرعيّة في المقام
من الأخبار الدالّة عليها حديث «الرفع»(1) المعروف، واشتهاره بين الأصحاب يغني عن التكلّم في سنده، مع أنّه ظاهراً من الصحاح، وتقريب الاستدلال به للمقام من وجوه:
الأوّل: ما احتمله الشيخ الأعظم (قدس سره) في الرسالة من أنّ قرينة السياق تقتضي أن يكون الموصول في قوله (صلى الله عليه وآله) : «رفع عن اُمّتي ما لا يعلمون» إشارة إلى خصوص الموضوعات الخارجيّة التي تعلّق الجهل بها بعناوينها التي
تكون بها متعلّقات للأحكام اللزوميّة الشرعيّة، فيختصّ بالشبهات الموضوعيّة، ولا يعمّ الشبهات الحكميّة، فكلّ موضوع كان عنوانه المتعلّق للحكم مجهولاً فهو مرفوع.
وإسناد الرفع إليه مع ظهور قوله (صلى الله عليه وآله) : «رفع عن اُمّتي» في الرفع التشريعي، وعدم معقوليّة إسناده إلى الموضوعات الخارجيّة، إنّما هو باعتبار الأثر المترتّب عليه، المرفوع في صورة الجهل(2).
- (1) تقدّم في ج1: 406، وفي هذا الجلد ص128.
- (2) فرائد الاُصول 2: 28.
( صفحه 241 )
وفي المقام نقول: مانعيّة هذا اللباس الذي لا يعلم كونه من أجزاء غير المأكول مرفوعة بلسان رفع موضوعها وهو اللباس، فتصحّ الصلاة فيه; لعدم كونه مانعاً ومبطلاً لها، وهذا من دون فرق بين أن نقول بانحلال المانعيّة المجعولة في المقام إلى مانعيّات متعدّدة حسب تعدّد أجزاء غير المأكول وأفراده، كما اختاره بعض الأعلام(1)، واستظهرناه من بعض أدلّة الباب على ما مرّ(2).
وبين أن نقول بعدم الانحلال بلحاظ كون بعض الروايات بصورة النهي(3); وهو تكليف واحد له إطاعات متعدّدة وعصيانات متكثّرة; من دون فرق بين أن يكون نفسيّاً أو غيريّاً; وذلك لأنّه على تقدير عدم الانحلال، يكون
مرجع رفع الموضوع الذي يكون عنوانه مجهولاً إلى رفع أثره، وعدم كونه عصياناً لذلك النهي، فتدبّر.
الثاني: تعميم الموصول لكلتا الشبهتين: الموضوعيّة والحكميّة; نظراً إلى أنّ الموصولات موضوعة للإشارة إلى جميع ما ثبتت له الصلة، فكلّ شيء كان مجهولاً بنفسه أو بعنوانه الموضوع للحكم، فهو مرفوع برفع نفسه أو رفع آثاره وأحكامه، فباعتبار شمول الموصول للشبهات الموضوعيّة يصحّ الاستدلال بالحديث; لرفع المانعيّة في المقام بالتقريب المتقدّم في الوجه الأوّل.
ومبنى هذا الوجه عدم كون وحدة السياق مقتضية للاختصاص
- (1) تقدّم تخريجه في ص222 ـ 224 و 238 ـ 239.
- (2) في ص236 ـ 237 و 239.
- (3) تقدّم في ص202 و 238.