( صفحه 29 )
( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ... ) ليس ناظراً إلى فرض وجود الأجنبي والعلم به، غاية الأمر أنّه نعلم من الخارج عدم تضيّق الحكم بنحو يعمّ وجوده وعدمه، ولهذا نقول: إنّه ناظر إلى صورة مظنّة وجود الناظر وإن لم نعلم به.
وعليه: فلا مانع من إظهار الوجه والكفّين في هذه الصورة. وأمّا قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك: ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ )، فالمفروض في مورده صورة وجود الناظر والعلم به. وعليه: فالإبداء المنهيّ عنه في هذه الصورة يكون خالياً عن الاستثناء، ويعمّ الباطنة والظاهرة معاً، فإبداء الوجه والكفّين في صورة وجود الناظر منهيّ عنه وإن كانتا من الزينة الظاهرة; لخلوّ هذه الجملة الشريفة من الاستثناء(1).
والظاهر أنّ الالتزام بما أفاده في بيان معنى الآية مشكل جدّاً، بل ظاهر الآية يأباه; لظهورها في اتّحاد معنى الجملتين وعدم اختلاف موردهما; والوجه في التكرار إنّما هو استثناء المحارم الذين لا يحرم للمرأة إبداء الزينة
غير الظاهرة لهم، وعدم استثناء الزينة الظاهرة في هذه الجملة إنّما هو للاتّكال على وضوحه بقرينة الجملة السابقة، مضافاً إلى أنّ الروايات أيضاً
تدلّ على أنّ الجملتين بمعنى واحد، وسيأتي(2) نقل بعضها.
وأمّا الجهة الرابعة، وهي: أنّ المراد من قوله ـ تعالى ـ : ( وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ) ماذا؟ ويجري فيه احتمالان:
الأوّل: أن يكون المراد ضرب الرجل على الأرض ليعلم ذلك.
- (1) لم نعثر على الكتاب.
- (2) في ص31 ـ 32.
( صفحه 30 )
الثاني: أن يكون المراد ضرب الرجل بعضه ببعض لهذه الغاية، وعلى أيّ تقدير، فقوله ـ تعالى ـ : ( لِيُعْلَمَ... ) قيد للمنهي لا للنهي، والمراد من ذلك كون متعلّق النهي هو الضرب لهذا الغرض، فمجرّد الضرب ـ ولو لغرض آخر وإن ترتّب عليه الاطّلاع على ما يخفين من زينتهنّ ـ لا يكون منهيّاً عنه; لأنّ الضرب للغرض المذكور مقدّمة لتحريك الرجال وجلب توجّههم إليهنّ، فيترتّب عليه المفاسد.
ومن ذلك ظهر أنّ المراد بالزينة في هذه الجملة هي الزينة الزائدة على الخلقة كالخلخال; لأنّها هي التي يكون الضرب بالأرجل موجباً للاطّلاع عليها والعلم بها. وأمّا زينة الخلقة، فلا يتوقّف ظهورها على ذلك.
وعليه: فيتحقّق هنا شاهد آخر على أنّ المراد بالزينة الظاهرة في الاستثناء الواقع في صدر الآية هي الزينة الخلقيّة، التي تكون على قسمين: ظاهرة، وباطنة; لأنّ الزينة الزائدة التي وقع التعرّض لها في الذيل يكون إنقسامها بالإخفاء والإظهار، لا بالخفاء والظهور.
فانقدح الفرق بين الصدر الذي وقع الاستعمال فيه بنحو الفعل اللاّزم، والذيل الذي وقع الاستعمال فيه بنحو الفعل المتعدّي، وأنّ الأوّل ناظر إلى الزينة الذاتيّة الخلقيّة، والثاني ناظر إلى الزينة العرضيّة الزائدة، وبذلك يظهر البحث في الجهة الخامسة من الجهات المتقدّمة.
هذا كلّه بالنظر إلى نفس مفاد الآية مع قطع النظر عن الروايات الواردة في تفسيرها.
وأمّا بلحاظ الروايات، ففي تفسير نور الثقلين، عن الكافي، عن زرارة،
( صفحه 31 )
عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله ـ تبارك وتعالى ـ : ( إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال: الزينة الظاهرة: الكحل والخاتم(1).
وحيث إنّ النظر إلى الكحل والخاتم ملازم للنظر إلى العين واليد، ولا يمكن الانفكاك بينهما، فتلائم الرواية مع ما ذكرنا من أنّ المراد من الزينة الظاهرة هي الوجه والكفّان.
وفيه أيضاً عنه، عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله ـ تعالى ـ : ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ) قال: الخاتم والمسكة; وهي القُلب(2).
والقلب بالضمّ: السوار، والظاهر منها أيضاً موضعهما، كما لا يخفى.
وفيه أيضاً عن تفسير جوامع الجامع: فالظاهرة لا يجب سترها; وهي الثياب ـ إلى قوله: ـ وعنهم (عليهم السلام) : الكفّان والأصابع(3).
وفيه أيضاً عن تفسير مجمع البيان: وفي تفسير عليّ بن إبراهيم: الكفّان والأصابع(4).
وفيه أيضاً عن تفسير علي بن إبراهيم: وفي رواية أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا )، فهي الثياب
- (1) تفسير نور الثقلين 3: 592 ح115، عن الكافي 5: 521 ح3، وكذا روى عنه في وسائل الشيعة 20: 201، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب109 ح3.
- (2) تفسير نور الثقلين 3: 592 ح116، عن الكافي 5: 521 ح4، وكذا روى عنه في وسائل الشيعة 20: 201، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب109 ح4.
- (3) تفسير نور الثقلين 3: 592 ح117، عن تفسير جوامع الجامع 3: 103.
- (4) تفسير نور الثقلين 3: 592 ح118، عن مجمع البيان 7: 216، ولم نعثر عليه في تفسير القميّ.
( صفحه 32 )
والكحل والخاتم وخضاب الكفّ والسوار، والزينة ثلاث: زينة للناس، وزينة للمحرم، وزينة للزوج، فأمّا زينة الناس فقد ذكرناها. وأمّا زينة المحرم، فوضع القلادة فما فوقها، والدملج وما دونه، والخلخال وما أسفل منه. وأمّا زينة الزوج، فالجسد كلّه(1).
وهاهنا رواية صحيحة من حيث السند، ومعضلة من حيث الدلالة، رواها الفضيل قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الذراعين من المرأة، أهما من الزينة التي قال الله ـ تعالى ـ : ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ )؟ قال: نعم، وما دون الخمار من الزينة، وما دون السوارين(2).
ونفس السؤال في الرواية دليل على أنّ مفاد هذه الجملة لا يغاير مفاد قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك: ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ); يعني أنّ هذه
الجملة أيضاً مشتملة على الاستثناء، وعدم التعرّض له إنّما هو للاتّكال على الجملة السابقة، فيدلّ على خلاف ما التزم به الفاضل الهندي المتقدّم(3) من الفرق بين الجملتين.
كما أنّ نفس السؤال عن أنّ الذراعين هل تكونان من الزينة؟ تدلّ على أنّ المراد بالزينة ليس الأمر الزائد على الخلقة، بل نفس أعضاء المرأة، ومن المعلوم وقوع التقرير بالإضافة إلى الأمرين.
- (1) تفسير نور الثقلين 3: 592 ح119، عن تفسير القمّي 2: 101، وكذا روى عنه في مستدرك الوسائل 14: 275، كتاب النكاح، أبواب المقدّمات النكاح ب85 ح16703.
- (2) الكافي 5: 520 ح1، وعنه وسائل الشيعة 20: 200، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب109 ح1، وتفسير نور الثقلين 3: 592 ح120.
- (3) في ص28 ـ 29.
( صفحه 33 )
ثمّ إنّ هذه الصحيحة ممّا استدلّ به الطرفان; أي القائل باستثناء الوجه والكفّين، والقائل بعدمه; والوجه فيه: أنّه قد اختلف في معنى قوله (عليه السلام) : «وما دون الخمار من الزينة، وما دون السوارين»، فالمحكيّ عن المجلسي (قدس سره) في مرآة العقول، والفيض في الوافي، وصاحب الحدائق، والجزائري في قلائد الدّرر(1)، أنّها صحيحة دالّة على استثناء الوجه والكفّين، وأنّ المراد من قوله (عليه السلام) : «ما دون الخمار» هو ما تحت الخمار في مقابل ما فوق الخمار، ومعنى «ما دون الخمار» ما كان مستوراً بالخمار.
وأمّا قوله (عليه السلام) : «وما دون السوارين» فقالوا: إنّ معناه أنّ ما دونهما إلى المرفق من الزّينة المقصودة من الآية.
وقد يقال(2): إنّ المراد ممّا دون الخمار الوجه; لأنّ السائل وهو الفضيل لم يكن شاكّاً ولا جاهلا بأنّ ما تحت الخمار من الزينة; لوضوح كونه منها، وما يمكن أن يكون السائل جاهلا بحكمه هو الوجه; لاحتمال عدم وجوب ستره، مضافاً إلى أنّ كلمة «دون» بمعنى ما يكون أسفل من الشيء، والوجه إنّما وقع في موقع أسفل من الخمار وتحته ودونه، مع أنّ الزمخشري قال في «الكشاف»: إنّ كلمة «دون» بمعنى أدنى من الشيء قليلا(3)، وما يكون أدنى من الخمار قليلا إنّما هو الوجه.
ولو قلنا بأنّ معنى دون الشيء ما هو أدنى منه، الذي يعبّر عنه في
- (1) مرآة العقول 20: 340، الوافي 22: 817 ، ب124 ح2، الحدائق الناضرة 23: 55، قلائد الدّرر 3: 168.
- (2) المباني في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 32: 43.
- (3) الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل 1: 99، مع اختلاف يسير.