( صفحه 159 )
بهذا الظهور، بل صرّح بإضافة السوق إلى المسلمين وعلّق الحكم بجواز الأكل عليه.
وأمّا إطلاق «السوق» في سائر الروايات أو ترك الاستفصال، فمضافاً إلى ما عرفت من كونه إشارة إلى الأسواق المعهودة، يكون تقييده بسبب رواية الفضلاء متعيّناً، فالمستفاد من المجموع اعتبار سوق المسلمين وقد مرّ معناه.
الثانية: الظاهر أنّ المستفاد من أدلّة اعتبار السوق أنّ السوق بنفسه لا تكون أمارة على التذكية، وكاشفة عن الطهارة والحلّية، بل هو كاشف عن الأمارة الحقيقيّة; وهي يد المسلم، فالسوق أمارة على الأمارة; نظراً إلى أنّ الغالب في أسواق المسلمين إنّما هم المسلمون، وقد جعل الشارع هذه الغلبة معتبرة، وألحق من يشكّ في إسلامه في أسواقهم بالمسلمين، فالسوق إنّما هو كاشف عن كون البائع مسلماً.
وبهذا يظهر ما في كلام بعض(1) من الاكتفاء بمجرّد الأخذ من سوق المسلمين ولو أخذ من يد الكافر، في قبال الأخذ من يد المسلم، كما أنّه يظهر الخلل فيما اختاره في «المستمسك» من أنّ الظاهر منه خصوص ما لو كان البائع مسلماً، وأنّ الداعي لذكر السوق كونه الموضع المعتاد لوقوع المعاملة فيه، لا لخصوصيّة فيه في قبال الدار والصحراء ونحوهما، فالمراد من الشراء من السوق الشراء من المسلم الذي هو أحد التصرّفات الدالّة على التذكية،
- (1) كتاب الطهارة للإمام الخميني (قدس سره) 4: 247 ـ 248، وفي جواهر الكلام 8 : 90 ذكر بعنوان «التوهّم».
( صفحه 160 )
ولا خصوصيّة له، فهو راجع إلى الاستعمال المناسب للتذكية(1).
وجه الخلل: أنّ مقتضى ما أفاده خروج عنوان السوق عن المدخليّة رأساً، وهو خلاف ظاهر أدلّة اعتباره جدّاً.
الثالثة: أنّه لا فرق في المسلم الذي يؤخذ من يده، ويكون السوق أمارة على إسلامه، بين ما إذا كان عارفاً بالإمامة، أو لم يكن; لأنّه ـ مضافاً إلى كون أكثر المسلمين في تلك الأزمنة غير عارفين، وإلى أنّ الجمع المحلّى باللاّم في المسلمين، الذي اُضيف إليه السوق في رواية الفضلاء(2)، يقتضي العموم لكلّ مسلم على ما هو المشهور(3) ـ يدلّ عليه رواية إسماعيل بن عيسى قال:
سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن جلود الفرا يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن زكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال: عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك، وإذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه(4).
وعليه: فالحكم باعتبار يد المسلم ليس لكونه أمارة شرعيّة على كون الحيوان مذكّى بالتذكية المعتبرة عند العارف، وذلك لاختلافنا معهم في بعض الاُمور المعتبرة في التذكية، كاجتزائهم في الصيد بإرسال غير الكلب
- (1) مستمسك العروة الوثقى 5: 302 ـ 303.
- (2) تقدّمت في ص156.
- (3) روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 570، مدارك الأحكام 3: 159 ـ 160، جواهر الكلام 8 : 95، كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 132.
- (4) تهذيب الأحكام 2: 371 ح1544، الفقيه 1: 167 ح788، وعنهما وسائل الشيعة 3: 492، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح7.
( صفحه 161 )
المعلّم(1)، وكذلك في بعض الفروع، كحكمهم بطهارة جلد الميتة بالدباغ(2)، وبطهارة ذبائح أهل الكتاب(3)، وغير ذلك من الموارد، فلا يكون مجرّد كونه في يده، أو مع ترتيبه آثار المذكّى عليه، أمارة على وقوع التذكية المعتبرة عندنا عليه.
فالحكم باعتبار يد المسلم ليس لاماريّتها، بل لأجل أنّ الحكم بعدم الاعتبار ـ مع أنّ الغالب في تلك الأزمنة هو كون المسلمين غير عارفين ـ مستلزم للعسر; فلذا جعل الشارع الأصل في الحيوان التذكية تعبّداً فيما إذا لم يكن بايعه مشركاً، وسيأتي تفصيل هذا البحث في الجهة العاشرة إن شاء الله تعالى.
الرابعة: أنّه يستفاد من بعض الروايات الواردة في السوق اعتبار ضمان البائع وإخباره بكون مبيعه من المذكّى، وهي:
رواية محمد بن الحسن الأشعري قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال: إذا كان مضموناً فلا بأس(4).
ولكنّ الظاهر أنّه يتعيّن حملها على الاستحباب بقرينة رواية الفضلاء(5)،
- (1) بداية المجتهد 1: 477، المغني لابن قدامة 11: 10، المجموع 9: 90، الخلاف 6: 7 مسألة 3.
- (2) تقدّم تخريجه في ص143.
- (3) بداية المجتهد 1: 471، المغني لابن قدامة 11: 54، المجموع 9: 75.
- (4) الكافي 3: 398 ح7، وعنه وسائل الشيعة 3: 493، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب50 ح10، وج4: 463، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب61 ح3.
- (5) تقدّمت في ص156.
( صفحه 162 )
الدالّة على أنّ النهي عن السؤال عنه; فإنّ المراد من النهي هو عدم الوجوب; لأنّه في مقام توهّمه، فالمراد عدم وجوب السؤال، ومن الواضح: أنّ المراد من السؤال هو السؤال الذي يتعقّبه الجواب بوقوع التذكية، فمرجع ذلك إلى عدم اعتبار الإخبار بوقوعها في جواز الأكل من اللحوم.
وكذا يدلّ على عدم اعتبار السؤال صحيحتا البزنطي، ورواية إسماعيل بن عيسى المتقدّمة، فلابدّ من حمل هذه الرواية على الاستحباب.
الخامسة: الظاهر أنّ يد المسلم التي تكون أمارة على التذكية تكون أخصّ من اليد التي تكون أمارة على الملكيّة، لا من جهة اعتبار إسلام ذي اليد هنا دونه، بل من جهة أنّه لا يعتبر في الأماريّة هناك سوى أصل ثبوت اليد، وكون المال تحت استيلاء ذي اليد وسلطته، ولا يلزم أن يتصرّف فيه تصرّفاً متوقّفاً على الملكيّة.
وأمّا في المقام، فيعتبر في اليد التي تكون أمارة على التذكية التصرّف المتوقّف عليها; وذلك لأنّ مورد أخبار الاشتراء من السوق وجود هذا التصرّف; لأنّ نفس المعرضيّة للبيع كاشفة عن التذكية; لعدم صدورها من المسلم بالإضافة إلى الميتة.
وكذلك رواية إسماعيل ظاهرة في تعليق الجواز على رؤية الصلاة فيه، فمجرّد كونه تحت يد المسلم، أو استعماله في شيء ما ـ ولو لم يكن مقتضى الدواعي النوعيّة طهارته، مثل أن يتّخذ ظرفاً للنجاسة ـ لا دليل على أماريّته على وقوع التذكية عليه.
السادسة: أنّ يد المسلم هل هي أمارة على التذكية مطلقاً حتّى فيما لو علم
( صفحه 163 )
بمسبوقيّتها بيد الكافر، بل وبعدم فحص المسلم لكونه ممّن لا يبالي بكونه من ميتة أو مذكّى، أو يكون أمارة فيما لم يكن كذلك; سواء علم بالمسبوقيّة بيد مسلم آخر، أم لم تعلم الحالة السابقة؟ وجهان بل قولان، اختار المحقّق النائيني (قدس سره) وجماعة الثاني(1); نظراً إلى منع الإطلاق في دليل الاعتبار، لا من جهة اللفظ، ولا من ناحية ترك الاستفصال.
أمّا الأوّل: فلكونها قضايا خارجيّة وردت في محلّ الحاجة، وهي الجواب عمّا وقع عنه السؤال من الأيدي والأسواق الخارجيّة في تلك الأزمنة، وليست من قبيل القضايا الحقيقيّة التي حكم فيها بالأفراد مطلقاً ولو كانت مقدّرة الوجود غير محقّقة. ومن المعلوم أنّ مثل ذلك لا إطلاق لها، ولذا لا تكون متعارفة في العلوم، ولا يكون شأن العلوم هو البحث عنها; لكونها في قوّة الجزئيّة وإن كانت مسوّرة بكلمة «كلّ»، مثل كلّ من في البلد مات.
وأمّا الثاني: فلأنّ منشأ الشكّ في كون المأخوذ مذكّى هو غلبة العامّة على أسواق المسلمين، لا كون أيديهم مسبوقة بأيدي الكفّار; إذ لم يكن جلب الجلود من بلاد الشرك معمولا في ذلك الزمان، وإنّما هو أمر حدث في هذه الأعصار، فهذه الجهة مغفول عنها بالكلّية عند أذهان السائلين، وفي مثله
لا مجال لترك الاستفصال وجعله دليلا على الإطلاق; لظهور الحال.
ويمكن الإيراد عليه ـ مضافاً إلى منع كون أدلّة اعتبار السوق بأجمعها قضايا خارجيّة; فإنّ مثل حكم الإمام (عليه السلام) في رواية الفضلاء
- (1) كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 128، العروة الوثقى 1: 399 مسألة 1278، المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 16.