( صفحه 37 )
المراد كون ذلك أقرب إلى أن يعرفن بالستر والصلاح، فلا يُتعرّض لهنّ; لأنّ الفاسق إذا عرف امرأة بالستر والصلاح لم يتعرّض لها.
ويحتمل أن يكون معنى الآية ـ بناءً على كون المراد من الجلباب الملحفة، أو الرداء الذي يستر من فوق إلى أسفل، كما عن ابن عبّاس ـ أنّ إدناء الجلباب عبارة عن جعله قريباً من البدن، بحيث صار كالمتّصل به في مقابل البعد، والفصل بينه وبين البدن; فإنّه مع عدم الإدناء كثيراً ما يظهر من الجسد شيء أو أشياء، بخلاف ما إذا كان قريباً من البدن; فإنّه موجب لستره بجميع أجزائه.
وكيف كان، فدلالة الآية على وجوب ستر الوجوه، بحيث كانت ظاهرة في ذلك، ممنوعة جدّاً.
ومن الآيات التي استدلّ بها على ستر الوجه والكفّين قوله ـ تعالى ـ : ( وَ إِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَـعًا فَسْـَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَاب ذَ لِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ... )(1); نظراً إلى أنّ مفاد الآية ليس من خصائص زوجات النبيّ (صلى الله عليه وآله) ، بل حكم عامّ وارد في موردهنّ، كما أنّ سؤال المتاع ليس له خصوصيّة، والمنظور الملاقاة والمواجهة.
ولكنّه ينبغي أن يعلم أنّ الخطاب فيها متوجّه إلى الرجال دون النساء، فالواجب عليهم هو الملاقاة من وراء الحجاب والمانع، ولا دلالة لها على وجوب التستّر على النساء، فضلا عن أن تدلّ على وجوب ستر الوجه والكفّين.
( صفحه 38 )
وبالجملة: أنّ هذه الآية ناظرة إلى النهي عن الدخول في الدار بغير إذن; فإنّ معنى الحجاب هو المانع. وأمّا خصوصيّة المانع من جهة لزوم كونه مانعاً عن أيّ شيء، فلا دلالة في الآية عليها، وعلى تقديرها، فقد عرفت أنّ مدلولها الإيجاب على الرجال، ولا ملازمة بينه، وبين وجوب التستّر على النساء، كما لا يخفى.
إن قلت: إنّ المستفاد من التعليل المذكور في ذيلها أنّ الأطهريّة التامّة تحصل بستر الوجه والكفّين أيضاً.
قلت: لا دلالة لها على وجوب تحصيل الأطهريّة التامّة، وإلاّ لكان اللاّزم على النساء عدم الخروج من البيوت أصلا; لتحقّق الأطهريّة التامّة بذلك; ضرورة أنّ الخروج ولو مع ستر جميع البدن يوجب التوجّه إليهنّ والاطّلاع على حالهنّ ولو ببعض المراتب، وذلك ينافي الأطهريّة التامّة، فالآية غير دالّة على ذلك.
ومن الآيات التي استدلّ بها على ذلك قوله ـ تعالى ـ : ( يَـنِسَآءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ ى مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا * وَ قَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَ لاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـهِلِيَّةِ الاُْولَى... )(1) وتقريب الاستدلال بها من وجهين:
الأوّل: الأولويّة; فإنّه إذا كان الخضوع بالقول حراماً، فإبداء الوجه والكفّين حرام بطريق أولى.
الثاني: عموم العلّة; نظراً إلى اقتضاء الآية أنّ كلّ شيء موجب لتحقّق
- (1) سورة الأحزاب 33: 32 ـ 33.
( صفحه 39 )
الطمع لمن كان في قلبه مرض فهو حرام، ومن المعلوم أنّ إبداء الوجه والكفّين موجب لذلك.
والجواب عن الأوّل: أنّ الخضوع بالقول لا يقاس به إبداء الوجه والكفّين; فإنّه محرّك شديد وموجب للتحريك نوعاً دونه، كما لا يخفى.
وعن الثاني: أنّه لا يمكن الأخذ بعموم التعليل المذكور، وإلاّ لكان اللاّزم أن لا يخرجن النساء من البيوت رأساً. وأمّا الحكم بوجوب القرار في البيوت في قوله: ( وَ قَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ )، بناءً على كونه من القرار لا الوقار، فليس المراد به معناه المطابقي، الذي كان مرجعه إلى حرمة الخروج من البيت، بل هو كناية عن كون شأنهنّ إدارة البيوت والتصدّي لشؤونها، وليس من شأنهنّ الورود في الاُمور الاجتماعيّة التي يكون ظرفها خارج البيت، كما استدلّت به اُمّ سلمة في مكتوبها إلى عائشة في قصّة حرب الجمل(1).
كما أنّ المراد من التبرّج المنهيّ عنه هو إظهار المرأة وإراءة محاسنها، كما كان في الجاهليّة، فهذه الآية لا دلالة لها أيضاً على وجوب ستر الوجه والكفّين، وقد انقدح من جميع ذلك عدم تماميّة دلالة شيء من الآيات التي استدلّ بها على ذلك.
وأمّا السنّة، فهي على طوائف:
الاُولى: ما يكون مفادها أنّ النساء عورة، فقد حكي عن العلاّمة (قدس سره)
- (1) كتاب الجمل (سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد) 1: 233.
( صفحه 40 )
في المنتهى أنّه قال: روي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: المرأة عورة(1).
وتقريب الاستدلال بها أنّ الظاهر كون المراد بالعورة هي السوأة، ويكون حملها على المرأة من باب التشبيه البليغ، الذي تكون أداة التشبيه فيه محذوفة ليعرف ثبوت وجه الشبه في المشبّه على نحو ثبوته للمشبّه به، حتّى كأنّ الأوّل يكون من أفراد الثاني ومصاديقه.
ولمّا كان أظهر خواصّ العورة وآثارها هو قبح إظهارها عرفاً وشرعاً، ووجوب سترها شرعاً لأجل كون إظهارها موجباً لتحريك الشهوات، وفعل ما لا ينبغي صدوره، فبذلك التشبيه البليغ يعلم ثبوت هذا الأثر في المرأة التي هي المشبّه; لأنّ ظهورها موجب لصدور الأفعال القبيحة الممنوعة عند الشرع.
ومن المعلوم أنّ ما هو المناط في وجوب الستر ثابت في الوجه على النحو الأتمّ، فتدلّ الرواية حينئذ على أنّه يجب على المرأة ستر جميع البدن حتّى الوجه والكفّين.
ويرد عليه: أنّه يمكن أن يكون المراد من العورة في الرواية ما هو معناها بحسب اللغة، وهو كلّ شيء يستره الإنسان للاستحياء من ظهوره; لكونه قبيحاً، ومن مصاديقها العورة بمعنى السوأة. وعليه: تكون المرأة من المصاديق الحقيقيّة للعورة اللغويّة; لأنّ المرأة شيء يستحيي من ظهورها; لاحتفافها
- (1) سنن الترمذي 3: 476 ح1175، صحيح ابن خزيمة 2: 814 ح1686، مجمع الزوائد 2: 35، المعجم الكبير للطبراني 10: 108 ح10115، الكامل لابن عدي 3: 423 رقم الترجمة 846 ، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، المعروف بـ «مجموعة ورّام» 2: 119، منتهى المطلب 4: 271.
( صفحه 41 )
بالأعمال القبيحة والأفعال الممنوعة التي لا ينبغي صدورها منها، وإلاّ فنفس المرأة ليست شيئاً يستحيي منها مع قطع النظر عن احتفافها بها.
ولكنّ الكلام في أنّه لو سترت المرأة جميع بدنها سوى الوجه والكفّين، فهل يتحقّق الاحتفاف حينئذ أم لا؟ والظاهر أنّ الرواية لا تكون في مقام بيان أنّ المرأة بجميع بدنها عورة، بل هي ناظرة إلى امتيازهنّ عن الرجال، وبيان أنّ الطائفتين ليستا بمتساويتين، وأنّ المرأة عورة دون الرجل، فأين الدلالة على أنّ كلّ جزء من أجزاء بدنها كذلك؟ كما لا يخفى.
ومن هذه الطائفة ما رواه الخاصّة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: النساء عيّ وعورات، فداووا عيّهنّ بالسكوت، وعوراتهن بالبيوت(1). وقد أمر فيها بمداوى عوراتهنّ بالبيوت. ومن المعلوم أنّ المستوريّة بالبيت هي المستوريّة بجميع الأعضاء، ولكن إضافة العورات إليهنّ تدلّ على عدم كونها بتمامها عورة، ويمكن أن يكون عدم التماميّة بلحاظ كون العورة من خواصّ الجسم، ولا ارتباط لها بالروح، مع أنّ المرأة مركّبة منهما.
وكيف كان، فالظاهر أنّه لا يمكن الالتزام بالرواية; لظهورها في وجوب سترهنّ بالبيوت، وأنّه لا يجوز لها الخروج من البيت ولو مع ستر جميع
بدنها. ومن الواضح: أنّه لا يمكن الالتزام بذلك; لعدم وجوب سكونتها في البيت دائماً، وعدم خروجها منه كذلك. غاية الأمر استحباب ذلك، اللهمّ إلاّ أن يقال بالتفكيك، وأنّ الوجوب إنّما تعلّق بأصل الستر، والاستحباب تعلّق
- (1) أمالي الطوسي: 585 ح1209، وص662 ح1382، وعنه وسائل الشيعة 20: 66، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب25 ح6، وبحار الأنوار 103: 251 ح48.