( صفحه 20 )
إنّما يتحقّق بستر اللون وترك النظر إليه فقط.
وقد استدلّ لهم أيضاً برواية رواها الصدوق بإسناده عن عبيدالله المرافقي في حديث، أنّه دخل حمّاماً بالمدينة فأخبره صاحب الحمّام أنّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يدخله، فيبدأ فيطلي عانته وما يليها، ثمّ يلفّ إزاره على أطراف إحليله ويدعوني فأُطلي سائر بدنه، فقلت له يوماً من الأيّام: إنّ الذي تكره أن أراه قد رأيته، قال: كلاّ إنّ النورة سترة (ستره خ ل)(1).
ومرسلة محمد بن عمر، عن بعض من حدّثه أنّ أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمّام إلاّ بمئزر، قال: فدخل ذات يوم الحمّام فتنوّر، فلمّا أطبقت النورة على بدنه ألقى المئزر، فقال له مولى له: بأبي أنت واُمّي إنّك لتوصينا بالمئزر ولزومه وقد ألقيته عن نفسك، فقال: أما علمت أنّ النورة قد أطبقت العورة(2).
ولكنّ الاستدلال بهما غير تامّ; لعدم العلم بكون النورة غير ساترة للحجم، كما لا يخفى.
الثالث: أنّه لا إشكال كما عرفت(3) في وجوب الستر مع العلم بوجود الناظر. وأمّا مع الشكّ فيه، فهل يجب الستر، أم لا؟ ذكر المحقّق الهمداني (قدس سره)
أنّ فيه وجهين: من جريان أصالة الإباحة، وعدم الوجوب الجارية في الشبهات الموضوعيّة، ومن أنّه ربما يقع في الحرام مع عدم التستّر،
- (1) الفقيه 1: 65 ح250، وعنه وسائل الشيعة 2: 53، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام ب18 ح1.
- (2) الكافي 6: 502 ح35، وعنه وسائل الشيعة 2: 53، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام ب18 ح2.
- (3) في ص10 ـ 11.
( صفحه 21 )
ومقتضى لزوم رعاية التكليف الإلهي الاحتياط، وقد قوّى بعد بيان الوجهين الوجه الأوّل(1).
ولكنّه ذكر بعض الأعلام في شرح العروة أنّ هنا خصوصيّة تمنع عن جريان أصالة الإباحة ولو مع القول بجريانها في الشبهات الموضوعيّة التحريميّة; وهي التعبير في الآية الشريفة عن الستر بحفظ الفروج; فإنّ المتفاهم من كلمة «الحفظ» هو المراقبة والتحفّظ، وهو لا يتحقّق إلاّ مع الرعاية في صورة احتمال وجود الناظر أيضاً(2).
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّ لازم ما أفاده هو التفكيك في الآية المتعرّضة لبيان حكمين، والالتزام بأنّ جملة ( وَ يَحْفَظُوا ْ فُرُوجَهُمْ ) دالّ على الوجوب مع احتمال الناظر أيضاً، وأمّا جملة ( يَغُضُّوا ْ مِنْ أَبْصَـرِهِمْ ) فلا دلالة له على ذلك; لعدم وقوع التعبير بالحفظ فيها، ومن المعلوم بطلان هذا النحو من التفكيك ـ : أنّ التعبير بالحفظ لا دلالة له على ما رامه; لأنّ معناه التخفّي والتستّر، ولا شهادة فيه على الرعاية في صورة احتمال وجود الناظر أيضاً.
ويؤيّده أنّ لازمه الالتزام بذلك في سائر الآيات الدالّة على لزوم حفظ الفرج، التي يكون مفادها اللزوم من جهة الزنا ومثله، على ما دلّ عليه الرواية المتقدّمة(3)، المتضمّنة بأنّ كلّ ما كان في كتاب الله من ذكر حفظ الفرج فهو من الزنا إلاّ في هذا الموضع، الذي هو مورد البحث في المقام; ضرورة أنّ
- (1) مصباح الفقيه 2: 49 ـ 50.
- (2) التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الطهارة، موسوعة الإمام الخوئي 4: 330.
- (3) في ص11.
( صفحه 22 )
الاختلاف من هذه الجهة لا يوجب الاختلاف بينها من ناحية التعبير بالحفظ المشترك بين جميعها، فالظاهر ما قوّاه المحقّق الهمداني (قدس سره) من عدم الوجوب مع الشكّ في وجود الناظر; لما عرفت.
الرابع: قد استثني من الحكمين المذكورين موارد:
منها: الزوج والزوجة; فإنّه يجوز لكلّ منهما النظر إلى جميع أعضاء الآخر، كما يجوز اللمس، وقد دلّ عليه الروايات(1)، مضافاً إلى أنّ جواز الوطء دليل على أنّه يجوز النظر بطريق أولى، ولا إشكال في هذا الحكم أصلا.
ومنها: المالك; فإنّه يجوز له النظر إلى جميع أعضاء المملوكة ما دام لم يزوّجها، أو يحلّلها من الغير; فإنّه لا يجوز له النظر حينئذ إلى عورتها،
كما دلّ عليه بعض الروايات المتقدّمة في معنى العورة(2). وأمّا المملوكة، فالظاهر أنّه يجوز لها النظر إلى المالك مطلقاً مع الشرط المذكور، بخلاف المالكة; فإنّه لا دليل على جواز نظرها إلى مملوكها أو مملوكتها، وإطلاق الآية يقتضي عدم الجواز.
ومنها: المحلّلة والمحلّل له; فإنّه يجوز لكلّ منهما النظر إلى عورة الآخر; لاقتضاء جواز الوطء ذلك على ما مرّ.
هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.
المقام الثاني: في حكم النساء، لا إشكال في أصل وجوب التستّر على النساء، وحرمة الإبداء والكشف لهنّ، وهو من ضروريّات الفقه، بل من
- (1) وسائل الشيعة 20: 120، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب59.
- (2) في ص18 ـ 19.
( صفحه 23 )
ضروريّات الدين(1).
إنّما الإشكال في وجوب ستر الوجه والكفّين، وقد ادّعى سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي (قدس سره) أنّ المشهور بين الخاصّة والعامّة وجوب ستر الوجه والكفّين أيضاً(2).
ولكنّ الحقّ أنّ المسألة مختلف فيها، فذهب بعض إلى الوجوب، كالشيخ (قدس سره) في النهاية، قال فيها: من أراد أن يزوّج له أن ينظر إلى الوجه والمحاسن والكفّين والرجلين وكيفية المشي ونحوها. وأمّا في غير هذه الصورة، فلا يجوز له النظر إلى المواضع المذكورة(3)، بناءً على أن لا يكون المراد مجرّد
حرمة نظر الغير، بل وجوب التستّر عليها أيضاً، وإلاّ فحرمة النظر لا تلازم وجوب التستّر.
نعم، جواز النظر لا يجتمع مع وجوب التحفّظ كما لا يخفى. وتبعه في ذلك العلاّمة وابنه وكاشف اللثام وصاحب الجواهر، قدّس الله أسرارهم(4).
وذهب الشيخ (قدس سره) في بعض كتبه إلى جواز النظر إلى الوجه والكفّين، واختاره صاحبا الحدائق والمستند، والشيخ الأعظم الأنصاري في رسالة النكاح(5).
- (1) المعتبر 2: 101، تذكرة الفقهاء 2: 446 مسألة 108، منتهى المطلب 4: 271، ذكرى الشيعة 3: 7، جواهر الكلام 2: 3 ـ 9.
- (2) نهاية التقرير 1: 286.
- (3) النهاية: 484، مع اختلاف يسير.
- (4) قواعد الأحكام 3: 6، إيضاح الفوائد 3: 5، كشف اللثام 7: 20، جواهر الكلام 29: 63 (ط.ق).
- (5) المبسوط 4: 160، الحدائق الناضرة 23: 53 ـ 55، مستند الشيعة 16: 46 ـ 50، كتاب النكاح (تراث الشيخ الأعظم (رحمه الله) ): 44 ـ 50.
( صفحه 24 )
وقال المحقّق في الشرائع وتبعه العلاّمة في بعض كتبه بالتفصيل بين النظرة الاُولى، وبين النظرة الثانية وما بعدها(1).
فاللاّزم ملاحظة الأدلّة، فنقول:
أمّا الكتاب، فمن الآيات الواردة في هذا الباب آية الغضّ المعروفة المتقدّمة(2)، وهي بلحاظ اشتمالها على إيجاب الغضّ وحفظ الفرج على الرجال والنساء قد تقدّم(3) الكلام فيها، وأنّها لا ترتبط بالمقام من هذه الجهة. وأمّا بلحاظ قوله ـ تعالى ـ فيها: ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا )(4)، فلابدّ من البحث فيها، حيث إنّه يستفاد منها أنّ الزينة على قسمين: ظاهرة وباطنة،
وقد وقع الخلاف في تفسير الزينة الظاهرة.
فعن عبدالله بن مسعود: أنّ المراد بالزينة الظاهرة التي لا يحرم إبداؤها هي الثياب(5).
ويؤيّده قوله ـ تعالى ـ : ( يَـبَنِىءَادَمَ خُذُوا ْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِد )(6)، أي خذوا ثيابكم التي تتزيّنون بها عند إرادة الصلاة.
وعن عبدالله بن عبّاس: أنّ المراد بالزينة الظاهرة هو الكحل، والخاتم، والخدّان، والخضاب في الكفّ(7).
- (1) شرائع الإسلام 2: 269، قواعد الأحكام 3: 6.
- (2 ، 3) في ص9 ـ 11.
- (4) سورة النور 24: 31.
- (5) مجمع البيان 7: 216، التفسير الكبير للفخر الرازي 8 : 364.
- (6) سورة الأعراف 7: 31.
- (7) جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري) 18: 150 ح25962، 25964 و 25969، مجمع البيان 7: 216، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 6: 166.