( صفحه 170 )
غير مستحلّ لها به(1)، وعن جملة من الكتب ـ كالمنتهى ونهاية الإحكام ـ التفصيل بين ما لم يعلم باستحلاله فتكون يده أمارة، وما علم بكونه مستحلاًّ فلا تكون كذلك(2)، وهنا قول رابع; وهو التفصيل بين ما إذا أخبر بالتذكية ولو كان مستحلاًّ، وبين ما إذا لم يخبر، فتكون يده أمارة في الأوّل، دون الثاني(3).
ويدلّ على المشهور المطلقات المتقدّمة(4) في السوق، الناظرة إلى هذه الجهة; وهي كون المسلم غير عارف مستحلاًّ للميتة نوعاً، وهي كالصريحة في الشمول لذلك، خصوصاً بعد ملاحظة كون منشأ الشكّ للسائل الباعث له على السؤال ذلك، ومرسلة ابن الجهم المتقدّمة(5) ناظرة إلى هذه الجهة، وأنّ الضيق الواقع فيه السائل، وحكمه (عليه السلام) بأنّه يرغب عمّا كان يفعله إمامه (عليه السلام) إنّما هو لأجل ذلك.
هذا، مضافاً إلى التصريح بعدم اعتبار المعرفة بالإمامة في رواية إسماعيل المتقدّمة(6)، فالإنصاف أنّه مع ملاحظة الروايات والتأمّل فيها لا يبقى ارتياب في أنّ أماريّة يد المسلم أماريّة تعبّدية مجعولة لغرض التسهيل والتوسعة،
- (1) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 373، كشف اللثام 4: 418.
- (2) منتهى المطلب 4: 206، نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 373، تذكرة الفقهاء 2: 464 مسألة 117، مسالك الأفهام 1: 285، كشف اللثام 4: 419.
- (3) ذكرى الشيعة 3: 29، الدروس الشرعيّة 1: 150، الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) 1: 101.
- (4) في ص156 ـ 158.
- (5) في ص158.
- (6) في ص160.
( صفحه 171 )
وعمدة النظر فيها كون البائع مسلماً غير عارف، خصوصاً في زمن الصادقين (عليهما السلام) ، الذي شاع فيه فتوى أبي حنيفة واستحلاله للميتة، وكثر متابعوه، ومع ذلك حكم في الروايات بالأماريّة والاعتبار.
وأمّا القول الثاني: فيدلّ عليه رواية أبي بصير قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن الصلاة في الفرا، فقال: كان علي بن الحسين (عليه السلام) رجلا صرداً(1) لا يدفئه فرا الحجاز; لأنّ دباغها بالقرظ(2)، فكان يبعث إلى العراق فيؤتى ممّا قبلكم بالفرو فيلبسه، فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الذي يليه، فكان يسأل عن ذلك؟ فقال: إنّ أهل العراق يستحلّون لباس الجلود الميتة، ويزعمون أنّ دباغه ذكاته(3).
وتقريب الاستدلال بها، أنّ موردها صورة الشكّ في كون البائع مستحلاًّ; لظهور عدم اعتماده (عليه السلام) في هذه الجهة إلى علم الغيب الثابت له، ومن الواضح: عدم كون جميع أهل العراق مستحلّين، بل كان فيهم من المسلمين العارفين أيضاً، فالرواية ناظرة إلى صورة الشكّ، وحاكمة بعدم جواز الاعتماد على يده; لأنّه (عليه السلام) كان يلقي في حال الصلاة الفرا المبعوث إليه من العراق، وكذا يلقي القميص الذي يليه، فالرواية دالّة على عدم الأماريّة مع الشكّ.
ويرد على الاستدلال بها ـ مضافاً إلى ضعف السند ـ إجمالها من حيث
- (1) الصَرِد، بفتح الصاد وكسر الراء المهملة: من يجد البرد سريعاً، مجمع البحرين 2: 1023.
- (2) القَرَظ، بالتحريك: ورق السَلَم يُدْبَغُ به الأديم، وفي الخبر: اُتي بهديّة في أديم مقروظ; أي مدبوغ بالقرض، مجمع البحرين 3: 1467.
- (3) الكافي 3: 397 ح2، وعنه وسائل الشيعة 4: 462، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب61 ح2.
( صفحه 172 )
الدلالة; لأنّه (عليه السلام) كان يجمع على طبق الرواية بين اللبس والانتفاع، وبين الإلقاء المذكور، مع أنّه على تقدير عدم الأماريّة لا يجوز الانتفاع به أصلا ولو في غير حال الصلاة.
ودعوى(1) كون لبسه إنّما هو لأجل الضرورة المسوّغة له، كما يشعر به قوله (عليه السلام) : «كان رجلا صرداً»; أي شديد التألّم من البرد، وعدم كون فرا الحجاز دافئاً.
مدفوعة بوضوح عدم كون الضرورة بالغة إلى حدّ يجوز معه المحرّم.
كما أنّ دعوى(2) الفرق بين اللبس، وبين الصلاة لأجل نفس هذه الرواية، كما ربما نسب إلى إشعار بعض الكتب(3).
مدفوعة أيضاً ـ مضافاً إلى كونها خلاف الإجماع(4) ـ بأنّها توجب عدم انطباق الدليل على المدّعى، فالإنصاف إجمال الرواية من حيث الدلالة، ولا يرفعه احتمال كون الإلقاء احتياطاً من الإمام (عليه السلام) في حال الصلاة وإن كان هذا الاحتمال مخالفاً لمدّعى المستدلّ، إلاّ أنّه أيضاً لا يكون صحيحاً; لعدم انحصار احتياط الإمام (عليه السلام) بالصلاة، كما لا يخفى.
هذا كلّه، مضافاً إلى مخالفة الرواية للمطلقات المتقدّمة(5)، الدالّة على الأماريّة مع العلم بالاستحلال فضلا عن الشكّ، كما عرفت.
- (1) راجع كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 133.
- (2) كتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائينى للآملي 1: 133.
- (3) ذكرى الشيعة 3: 30.
- (4) جواهر الكلام 8 : 96.
- (5) في ص156 ـ 158.
( صفحه 173 )
وأمّا القول الثالث: فعمدة الدليل عليه ما رواه عبد الرحمن بن الحجّاج قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : إنّي أدخل سوق المسلمين; أعني هذا الخلق الذين يدّعون الإسلام، فأشتري منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها: أليس هي ذكيّة؟ فيقول: بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنّها ذكيّة؟ فقال: لا، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول: قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنّها ذكيّة. قلت: وما أفسد ذلك؟ قال: استحلال أهل العراق للميتة، وزعموا أنّ دباغ جلد الميتة ذكاته، ثمّ لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلاّ على رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1).
فإنّ موردها صورة العلم بكون البائع مستحلاًّ، وحينئذ فالحكم بعدم جواز البيع بشرط التذكية دليل على عدم كون يده أمارة عليها، وإلاّ فلا وجه لعدم جواز البيع كذلك، كما هو ظاهر.
ويرد عليه: أنّه لو لم تكن يده أمارة على التذكية، فلم كان الاشتراء منه جائزاً؟ كما هو المفروغ عنه عند السائل، وقد قرّره الإمام (عليه السلام) على ذلك، فالحكم بالجواز دليل على وجود الأمارة. وأمّا عدم جواز الاشتراط، فليس لأجل عدم ثبوت الأمارة، بل إنّما هو لأجل كون الأمارة غير كافية في مثله; لظهوره في ثبوت التذكية وجداناً، وعدم كفاية إحرازها بحكم الأمارة، كما في سائر الشرائط.
وكما في مثل الشهادة بناءً على عدم جواز الاستناد فيها إلى الأمارة. نعم، يبقى الإشكال في أنّ مقتضى ما ذكرنا عدم جواز الاشتراط ولو لم يكن البائع
- (1) الكافي 3: 398 ح5، تهذيب الأحكام 2: 204 ح798، وعنهما وسائل الشيعة 3: 503، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب61 ح4.
( صفحه 174 )
مستحلاًّ، مع أنّ مقتضى ذيل الرواية أنّ الموجب لعدم جواز الاشتراط استحلال البائع الأوّل للميتة، فتدبّر.
وأمّا القول الرابع: فقد استدلّ له برواية محمد بن الحسين الأشعري قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني (عليه السلام) : ما تقول في الفرو يشترى من السوق؟ فقال: إذا كان مضموناً فلا بأس(1).
والمراد من الضمان هو الإخبار والإعلام بالتذكية، لا التعهّد المتضمّن لقبول الخسارة، والظاهر حينئذ أنّ عدم البأس مشروط بالإعلام.
والجواب: أنّه مع ظهور الروايات المتقدّمة(2)، بل صراحة بعضها في عدم لزوم السؤال والاستعلام من البائع ـ ومن الواضح: أنّ ذلك إنّما هو لأجل عدم اعتبار الجواب والإعلام، وإلاّ فلابدّ من الاستعلام ـ لا يبقى مجال للأخذ بهذه الرواية، فلابدّ من الحمل على الاستحباب، والفرق بين صورتي الإعلام وعدمه من هذه الجهة، كما لا يخفى.
- (1) الكافي 3: 398 ح7، وعنه وسائل الشيعة 4: 463، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب61 ح3.
- (2) في ص156 ـ 158.