( صفحه 219 )
النواهي النفسيّة والغيريّة، فكما أنّ معنى «لا تشرب الخمر» يرجع إلى استقلال كلّ خمر في تعلّق النهي بشربه; لقيام المفسدة الباعثة عليه به، فكذلك معنى «لا تصلِّ في جلد ما لا يؤكل لحمه» يرجع إلى استقلال كلّ جلد من غير المأكول في تعلّق النهي الغيري به، وثبوت وصف المانعيّة له، ومن ثمراته لزوم الاقتصار في موارد الضرورة على مقدارها، كما هو الحال في المحرّمات النفسيّة.
إذا عرفت ما ذكرناه من الجهات فاعلم: أنّ الالتزام بجريان أصالة البراءة العقليّة في المقام بناءً على المانعيّة، كما أنّه يتوقّف على كون موضوعها ملحوظاً بنحو الطبيعة السارية على ما عرفت، كذلك يتوقّف أوّلاً: على الالتزام بجريان البراءة في الشبهات الموضوعيّة التحريميّة في التكاليف النفسيّة; ضرورة أنّه مع عدم جريان البراءة هناك مع كون التكليف نفسيّاً لا يبقى مجال لدعوى جريانها في المقام بعد كون التكليف فيه غيريّاً.
وثانياً: على الالتزام بجريانها في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين بالإضافة إلى الشبهة الحكميّة; لأنّه مع عدم جريانها في تلك المسألة لا مجال لدعوى جريانها هنا بعد كونه شبهة موضوعيّة لتلك المسألة.
وبعبارة اُخرى: المقام من موارد الشبهة الموضوعيّة لمسألة الأقلّ والأكثر المذكورة، ودعوى جريان البراءة فيها تتوقّف على جريانها في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة النفسيّة، وفي الشبهة الحكميّة في مسألة الأقلّ والأكثر، ولأجله لابدّ لنا هنا من البحث في كلا المقامين على سبيل الإجمال، والتفصيل موكول إلى علم الاُصول، فنقول:
( صفحه 220 )
جريان البراءة العقليّة في الشبهة الموضوعيّة
المقام الأوّل: في جريان البراءة العقليّة في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة في التكاليف النفسيّة، وعدمه. صريح الشيخ الأعظم الأنصاري (قدس سره) في الرسالة هو الجريان، كجريانها في الشبهة الحكميّة; فانّه (قدس سره) بعد استناده إلى الأخبار الكثيرة التي تدلّ على جريان البراءة الشرعيّة في الشبهة الموضوعيّة قال:
ولكن في الأخبار المتقدّمة بل في جميع الأدلّة المتقدّمة من الكتاب والعقل كفاية. ثمّ دفع توهّم عدم جريان حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان; نظراً إلى تماميّة البيان من قبل الشارع، فيجب الاجتناب عن الأفراد المحتملة; بأنّ النهي عن الخمر يوجب حرمة الأفراد المعلومة تفصيلاً، والمعلومة إجمالاً المتردّدة بين محصورين، والأوّل لا يحتاج إلى مقدّمة علميّة، والثاني يتوقّف على الاجتناب من أطراف الشبهة لا غير.
وأمّا ما احتمل كونه خمراً من دون علم إجماليّ، فلم يعلم من النهي تحريمه، وليس مقدّمة للعلم باجتناب فرد محرّم معلوم، فلا فرق بينها، وبين الموضوع الكلّي المشتبه حكمه، وما ذكر من التوهّم جار فيه أيضاً; لأنّ العمومات
الدالّة على حرمة الخبائث(1) والفواحش(2)، ( وَ مَا نَهَـل ـكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ْ )(3)تدلّ على حرمة اُمور واقعيّة يحتمل كون شرب التتن منها(4).
- (1) سورة الأعراف 7: 157.
- (2) سورة الأعراف 7: 33.
- (3) سورة الحشر 59: 7.
- (4) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 121 ـ 122.
( صفحه 221 )
وأورد عليه سيّدنا العلاّمة الاُستاذ البروجردي (قدس سره) بأنّ الحكم بعدم الفرق بين الشبهتين في غير محلّه; لأنّ العقل يحكم في المقام بأنّ المخالفة في الاُولى مع العلم بالحكم موجبة لخروج العبد عن رسوم العبوديّة، وكونه طاغياً على مولاه دون المخالفة في الثانية، والحكم بأنّ النهي عن الخمر لا يدلّ إلاّ على حرمة الأفراد المعلومة، كما هو ظاهر كلام الشيخ (قدس سره) بل صريحه، مدفوع بأنّ المفروض مع قطع النظر عن الأخبار الدالّة على حلّية المشتبه، أنّ الحكم بالتحريم ثابت للخمر الواقعي من دون دخالة العلم في موضوعه، كيف؟ ومعه لا مجال لاحتمال التكليف في الفرد المشتبه; لفرض عدم وجود العلم المأخوذ في موضوعه، وهو ممّا يقطع بخلافه، فالنهي عامّ والمخالفة مع احتمال ثبوته غير جائزة عند العقل(1).
أقول: ويمكن الجواب عن نقضه الأخير بأنّ وجوب الانتهاء في قوله ـ تعالى ـ : ( وَ مَا نَهَـل ـكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ْ ) وجوب إرشاديّ، كوجوب الإطاعة في آية ( وَأَطِيعُوا ْ اللَّهَ... )(2). وكذا التحريم الثابت في الخبائث والفواحش
بنحو العموم يكون إرشاديّاً، بناءً على ثبوت العنوانين في كلّ محرّم، كما هو ظاهر النقض.
ضرورة أنّ العناوين الخاصّة المتعلّقة للتحريم لا تكون محكومة بالحرمة من جهة نفسها، ومن جهة كونها مصداقاً للخبيث والفاحشة، بحيث يكون المرتكب لشيء منها آتياً بمحرّمين، ومستحقّاً لعقوبتين، فالنقض المذكور في
- (1) نهاية التقرير 1: 360.
- (2) سورة النساء 4: 59.
( صفحه 222 )
غير محلّه.
ولبعض الأعلام من المعاصرين كلام طويل في وجه جريان البراءة في المقام في الرسالة التي صنّفها في حكم الصلاة في الألبسة المشكوكة، وقد لخّصناه في كتاب «نهاية التقرير»، الذي هو تقرير بحث الاُستاذ المذكور; وهو: أنّه لا خفاء في أنّه لابدّ أن يكون متعلّق التكليف عنواناً اختياريّاً للمكلّف قابلاً لأن يتعلّق به الإرادة، إمّا بنفسه أو بالتوسيط، وذلك العنوان على أربعة أقسام:
الأوّل: العنوان الذي يكون متعلّقاً للتكليف ـ بلا تعلّق له بموضوع خارجيّ ـ خارج عن تحت القدرة والاختيار، كالتكلّم والضحك ونحوهما.
الثاني: العنوان الذي يكون له تعلّق بالموضوع الخارجي، وكان ذلك الموضوع أمراً جزئيّاً متحقّقاً في الخارج، كاستقبال القبلة واستدبارها.
الثالث: أن يكون له تعلّق بالموضوع الخارجيّ الذي اُخذ وجوده ولو ببعض أفراده موضوعاً للحكم. وبعبارة اُخرى: موضوع الحكم هو صرف وجوده المساوق للإيجاب الجزئي، كما في الوضوء والتيمّم بالنسبة إلى الماء والتراب.
الرابع: أن يتعلّق بالموضوع الخارجيّ الذي يكون عنواناً كلّياً ذا أفراد محقّقة الوجود ومقدّرته، ولوحظ ذلك العنوان في مقام تعلّق الحكم مرآتاً للأفراد الموجودة والمقدّرة، كالشرب المتعلّق بالخمر وغيره ممّا يكون موضوعاً للحكم على نحو القضايا الحقيقية.
وينحلّ الحكم في هذا القسم إلى أحكام كثيرة حسب تعدّد الموضوع
( صفحه 223 )
وكثرته، فيختصّ كلّ واحد من أفراد الموضوع بحكم خاصّ، كما هو الشأن في القضايا الحقيقيّة; فانّ كلّ واحد من أشخاص موضوعاتها له حكم خاصّ، ففي الحقيقة يصير معنى «لا تشرب الخمر» أنّه يحرم شرب كلّ خمر موجود في الخارج، أو يوجد بعد.
وبملاحظة ما ذكره المنطقيّون(1); من انحلال القضايا الحقيقيّة إلى قضيّة شرطيّة مقدّمها عقد الوضع فيها، وتاليها عقد الحمل، يصير معنى «لا تشرب الخمر» هكذا: كلّ خمر إذا وجد في الخارج فهو بحيث إذا وجد يحرم شربه، وهذه القضيّة كما ترى تكون الحرمة فيها مترتّبة على وجود الخمر، فالحرمة المجعولة للخمر قبل تحقّقه ووجوده في الخارج تكون حكماً إنشائيّاً، وفعليّتها وكونها زجراً للمكلّف يتوقّف على وجوده في الخارج.
ومن المعلوم أنّ المنجّز للتكليف إنّما هو العلم بالتكليف الفعلي، لا العلم بالحكم الإنشائي، وقد عرفت أنّ فعليّته متوقّفة على وجود موضوعه، فتنجّز الحرمة يتوقّف على العلم بالتكليف الفعلي، وهو يتوقّف على وجود موضوعه، فتنجّزها يتوقّف على العلم بوجود الموضوع، ففي الحقيقة يكون وجود الموضوع من جملة شرائط وجود التكليف.
ومن هنا يظهر بطلان ما يترائى من كلام الشيخ (قدس سره) في الرسالة(2)، حيث إنّ الظاهر منه أنّ عدم وجوب الاجتناب في الشبهات الموضوعيّة إنّما هو لعدم
- (1) تحرير القواعد المنطقيّة في شرح الرسالة الشمسيّة: 253 ـ 260، الحاشية على تهذيب المنطق لملاّ عبد الله: 101 ـ 102، شرح المنظومة للسبزواري 1: 248 ـ 249.
- (2) تقدّم في ص220.