( صفحه 223 )
وكثرته، فيختصّ كلّ واحد من أفراد الموضوع بحكم خاصّ، كما هو الشأن في القضايا الحقيقيّة; فانّ كلّ واحد من أشخاص موضوعاتها له حكم خاصّ، ففي الحقيقة يصير معنى «لا تشرب الخمر» أنّه يحرم شرب كلّ خمر موجود في الخارج، أو يوجد بعد.
وبملاحظة ما ذكره المنطقيّون(1); من انحلال القضايا الحقيقيّة إلى قضيّة شرطيّة مقدّمها عقد الوضع فيها، وتاليها عقد الحمل، يصير معنى «لا تشرب الخمر» هكذا: كلّ خمر إذا وجد في الخارج فهو بحيث إذا وجد يحرم شربه، وهذه القضيّة كما ترى تكون الحرمة فيها مترتّبة على وجود الخمر، فالحرمة المجعولة للخمر قبل تحقّقه ووجوده في الخارج تكون حكماً إنشائيّاً، وفعليّتها وكونها زجراً للمكلّف يتوقّف على وجوده في الخارج.
ومن المعلوم أنّ المنجّز للتكليف إنّما هو العلم بالتكليف الفعلي، لا العلم بالحكم الإنشائي، وقد عرفت أنّ فعليّته متوقّفة على وجود موضوعه، فتنجّز الحرمة يتوقّف على العلم بالتكليف الفعلي، وهو يتوقّف على وجود موضوعه، فتنجّزها يتوقّف على العلم بوجود الموضوع، ففي الحقيقة يكون وجود الموضوع من جملة شرائط وجود التكليف.
ومن هنا يظهر بطلان ما يترائى من كلام الشيخ (قدس سره) في الرسالة(2)، حيث إنّ الظاهر منه أنّ عدم وجوب الاجتناب في الشبهات الموضوعيّة إنّما هو لعدم
- (1) تحرير القواعد المنطقيّة في شرح الرسالة الشمسيّة: 253 ـ 260، الحاشية على تهذيب المنطق لملاّ عبد الله: 101 ـ 102، شرح المنظومة للسبزواري 1: 248 ـ 249.
- (2) تقدّم في ص220.
( صفحه 224 )
كونها مقدّمة علميّة حتّى تجب بوجوب ذيها، وذلك لما عرفت من أنّ جواز الاقتحام، وعدم جوب الاجتناب فيها إنّما هو لعدم العلم بتحقّق شرط التكليف.
فهو نظير ما إذا شكّ في تحقّق الاستطاعة التي يكون وجوب الحجّ مشروطاً بوجودهاً، وهذا هو الفارق بين هذا القسم والأقسام الثلاثة المتقدّمة حيث إنّ الحكم فيها منجّز بنفس العلم به واجتماع شرائط التكليف من القدرة وغيرها، بخلاف هذا القسم الذي يتوقّف على أمر زائد أيضاً، وهو العلم بوجود الموضوع، كما عرفت(1)، انتهى.
أقول: محلّ البحث من هذه الأقسام الأربعة هو القسم الرابع، ويظهر منه (قدس سره) أنّ جريان البراءة العقليّة فيه مبنيّ على أمرين: وهما: الانحلال إلى التكاليف المتعدّدة حسب تعدّد الموضوع الذي يكون المتعلّق مضافاً إليه، ورجوع القضيّة الحقيقيّة إلى الشرطيّة الظاهرة في ترتّب الجزاء على وجود الشرط.
وقد أنكر الأمر الأوّل سيّدنا الاُستاذ البروجردي (قدس سره) ، وملخّص ما أفاده في توضيحه: أنّ المشهور(2) ذهبوا إلى أنّ معنى النهي هو طلب الترك، واختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) (3). وعليه: فيشترك النهي مع الأمر في أنّ معناه أيضاً هو الطلب، غاية الأمر انّ الطلب في الأمر متعلّق بوجود الطبيعة، وفي النهي
- (1) رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني: 188 ـ 260، وعنه نهاية التقرير 1: 360 ـ 362.
- (2) معارج الاُصول للمحقّق الحلّى: 116، معالم الدين: 90 ـ 91، هداية المسترشدين 3: 17 ـ 18; تعليقة على معالم الاُصول 4: 496.
- (3) كفاية الاُصول: 182.
( صفحه 225 )
بتركها، ولازم ما ذكره المشهور سقوط النهي بالكلّية عن عهدة من خالفه وعصاه ولو مرّة، فإنّ عدم الطبيعة ليس كوجودها حتّى يكون له أفراد متعدّدة ومصاديق متكثّرة; لأنّه ليس شيئاً متحقّقاً وأمراً ثابتاً حتّى يكون واحداً أو كثيراً، غاية الأمر أنّ العقل بعد إضافته إلى الطبيعة التي لا تكون في حدّ ذاتها واحدة ولا متكثّرة يعتبره أمراً واحداً.
و حينئذ يتحقّق اللزوم المذكور; لأنّ المعصية عندهم مسقطة للتكليف كالامتثال، فلا تستحقّ العقوبة إذا ارتكبه ثانياً وثالثاً وهكذا، وكذا يلزم عدم الفرق بين الارتكاب قليلاً أو كثيراً، وكذا عدم القدرة على الامتثال مع المخالفة ولو مرّة، وبطلان اللوازم بمكان من الوضوح.
فالتحقيق أن يقال: إنّ معنى النهي ليس هو طلب الترك، بل معناه هو الزجر عن إيجاد الفعل المنهيّ عنه، كما أنّ معنى الأمر هو البعث إلى إيجاد الفعل المأمور به، غاية الأمر أنّ للنهي عصيانات متعدّدة حسب تعدّد وجود الطبيعة المتعلّقة للنهي.
وتوهّم أنّه لا يعقل تحقّق المعاصي المتعدّدة بالنسبة إلى تكليف واحد; لأنّ المعصية إذا تحقّقت يسقط بها التكليف.
مدفوع بمنع ذلك; إذ لا معنى لكون المعصية مسقطة للتكليف، وسقوطه في بعض موارد العصيان إنّما هو لكون التكليف فيه مشروطاً وموقّتاً بوقت خاصّ، ولم يؤت به في وقته، فسقوطه إنّما هو لمضيّ وقته، وهو يوجب سلب القدرة على الامتثال، وهذا بخلاف الامتثال; فإنّه لكونه موجباً لحصول الغرض ـ ولامعنى لثبوت الأمر مع حصول الغرض ـ يوجب سقوط التكليف.
( صفحه 226 )
فقد ظهر أنّ النهي مع كونه تكليفاً واحداً له عصيانات متعدّدة موجبة لاستحقاق عقوبات متكثرة، كما أنّ له أيضاً امتثالات متعدّدة، فالقول بانحلال النهي إلى تكاليف عديدة حسب تعدّد الموضوع ممّا لا سبيل إليه، انتهى(1).
وما أفاده (قدس سره) في الإشكال على المشهور في باب معنى النهي ـ من عدم كون المطلوب في هذا الباب; وهو عدم الطبيعة وتركها، متعدّداً; لأنّه ليس عدم الطبيعة كوجودها حتّى يكون له أفراد متعدّدة ومصاديق متكثّرة ـ وإن كان محلّ نظر بل منع; لأنّه كما أنّ للطبيعة وجودات متكثّرة، كذلك لها أعدام متعدّدة; لأنّه كما أنّ وجود فرد ما يكفي في تحقّق الطبيعة; لكونه تمام تلك الطبيعة، وليست النسبة بينه، وبينها هي النسبة بين المركّب وأجزائه; لعدم كون الفرد حصّة من الطبيعة بل تمامها.
كذلك يكفي عدمه في اتّصاف الطبيعة بالعدم; لأنّه لا يعقل أن يكون وجوده كافياً في وجودها، ولا يكون عدمه موجباً لعدمها، ولا مانع من اتّصاف الطبيعة في آن واحد بالوجود والعدم بلحاظ اختلاف أفرادها، كما لا مانع من اتّصافها بالبياض والسواد، والطول والقصر، والحركة والسكون، وأمثالها، فوجودات الطبيعة إذا كانت متّصفة بالتكثّر يكون أعدامها أيضاً كذلك.
إلاّ أنّ ما أفاده في الإشكال على المحقّق النائيني (قدس سره) ـ من إبطال الانحلال، وعدم كون النواهي المتعلّقة بالطبايع راجعة إلى القضايا الحقيقيّة ـ في كمال
المتانة والسداد; لأنّه لا وجه لإرجاعها إليها المستلزم للانحلال، وثبوت
- (1) نهاية التقرير 1: 360 ـ 364.
( صفحه 227 )
تكاليف متعدّدة حسب تعدّد الموضوعات.
والظاهر أنّ منشأ الإرجاع ملاحظة عدم ارتفاع النهي بالمخالفة وثبوته بعدها أيضاً، مع أنّه لو كان تكليفاً واحداً غير منحلّ إلى تكاليف متعدّدة لكان اللاّزم سقوطه بالمرّة بالمخالفة ولو مرّة; لأنّ العصيان يوجب ارتفاع التكليف، فاللاّزم هو الالتزام بالانحلال حتّى تكون المخالفة في كلّ فرد من أفراد الموضوع موجبة لسقوط التكليف الخاصّ المتعلّق به مع بقاء التكليف بالإضافة إلى الأفراد الاُخر بحاله.
والحقّ أنّ بقاء النهي بعد المخالفة لا يلازم الانحلال والإرجاع إلى القضايا الحقيقيّة، بل حيث إنّ الزجر متعلّق بوجود الطبيعة ـ وهو متعدّد ـ يكون لازمه بقاؤه بعد المخالفة أيضاً; لأنّه لم يقم دليل على أنّ التكليف الواحد لابدّ وأن لا يكون له إطاعات متعدّدة وعصيانات متكثّرة، كما أنّك عرفت أنّه لا وجه لدعوى كون المعصية مسقطة للتكليف، فالإنصاف تماميّة ما أفاده الاُستاذ (قدس سره) في مقام الإشكال على المحقّق المزبور.
نعم، يرد على المشهور أنّ العدم ليس بشيء حتّى يتعلّق به الطلب، وهذا من دون فرق بين ما إذا كان مطلقاً أو مضافاً، وما اشتهر من أنّ العدم المضاف له حظّ من الوجود والتحقّق، فلا ينبغى الاغترار بظاهره بعد وضوح أنّ الإضافة لا توجب خروجه عن ماهيّة المقابلة للوجود.
وأمّا الأمر الثاني: فقد أنكره سيّدنا الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه العالي ـ في مباحثه الاُصوليّة، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك: أنّ القضايا الحقيقيّة قضايا بتيّة كالقضايا الخارجيّة; من دون فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً، غاية الأمر أنّ الحكم في القضايا الحقيقيّة إنّما يكون على الطبيعة بوجودها الساري