( صفحه 232 )
بوجه; لأنّ الوجوب الغيري ـ على تقدير القول به، وثبوت الملازمة العقليّة بينه، وبين الوجوب النفسيّ المتعلّق بذي المقدّمة ـ إنّما هو لأجل أنّ الوجوب المتعلّق بذي المقدّمة لا يكاد يدعو إلى المقدّمة; لأنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه.
فالالتزام بالوجوب الغيري إنّما هو لأن يدعو إلى الإتيان بالمقدّمة لأجل تحقّق ذيها، وبدونه لا يكون هنا ما يدعو إليه بعد عدم كون الأمر بذي المقدّمة صالحاً للدعوة إلى غير المتعلّق.
ومن الواضح: أنّ هذا المناط موجود في المقدّمات الخارجيّة; لكونها مغايرة لذي المقدّمة ماهيّة ووجوداً، فالأمر الداعي إليها لابدّ وأن يكون غير الأمر المتعلّق بذيها.
وأمّا المقدّمات الداخليّة، فلا حاجة فيها إلى الأمر الغيري بعد كون الأمر المتعلّق بذيها داعياً إليها; لعدم كون المركّب مغايراً لها; لأنّه إجمالها وصورتها الوحدانيّة، وتلك تفصيله وتحليله، وهو لا ينافي مقدّميّة الأجزاء; لأنّ المقدّمة إنّما هو كلّ جزء مستقلاًّ لا مجموع الأجزاء،فالأمر المتعلّق بالمركّب يدعو بعينه إلى الأجزاء، ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر داعياً إلى غير متعلّقه; لأنّ الاجزاء هي نفس المركّب، والفرق إنّما هو بالإجمال والتفصيل، والبساطة والتحليل.
وتقريب البراءة على ما ذكرنا أنّ الأمر يدعو إلى الأجزاء بعين دعوته إلى المركّب، ويترتّب على ذلك أنّ الحجّة على الأجزاء إنّما هي بعينها الحجّة على المركّب، لكن مع قيام الحجّة على الأجزاء التي ينحلّ إليها. وأمّا مع عدم
( صفحه 233 )
قيامها على جزئيّة بعض ما تحتمل الجزئيّة فيه، فلا يكون الأمر بالمركّب داعياً إلى ذلك الجزء المشكوك أيضاً; لعدم العلم بتعلّق الأمر بما ينحلّ إليه.
ومن المعلوم أنّ تماميّة الحجّة تتوقّف على إحراز الصغرى والكبرى معاً، ومع الشكّ في إحداهما لا معنى لتماميّتها المصحّحة للعقاب; لعدم كونه عقاباً من دون بيان، ومؤاخذة بلا برهان، فاللاّزم العلم بتعلّق الأمر بالمركّب وبأجزائه التحليليّة أيضاً، وبدون ذلك تجري البراءة العقليّة الراجعة إلى قبح العقاب المذكور، وثبوت الارتباط بين الأجزاء على ما هو المفروض لا يقدح في جريان البراءة عقلاً بعد عدم تماميّة الحجّة بالإضافة إلى مشكوك الجزئيّة.
ولا يتفاوت في جريان البراءة بين القول بكون مدلول ألفاظ العبادات خصوص الصحيح منها، وبين القول بالأعمّ من الفاسد; لما حقّقناه في الاُصول(1) من أنّ مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيين مسألة مستقلّة لا يبتني جريان البراءة فيها وعدمه على مسألة الصحيح والأعمّ; وإن ذهب جماعة كالمحقّق النائيني (قدس سره) (2) إلى أنّ الصحيحي لابدّ وأن يقول بجريان قاعدة الاشتغال في مسألة الأقلّ والأكثر، ولكنّه ممنوع.
نعم، على تقدير تصوير الجامع على بعض الوجوه، كالتصوير على النحو الذي اختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) في الكفاية(3)، لا محيص عن الالتزام بقاعدة
- (1) سيرى كامل در اصول فقه 12: 350 ـ 351.
- (2) فوائد الاُصول 1 ـ 2: 66 ـ 67، هداية المسترشدين 1: 484، نهاية النهاية في شرح الكفاية 1: 41.
- (3) كفاية الاُصول: 39 ـ 44.
( صفحه 234 )
الاشتغال، كما أوضحناه في محلّه(1).
ثمّ إنّه لسيّدنا الاُستاذ البروجردي (قدس سره) تقريب آخر لجريان البراءة تبعاً لبعض الأعلام(2); وهو: أنّ الأمر مع كونه واحداً حقيقة له أبعاض كثيرة يتعلّق كلّ واحد منها بجزء من أجزاء متعلّقه; وذلك لأنّ المركّبات الشرعيّة مركّبات اعتباريّة، والمراد بها هي الأشياء المتغايرة في الحقيقة، المتكثّرة في الوجود، مع اعتبار الوحدة فيها باعتبار ترتّب حكم واحد عليها، وكونها معنونة بعنوان حسن، بخلاف المركّبات الحقيقيّة.
وحينئذ فإذا تعلّق أمر واحد بتلك الأشياء، فقد تعلّق بكلّ واحد منها بعض ذلك الأمر الواحد، وحينئذ فإذا شكّ في متعلّقه من حيث القلّة والكثرة، فقد شكّ بعد العلم بتعلّق أبعاضه المعلومة إلى الأجزاء المعلومة في تعلّق بعضه بالجزء المشكوك، فيحكم العقل بالبراءة وعدم تنجّز ذلك الأمر بالإضافة إلى البعض المشكوك على تقدير تعلّقه بالأكثر واقعاً، ولا ينافي ذلك تنجّزه بالنسبة إلى أبعاضه المعلومة.
ولا منافاة بين كون الأمر واحداً حقيقة، وكونه ذا أبعاض كثيرة; إذ هو نظير بعض الاُمور الخارجيّة، الذي يكون واحداً حقيقة مع كونه ذا أبعاض كثيرة، كالماء الواقع في الحوض مثلاً; فإنّه مع كونه واحداً; لمساوقة الاتّصال
- (1) سيرى كامل در اصول فقه 2: 138 وما بعدها، اُصول فقه شيعه 2: 57 وما بعدها.
- (2) انظر فوائد الاُصول 4: 226، ورسالة الصلاة في المشكوك للنائينى: 293 ـ 303، وكتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 193 ـ 194، ويأتي الإشارة إليه حكايةً عن المحقّق النائيني في ص250 ـ 252.
( صفحه 235 )
مع الوحدة على ما قرّر في محلّه(1)، يعدّ له أبعاض، بل قد يكون بعضه معروضاً لعرض كالحمرة، وبعضه الآخر معروضاً لضدّ ذلك العرض كالصفرة مثلاً فلا منافاة بينهما أصلاً(2).
فانقدح من البحث في المقامين أنّ الأقوى جريان البراءة العقليّة في كليهما، وهل يكفي ذلك في الذهاب إلى جريانها في مسألة اللباس المشكوك، أو أنّه لا يكفي ذلك; لوجود عنوان ثالث في المقام مانع عن التمسّك بالبراءة، وهو الشكّ في المحصّل، كما اختاره سيّدنا الاُستاذ المذكور (قدس سره) ؟ حيث إنّه بعد الحكاية عن الشيخ الأعظم (قدس سره) (3) القول بالبطلان في المقام، مع ذهابه إلى البراءة في المسألتين المذكورتين(4)، وبعد نقل اعتراض بعض من أجلاّء تلامذة الميرزا الشيرازي (قدس سره) عليه(5); بأنّه لا مجال للبطلان مع اختيار البراءة فيهما، قال ما ملخّصه: إنّ ظاهر الأدلّة المانعة عن الصلاة في أجزاء غير المأكول، أنّ المعتبر في الصلاة أن لا تقع في شيء من أجزاء كلّ فرد من أفراد ما لا يؤكل لحمه.
وبعبارة اُخرى: المعتبر هو عدم تحقّق هذه الطبيعة المتوقّف على عدم وجود شيء من أفراده، وينتزع منه مانعيّة كلّ فرد لا بنحو يكون كلّ فرد مانعاً مستقلاًّ حتّى يلازم ذلك كون القيد هو عدمه بنحو الاستقلال، بحيث
- (1) الشفاء (الالهيّات): 98 ـ 99، الحكمة المتعالية 2: 95 ـ 97، موسوعة كشّاف اصطلحات الفنون والعلوم 2: 1774، كفاية الاُصول: 463، حقائق الاُصول 2: 454.
- (2) نهاية التقرير 1: 368 ـ 370.
- (3) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 319 و 352 ـ 353.
- (4) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 121 ـ 122 و 322 ـ 323، المتقدّمتين في ص220 و 230.
- (5) فوائد الاُصول 4: 165 ـ 181، رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني 261 ـ 272.
( صفحه 236 )
كانت هناك قيود متعدّدة حسب تعدّد الوجودات المانعة، بل بمعنى أنّه حيث كان القيد هو عدم تحقّق الطبيعة، فوجودها مانع عنه.
ومن المعلوم أنّ تحقّق الطبيعة إنّما يكون بوجود كلّ فرد منها، فمانعيّة
وبر الأرانب إنّما هي لتحقّق الطبيعة به، وكذا مانعيّة وبر الثعالب
وغيره ممّا لا يؤكل لحمه. وهذا بخلاف عدم الطبيعة; إذ هو ليس شيئاً حتّى يكون له مصاديق وأفراد، بل هو أمر واحد باعتبار من العقل بعد إضافته
إلى طبيعة خاصّة.
ومن الواضح: لزوم إحراز هذا القيد; وهو عدم تحقّق الطبيعة المذكورة، ومع الإتيان بالصلاة في اللباس المشكوك لا يعلم بحصول الشرط، فلا يعلم بتحقّق المشروط، وهذا من دون فرق بين أن نقول برجوع الشرائط
الشرعيّة إلى الشرائط العقليّة، كما اختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) ، وبين أن نقول بأنّ الشرطيّة والمانعيّة إنّما تنتزعان من تقييد المأمور به بوجود شيء، أو بعدمه; فإنّه على كلا المذهبين لابدّ من إحراز وجود القيد بعد كونه أمراً واحداً مبيّناً مفهوماً(1).
ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما عرفت(2) من أنّ عدم الطبيعة لا يكون إلاّ كوجودها، فكما أنّ وجودات الطبيعة متعدّدة متكثّرة، كذلك أعدام الطبيعة; فإنّها أيضاً متعدّدة، فعدم الطبيعة بعدم زيد يغاير عدمها بعدم عمرو، وهكذا، ولا مانع من اتّصاف الطبيعة في آن واحد بالوجود والعدم معاً، كاتّصافها
- (1) نهاية التقرير 1: 370 ـ 372.
- (2) في ص226.