( صفحه 253 )
أو مقارن أو ملازم له، مع أنّ لازم ذلك كون الشرائط متعلّقة لبعض الأمر النفسي، فلا يبقى مجال للاتّصاف بالوجوب الغيري فيها أيضاً، كما لا يخفى.
ورابعاً: أنّ تعلّق الأمر بالتقيّد بالعدم في باب الموانع لا يستلزم تعلّق النهي بها; لعدم كون حقيقة النهي عبارة عن طلب الترك، بل هي كما عرفت(1)عبارة عن الزجر عن الوجود، كما أنّ معنى الأمر هو البعث إلى إيجاد الفعل المأمور به، وكما أنّ تعلّق بعض الأمر إلى وجود الشرط لا يقتضي تعلّق النهي
بعدمه، كذلك تعلّقه إلى عدم المانع لا يوجب تعلّق النهي بوجوده.
وخامساً: أنّه على تقدير صحّة دعوى تعلّق النهي بالمانع نقول:
إنّ مناط جريان أصالة الحلّية في المقام هو تحقّق عنواني الحلال والحرام، لا ثبوت النهي وعدمه، ولا ملازمة بين تعلّق النهي بالمانع، وثبوت عنوان التحريم بالإضافة إليه.
واستعمال العنوانين في الروايات في الموارد الكثيرة(2) في باب الشروط والموانع وإن كان ممّا لا مجال لإنكاره، إلاّ أنّ كون الوجه فيه هو ثبوت الأمر والنهي التكليفيّين بالنحو الذي أفاده لم يقم عليه دليل; لاحتمال أن يكون الوجه فيه هو كون المراد بالحليّة والحرمة فيها هي الحليّة والحرمة الوضعيّتين، كما عليه يبتني الوجه الثالث من وجوه الاستدلال بأصالة الحلّية على ما يأتي، فلا دلالة لتلك الروايات على ما أفاده (قدس سره) ، وقد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ هذا الوجه أيضاً غير تامّ.
- (1) في ص224 ـ 226.
- (2) تقدّمت في ص244 ـ 245.
( صفحه 254 )
الوجه الثالث: ما يظهر من المحقّق القمّي (قدس سره) من أنّ المراد من الحليّة والحرمة في قوله (عليه السلام) في رواية ابن سنان: «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال...»(1) ليس خصوص الحلّية والحرمة التكليفيّتين; أي ما يكون مبغوضاً بنفسه لأجل المفسدة الملزمة الباعثة على الزجر عنه لنفسه، أو غير مبغوض كذلك، بل يعمّ الحلّية والحرمة الوضعيّتين; أي ما يكون مبغوضاً; لكونه مانعاً مثلاً عن حصول مطلوب المولى، أو غير مبغوض كذلك.
فكما أنّه إذا تردّد مائع بين كونه خمراً أو ماءً، يكون مقتضى الرواية جواز شربه وعدم وجوب الاجتناب عنه، فكذا إذا تردّد أمر الثوب بين صحّة الصلاة الواقعة فيه; لعدم كونه من أجزاء غير المأكول، وبين بطلانها فيه;
لكونه من أجزائه، يكون مدلول الرواية حليّة الصلاة فيه; لكون الثوب أيضاً شيئاً فيه حلال باعتبار عدم كونه مانعاً عنها، وحرام باعتبار كونه مانعاً، فالصلاة فيه حلال إلى أن تعرف الحرام منه بعينه فتدعها(2).
ونفى البعد عن الاعتماد على هذا الوجه سيّدنا الاُستاذ (قدس سره) مع تتميمه; بأن يقال: إنّ التتبّع والاستقراء في كلمات العرب واستعمالاتهم لفظي الحلال والحرام في النثر والنظم، يقضي بأنّ هذه المادّة ـ أي مادّة «حرم» في ضمن أيّة صيغة كانت ـ يراد منها الممنوعيّة والمحدوديّة الثابتة للشيء بتمام الجهات أو بعضها، كما يظهر بالتدبّر في قولهم: «حرم الرجل» أو «حريم البيت»، أو القرية، أو البلد، أو المسجد الحرام، أو الشهر الحرام، أو محروميّة الرجل في مقابل
- (1) تقدّمت في ص245.
- (2) جامع الشتات 2: 776 ـ 777.
( صفحه 255 )
مرزوقيّته مثلاً، أو كونه محترماً وصالحاً للاحترام، أو المحرم في مقابل المحلّ.
وفي الشرعيّات كثير، كقوله ـ تعالى ـ : ( أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوا ْ )(1). وقوله (صلى الله عليه وآله) : المسلم محرّم عن المسلم(2). والتعبير عن تكبيرة الافتتاح بـ «تبكيرة الإحرام»، وعن التسليم الذي هو آخر أفعال الصلاة بـ «التحليل»(3); فإنّ المراد في جميع هذه الموارد هو نحو من الممنوعيّة والمحدوديّة الثابتة للشيء ببعض الجهات، أو الآتية من قبله، وفي مقابلها: الحلال، والحلّ، والمحلّ، وأشباهها ممّا اُخذت فيه مادّة هذه الصيغ; فإنّ معناها هو الإطلاق والإرسال وعدم المحدوديّة الثابت له.
ويؤيّده الأخبار الواردة في الموارد الكثيرة، الدالّة على حرمة الصلاة في الحرير(4)، أو فيما لا يؤكل لحمه(5)، أو في الذهب(6)، وقد تقدّم(7) نقل بعضها في كلام المحقّق النائيني (قدس سره) ، وحينئذ فلا يبعد التمسّك بقوله (عليه السلام) : «كلّ شيء فيه حلال وحرام...»; لأنّ اللباس أيضاً شيء فيه حلال باعتبار عدم محدوديّته وإطلاقه بالنسبة إلى الصلاة فيه، وحرام باعتبار خلافه، والمشكوك منه يكون كالمائع المردّد بين الخمر والخلّ.
- (1) سورة البقرة 2: 275.
- (2) المسند لابن حنبل 7: 238 ح2005، سنن النسائي 5: 83 ، المعجم الكبير للطبراني 19: 407 ح969، وفيها: «كلّ مسلم على مسلم محرّم».
- (3) الكافي 3: 69 ح2، الفقيه 1: 33 ح68، وعنهما وسائل الشيعة 6: 11، كتاب الصلاة، أبواب تكبيرة الإحرام والافتتاح ب1 ح10.
- (4 ـ 6) وسائل الشيعة 4: 367 ـ 371، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي ب11، وص345 ـ 347 ب2، وص412ـ416 ب30.
- (7) في ص251 ـ 252.
( صفحه 256 )
ودعوى أنّ إطلاق الحلال والحرام على الثوب باعتبار صحّة الصلاة فيه وبطلانها خلاف المتعارف; إذ إطلاقهما على اللباس ينصرف إلى جواز لبسه وعدمه، ولا يفهم منه جواز الصلاة فيه وعدمه.
مدفوعة بأنّه وإن كان خلاف المتعارف، لكن اختصاص الحكم في أدلّة أصالة الحليّة بما لا يكون كذلك ممنوع; لأنّ المتفاهم منها عرفاً إثبات الحلّية الظاهريّة في المشتبه، من دون فرق بين مورد تعارف الإطلاق وعدمه أصلاً(1).
ويؤيّد ما أفاده سيّدنا الاُستاذ وضوح عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة للّفظين، وأنّ إطلاقهما في الشريعة إنّما هو على طبق ما هو معناهما بحسب اللغة والعرف، غاية الأمر أنّ المحدوديّة في لسان الدليل الشرعي ظاهرة في المحدوديّة الشرعيّة، من دون أن يكون هذا الوصف داخلاً في المعنى بوجه، وقد عرفت أنّ اللغة والعرف متطابقان على كون معناهما نحواً من المحدوديّة وعدمه.
والظاهر أنّ الأخبار المذكورة ناظرة إلى هذا الوجه، لا إلى الوجه الذي اختاره المحقّق المزبور، وإلاّ لكان المناسب جعل الحرمة متعلّقة فيها باللباس، مع أنّها ظاهرة في تعلّقها بالصلاة فيه، فتدبّر.
في التمسّك بأصالة العدم في المقام
قد تقدّم(2) أنّ صاحب الجواهر (قدس سره) بنى الحكم بالصحّة وعدمها في مسألة اللباس المشكوك على الشرطيّة والمانعيّة; نظراً إلى أنّه على تقدير الشرطيّة
- (1) نهاية التقرير 1: 383 ـ 385.
- (2) في ص199 ـ 200.
( صفحه 257 )
لابدّ من إحراز الشرط، ولا يكفي احتماله في مقام الامتثال. وأمّا على تقدير المانعيّة فيكفي أصالة عدم المانع ولو لم يكن له حالة سابقة.
أقول: لابدّ من ملاحظة الدليل على اعتبار هذا الأصل، وما يمكن أن يستدلّ به أحد اُمور:
الأوّل: استمرار سيرة العقلاء عليه، وأنّ بناءهم على العدم عند الشكّ من دون لحاظ الحالة السابقة.
والجواب عنه: منع الصغرى والكبرى معاً; لعدم ثبوت السيرة على ما ذكر وإن قيل بثبوتها في بعض الموارد النادرة، كما في باب الأنساب، وعدم حجّيتها على تقدير ثبوتها; لاحتياجها إلى دليل الإمضاء، وهو لم يثبت.
الثاني: كون العدم أولى بالماهيّة من الوجود; لأنّه يكفي في استمراره وعدم انقطاعه عدم حدوث علّة الوجود، فالعدم أولى.
والجواب عنه واضح; لأنّ تساوي نسبة الممكن وماهيّته إلى طرفي الوجود والعدم، وعدم ثبوت مزيّة لأحدهما بوجه، تمنع عن ثبوت الأولويّة، ومجرّد كون علّة العدم هي عدم علّة الوجود لا توجب ثبوتها، كما هو ظاهر.
الثالث: تنزيل أدلّة الاستصحاب على هذا الأصل لا عليه، بتقريب أن يقال: إنّ المراد من الشكّ في قوله (عليه السلام) : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت»(1) ليس الشكّ الذي تعلّق بما تعلّق به اليقين; وهي الطهارة، بل المراد هو الشكّ في وجود الحدث الناقض لها، فالمعنى حينئذ أنّه لا يضرّ
- (1) تهذيب الأحكام 1: 421 ح1335، الاستبصار 1: 183 ح641، علل الشرائع: 361 ب80 ح1، وعنها وسائل الشيعة 3: 466، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات ب37 ح1.