( صفحه 26 )
الزينة الخلقيّة، بل يمكن أن يقال بالاختصاص بخصوص الزينة الخلقيّة التي هي الأساس في الجهة المطلوبة من النساء. وعليه: يكون النهي عن إبداء الزينة عبارة اُخرى من النهي عن إبداء أنفسهنّ، والسرّ في هذا التعبير بيان نكتة الحكم; وهي:
أنّ النهي إنّما هو لأجل كون النساء زينة بتمام أعضائهن، واستثناء ما ظهر يدلّ على أنّهنّ وإن كنّ زينة بتمام الأعضاء، إلاّ أنّ منها: ما تكون زينة غير ظاهرة، ومنها: ما تكون زينة ظاهرة.
ومن الواضح حينئذ: أنّ المراد بالزينة الظاهرة ليس إلاّ مثل الوجه والكفّين، والتعبير بما ظهر بصورة الفعل الماضي لعلّه كان لإفادة أنّ مثلهما كان ظاهراً في السابق قبل نزول الآية، كقوله ـ تعالى ـ : ( وَأَن تَجْمَعُوا ْ بَيْنَ الاُْخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ )(1). وعليه: يكون الاستثناء منقطعاً ولا بأس به.
فالآية على هذا التقدير تدلّ على جواز إبداء الوجه والكفّين وعدم حرمة كشفهما، ولا ينافي ما ذكرنا إضافة الزينة إلى النساء في المستثنى منه، الظاهرة في المغايرة بين الزينة وبين الأعضاء; لأنّ هذه الإضافة إنّما هي كإضافة الأنفس إليهنّ، فكأنّه قال: ولا يبدين أنفسهنّ إلاّ ما ظهر منهنّ، فتدبّر.
وأمّا ما ربما يقال(2): من أنّ الظاهر أنّ المراد بالزينة التي تعلّق النهي بإبدائها هي مواضع الزينة، فالمراد بالزينة حينئذ هو الأمر الصناعي الزائد على الخلقة.
- (1) سورة النساء 4: 23.
- (2) المستند في شرح العروة الوثقى، موسوعة الإمام الخوئي 12: 66.
( صفحه 27 )
فيرد عليه أوّلا: أنّه خلاف الظاهر; لابتنائه على التقدير الذي هو خلاف الأصل، وثانياً: أنّه لو كان المراد مواضع الزينة، فيلزم أن لا تكون الآية متعرّضة لحكم غير مواضع الزينة، فلا دلالة لها حينئذ على حرمة إبداء غير تلك المواضع.
ودعوى أنّ ما يقع في معرض الإبداء مواضع الزينة لا غيرها، مدفوعة بأنّه قد يقع غيرها في معرض الإبداء أيضاً، والظاهر أنّ الآية في مقام إفادة حكم كلّي من هذه الجهة.
والحقّ أن يقال: إنّ المرأة بنفسها زينة إلهيّة خلقيّة، كما قال به الفخر الرازي في تفسيره، واستدلّ عليه بوجهين:
الأوّل: أنّ الكثير من النساء ينفردن بخلقتهنّ عن سائر ما يعدّ زينة، فإذا حملناه على الخلقة وفينا العموم حقّه، ولا يمنع دخول ما عدا الخلقة فيه أيضاً.
الثاني: أنّ قوله: ( وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) يدلّ على أنّ المراد بالزينة ما يعمّ الخلقة وغيرها، فكأنّه ـ تعالى ـ منعهنّ من إظهار محاسن خلقتهنّ; بأن أوجب سترها بالخمار(1).
ومن جميع ما ذكرنا ظهر عدم تماميّة ما تقدّم(2) نقله عن ابن مسعود; من أنّ المراد بالزينة الظاهرة هي الثياب; لأنّه بعد كون المراد بالمستثنى منه ـ الذي هي الزينة ـ أعضاءها ونفسها، لا يبقى مجال لكون المراد من المستثنى هي الثياب التي تكون زائدة على الخلقة، فكما يكون المستثنى منه ناظراً
- (1) التفسير الكبير للفخر الرازي 8 : 363 ـ 364.
- (2) في ص24.
( صفحه 28 )
إلى المرأة بنفسها وأعضائها، يكون المستثنى أيضاً راجعاً إليها ومن جملة أعضائها، كما لا يخفى.
وأمّا الجهة الثانية، فالظاهر أنّ قوله ـ تعالى ـ : ( وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) ناظر إلى ستر النحر والصدر والعنق، ويكون النظر فيه بعد النهي عن إبداء الزينة إلاّ ما ظهر منها الإرشاد إلى كيفيّة العمل بقوله ـ تعالى ـ : ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا )، وأنّ ضرب الخمر على الجيب يكفي في تحقّق موافقة النهي; لكون سائر الأعضاء مستوراً عادة، فضرب الخمار على الجيب كاف في تحقّق عدم إبداء غير الزينة الظاهرة.
ويمكن أن يكون الوجه فيه دفع توهّم كون الاُمور المذكورة ـ أي النحر والصدر والعنق ـ من الزينة الظاهرة; لكونهنّ يجعلنّ طرفي الخمار على ظهرهنّ على خلاف وضعه الطبيعي، ولأجله يمكن التوهّم المذكور، وقد دفعه الله بقوله ذلك، وبيّن أنّه يجب إرخاء الخمار على الجيب، وجعله بمقتضى وضعه الطبيعي ليتحقّق ستر الاُمور المذكورة.
وعلى أيّ تقدير، فلا دلالة له على وجوب ستر الوجه; لأنّ مفاده إنّما هو وجوب جعل طرفي الخمار على الجيب ـ وهو ضلع أعلى القميص ـ ليستر ما ظهر من الصدر والعنق، ولا يقتضي ستر الوجه أصلا، بل يستفاد منه أنّ تغطية الوجه لا تكون مدلولة لقوله ـ تعالى ـ : ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ )، بل تكون مصداقاً لقوله ـ تعالى ـ : ( إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ).
وأمّا الجهة الثالثة، فقد قال بعض أفاضل الهند في رسالته في الحجاب المسمّـاة بإسداء الرغاب في مسألة الحجاب: أنّ قوله ـ تعالى ـ في الأوّل:
( صفحه 29 )
( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ... ) ليس ناظراً إلى فرض وجود الأجنبي والعلم به، غاية الأمر أنّه نعلم من الخارج عدم تضيّق الحكم بنحو يعمّ وجوده وعدمه، ولهذا نقول: إنّه ناظر إلى صورة مظنّة وجود الناظر وإن لم نعلم به.
وعليه: فلا مانع من إظهار الوجه والكفّين في هذه الصورة. وأمّا قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك: ( وَ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ )، فالمفروض في مورده صورة وجود الناظر والعلم به. وعليه: فالإبداء المنهيّ عنه في هذه الصورة يكون خالياً عن الاستثناء، ويعمّ الباطنة والظاهرة معاً، فإبداء الوجه والكفّين في صورة وجود الناظر منهيّ عنه وإن كانتا من الزينة الظاهرة; لخلوّ هذه الجملة الشريفة من الاستثناء(1).
والظاهر أنّ الالتزام بما أفاده في بيان معنى الآية مشكل جدّاً، بل ظاهر الآية يأباه; لظهورها في اتّحاد معنى الجملتين وعدم اختلاف موردهما; والوجه في التكرار إنّما هو استثناء المحارم الذين لا يحرم للمرأة إبداء الزينة
غير الظاهرة لهم، وعدم استثناء الزينة الظاهرة في هذه الجملة إنّما هو للاتّكال على وضوحه بقرينة الجملة السابقة، مضافاً إلى أنّ الروايات أيضاً
تدلّ على أنّ الجملتين بمعنى واحد، وسيأتي(2) نقل بعضها.
وأمّا الجهة الرابعة، وهي: أنّ المراد من قوله ـ تعالى ـ : ( وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ) ماذا؟ ويجري فيه احتمالان:
الأوّل: أن يكون المراد ضرب الرجل على الأرض ليعلم ذلك.
- (1) لم نعثر على الكتاب.
- (2) في ص31 ـ 32.
( صفحه 30 )
الثاني: أن يكون المراد ضرب الرجل بعضه ببعض لهذه الغاية، وعلى أيّ تقدير، فقوله ـ تعالى ـ : ( لِيُعْلَمَ... ) قيد للمنهي لا للنهي، والمراد من ذلك كون متعلّق النهي هو الضرب لهذا الغرض، فمجرّد الضرب ـ ولو لغرض آخر وإن ترتّب عليه الاطّلاع على ما يخفين من زينتهنّ ـ لا يكون منهيّاً عنه; لأنّ الضرب للغرض المذكور مقدّمة لتحريك الرجال وجلب توجّههم إليهنّ، فيترتّب عليه المفاسد.
ومن ذلك ظهر أنّ المراد بالزينة في هذه الجملة هي الزينة الزائدة على الخلقة كالخلخال; لأنّها هي التي يكون الضرب بالأرجل موجباً للاطّلاع عليها والعلم بها. وأمّا زينة الخلقة، فلا يتوقّف ظهورها على ذلك.
وعليه: فيتحقّق هنا شاهد آخر على أنّ المراد بالزينة الظاهرة في الاستثناء الواقع في صدر الآية هي الزينة الخلقيّة، التي تكون على قسمين: ظاهرة، وباطنة; لأنّ الزينة الزائدة التي وقع التعرّض لها في الذيل يكون إنقسامها بالإخفاء والإظهار، لا بالخفاء والظهور.
فانقدح الفرق بين الصدر الذي وقع الاستعمال فيه بنحو الفعل اللاّزم، والذيل الذي وقع الاستعمال فيه بنحو الفعل المتعدّي، وأنّ الأوّل ناظر إلى الزينة الذاتيّة الخلقيّة، والثاني ناظر إلى الزينة العرضيّة الزائدة، وبذلك يظهر البحث في الجهة الخامسة من الجهات المتقدّمة.
هذا كلّه بالنظر إلى نفس مفاد الآية مع قطع النظر عن الروايات الواردة في تفسيرها.
وأمّا بلحاظ الروايات، ففي تفسير نور الثقلين، عن الكافي، عن زرارة،