( صفحه 261 )
كانت متيقّنة قد شكّ في بقائها بعد تحقّق الموضوع، فلا مانع من استصحابها، ويترتّب عليه انتفاء المحمول، وهو المطلوب.
ويرد عليه ـ مضافاً إلى أنّه لا تبعد دعوى أنّ القضيّة السالبة بانتفاء الموضوع مغايرة عرفاً للقضيّة السالبة بانتفاء المحمول، ومجرّد اتّحادهما لفظاً وصورة لا يوجب اتّحادهما حقيقة، ومع المغايرة لا مجال للاستصحاب; للزوم اتّحاد القضيّة المتيقّنة مع القضيّة المشكوكة ـ : أنّ استصحاب الحالة السابقة مع انتفاء الموضوع وإن كان صحيحاً من حيث وجود الحالة السابقة، إلاّ أنّ تطبيق تلك الحالة على الحالة اللاّحقة المشروطة بوجود الموضوع يكون بحكم العقل، فيصير حينئذ من الاُصول المثبتة التي لا نقول بها.
الثاني: أنّ العدم النعتي وإن كان موضوعاً في أدلّة غير المأكول، إلاّ أنّه لا ينافي جريان الاستصحاب بالنسبة إلى العدم الأزلي، وتوضيحه يتوقّف على بيان مقدّمتين:
الاُولى: أنّ معنى أخذ العامّ موضوعاً للحكم هو ملاحظته مع جميع الحالات الطارئة، فمرجع قوله: «أكرم العلماء» إلى قوله: «أكرم العلماء; سواء كانوا عدولاً، أم لا، وسواء كانوا هاشميّين، أم لا، وسواء كانوا كذا وكذا، أم لا»، فكلّ واحدة من هذه الصفات ملحوظة مع نقيضها في مقام الحكم.
الثانية: أنّه إذا دلّ الدليل على خروج بعض تلك العوارض عن حكم العامّ تكون بقيّة العوارض والعناوين داخلة فيه، بلا لزوم تعنونه بعنوان كونه غير ذلك العنوان الخاصّ الخارج عنه، فإذا شكّ في صدق عنوان الخاصّ على فرد، ولم تكن له حالة سابقة، وكان لبعض العناوين الباقية حالة سابقة،
( صفحه 262 )
يستصحب ذلك العنوان ويحكم عليه بحكم العامّ.
ففي مثل قوله: «كلّ امرأة ترى دم الحيض إلى خمسين»(1) يكون مفاده ثبوت هذا الحكم على جميع العناوين; سواء كانت المرأة قرشيّة، أو كانت غير قرشيّة، على نحو مفاد كان الناقصة، أو كانت المرأة التي لم توجد بينها، وبين قريش نسبة، أو لم توجد بينها، وبين غير قريش نسبة على نحو مفاد ليس التامّة; فإنّ نقيض كلّ شيء رفعه، ورفع مفاد كان الناقصة ليس خصوص ليس الناقصة، بل أعمّ منها ومن ليس التامّة.
فإذا دلّ الدليل على خروج القرشيّة، وأنّها ترى الدم إلى ستّين، لم يكن خروجها موجباً لتعنون العامّ، بل مقتضاه خروج هذا العنوان وبقاء البقيّة تحت العامّ، فإذا شكّ في كون المرأة قرشيّة أم لا; فإنّه وإن لم تكن له حالة سابقة على نحو مفاد كان الناقصة، إلاّ أنّه لا ينافي إحراز عدم القرشيّة على نحو «ليس التامّة» باستصحاب العدم الأزلي، والمفروض بقاء هذا العنوان تحت العامّ، فيشمله حكمه، وهكذا الكلام في المقام.
ويرد على هذا الوجه ـ مضافاً إلى إمكان منع كلتي المقدّمتين; لأنّ مرجع العموم إلى ملاحظة جميع الأفراد بعنوان كونها من مصاديق العامّ فقط، لا إلى ملاحظة جميع العناوين والحالات الطارئة، فالعالم العادل ملحوظ بما أنّه عالم، وكذا العالم الهاشمي، لا بما أنّهما عالم عادل وعالم هاشميّ، بل يمكن دعوى عدم معقوليّة ملاحظة الحالات المتضادّة في موضوع الحكم، بحيث كان لكلّ حالة مدخليّة في ترتّب الحكم وثبوت الأثر.
- (1) وسائل الشيعة 2: 335، كتاب الطهارة، أبواب الحيض ب31.
( صفحه 263 )
وكذا مرجع التخصيص إلى تعنون العامّ بعنوان كونه غير ذلك العنوان الخاصّ; فإنّه وإن لا يكون مستلزماً للمجازيّة الموجبة لاستعمال العامّ من الأوّل في غير عنوان المخصّص، إلاّ أنّ تصرّفه في الإرادة الجدّية وقصرها فيما عدا ذلك العنوان ممّا لا مجال لإنكاره، فالإرادة الجدّية متعلّقة بعنوان كونه غيره ـ :
أنّه على تقدير تسليم كلتي المقدّمتين نقول: إنّ عدم تحقّق النسبة بنحو ليس التامّة لا يكون له حالة سابقة; لأنّ النسبة من الاُمور ذات الإضافة، ومتقوّمة بالمنتسبين.
وحينئذ نقول: إنّ عدم تحقّق النسبة إن كان المراد به هو عدم تحقّقها بنحو كلّي، لا مضافة إلى مرأة خاصّة، فهو وإن كان له حالة سابقة، إلاّ أنّ انتقاض تلك الحالة مسلّم ولا شكّ فيه أصلاً، وإن كان المراد به هو عدم تحقّقها بالإضافة إلى مرأة خاصّة وقع الشكّ في قرشيّتها، فهو ليس له حالة سابقة بوجه، فهذا الوجه أيضاً غير تامّ.
الثالث: الاستصحاب التعليقي; بأن يقال: إنّ المصلّي كان قبل لبس المشكوك بحيث لو صلّى لم تكن صلاته واقعة في غير المأكول، وبعد لبسه يشكّ في بقاء هذه القضيّة التعليقيّة، فتستصحب ويحكم ببقائها.
والجواب عنه ـ مضافاً إلى أنّ جريان الاستصحاب التعليقي محلّ خلاف وإشكال ـ : أنّ مورده ما إذا كان التعليق واقعاً في لسان الدليل الشرعي، مثل قوله: «العنب إذا غلا يحرم»(1); سواء قلنا بأنّ مفاده جعل الحرمة على نحو
- (1) وسائل الشيعة 25: 287، كتاب الأطعمة والأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة ب3.
( صفحه 264 )
الواجب المشروط; بأن يكون المجعول هو الحكم على تقدير تحقّق المعلّق عليه، أو قلنا بأنّ مفاده جعل الملازمة بين الغليان والحرمة، أو سببيّة الأوّل للثّاني.
وأمّا إذا كان التعليق غير واقع في لسان الدليل الشرعي، كالتعليق الاختراعي في مثل هذا الوجه، فلا مجال لدعوى جريان استصحابه أصلاً، كما لا يخفى.
ثمّ إنّه ربما يقال بأنّه لا مانع من جريان الاستصحاب، بناءً على الوجه الأخير الذي عرفت(1) أنّه هو الظاهر من أدلّة المانعيّة في المقام، لكن لا في
جميع فروض المسألة، بل في خصوص ما إذا شرع في الصلاة في اللباس مع العلم بعدم كونه من أجزاء غير المأكول، ثمّ اُلقي عليه بعد الشروع ما يشكّ في كونه من أجزائه; فإنّه يصدق أنّ الصلاة لم تكن في أجزاء غير المأكول قبل إلقاء المشكوك عليه، والآن تكون كما كانت.
فالحالة السابقة المتيقّنة موجودة في هذه الصورة، بناءً على أن تكون الصلاة عبارة عن الحالة الخاصّة العباديّة المتحقّقة بأوّل جزء منها، والمستمرّة إلى آخر أجزائها، والأفعال والأقوال المخصوصة إنّما هي الاُمور التي يجب أن يشتغل بها في حالها.
ويؤيّده التعبير بالفراغ عنها بعد تحقّق الجزء الآخر، وكذا توصيفها بأنّ تحريمها التكبير وتحليلها التسليم، وغير ذلك من التعبيرات(2) الظاهرة في عدم
- (1) في ص260.
- (2) وسائل الشيعة 6: 415 ـ 418، كتاب الصلاة، أبواب التسليم ب1.
( صفحه 265 )
توقّف تحقّق عنوانها على تحقّق الجزء الآخر أيضاً، كما هو الشأن في المركّبات، حيث إنّه لا تحقّق لها بوجه قبل تحقّق أجزائها بأسرها.
فبناءً على الوجه الأوّل: يصدق أنّ الصلاة لم تكن في أجزاء غير المأكول، ولا مانع من استصحاب هذه الخصوصيّة، والحكم ببقائها من دون لزوم إحراز كون اللباس من غير المأكول حتّى يصير مثبتاً; لأنّ المفروض هو الوجه الثالث. نعم، لو كانت الصلاة عبارة عن مجموع الأفعال والأقوال المخصوصة، بحيث كان تحقّقها متوقّفاً على الإتيان بالجزء الآخر أيضاً، لما كانت الحالة السابقة المتيقّنة متحقّقة، كما هو ظاهر.
وأورد على ذلك سيّدنا الاُستاذ البروجردي (قدس سره) ; بأنّه على هذا التقدير أيضاً لا مجال لجريان الاستصحاب; لأنّها وإن كانت متحقّقة بمجرّد الشروع، والمفروض العلم بعدم وقوعها في اللباس المشكوك، إلاّ أنّ المستفاد من أدلّة المانعيّة أنّه يعتبر أن لا تكون من أوّل حدوثها إلى آخر بقائها واقعة في شيء من أجزاء غير المأكول، والمفروض الشكّ في ذلك، فاليقين بوجود الحالة السابقة منتف، كما في غير هذه الصورة(1).
ويمكن دفع الإيراد بأنّا لا ننكر أنّ المستفاد من أدلّة المانعيّة ما أفاده (قدس سره) ، وإلاّ لم تكن حاجة إلى الاستصحاب، بل كان وقوع ركعة منها مثلاً في المأكول كافياً وإن لم تكن البقيّة كذلك، بل نقول:
إنّ مفاد تلك الأدلّة قادحيّة الوقوع في غير المأكول; ولو كان ذلك بالإضافة إلى لحظة منها، فالمانع هذه الخصوصيّة، ونحن لا ننكرها، ولكنّه
- (1) نهاية التقرير 1: 378 ـ 379.