( صفحه 40 )
في المنتهى أنّه قال: روي عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: المرأة عورة(1).
وتقريب الاستدلال بها أنّ الظاهر كون المراد بالعورة هي السوأة، ويكون حملها على المرأة من باب التشبيه البليغ، الذي تكون أداة التشبيه فيه محذوفة ليعرف ثبوت وجه الشبه في المشبّه على نحو ثبوته للمشبّه به، حتّى كأنّ الأوّل يكون من أفراد الثاني ومصاديقه.
ولمّا كان أظهر خواصّ العورة وآثارها هو قبح إظهارها عرفاً وشرعاً، ووجوب سترها شرعاً لأجل كون إظهارها موجباً لتحريك الشهوات، وفعل ما لا ينبغي صدوره، فبذلك التشبيه البليغ يعلم ثبوت هذا الأثر في المرأة التي هي المشبّه; لأنّ ظهورها موجب لصدور الأفعال القبيحة الممنوعة عند الشرع.
ومن المعلوم أنّ ما هو المناط في وجوب الستر ثابت في الوجه على النحو الأتمّ، فتدلّ الرواية حينئذ على أنّه يجب على المرأة ستر جميع البدن حتّى الوجه والكفّين.
ويرد عليه: أنّه يمكن أن يكون المراد من العورة في الرواية ما هو معناها بحسب اللغة، وهو كلّ شيء يستره الإنسان للاستحياء من ظهوره; لكونه قبيحاً، ومن مصاديقها العورة بمعنى السوأة. وعليه: تكون المرأة من المصاديق الحقيقيّة للعورة اللغويّة; لأنّ المرأة شيء يستحيي من ظهورها; لاحتفافها
- (1) سنن الترمذي 3: 476 ح1175، صحيح ابن خزيمة 2: 814 ح1686، مجمع الزوائد 2: 35، المعجم الكبير للطبراني 10: 108 ح10115، الكامل لابن عدي 3: 423 رقم الترجمة 846 ، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، المعروف بـ «مجموعة ورّام» 2: 119، منتهى المطلب 4: 271.
( صفحه 41 )
بالأعمال القبيحة والأفعال الممنوعة التي لا ينبغي صدورها منها، وإلاّ فنفس المرأة ليست شيئاً يستحيي منها مع قطع النظر عن احتفافها بها.
ولكنّ الكلام في أنّه لو سترت المرأة جميع بدنها سوى الوجه والكفّين، فهل يتحقّق الاحتفاف حينئذ أم لا؟ والظاهر أنّ الرواية لا تكون في مقام بيان أنّ المرأة بجميع بدنها عورة، بل هي ناظرة إلى امتيازهنّ عن الرجال، وبيان أنّ الطائفتين ليستا بمتساويتين، وأنّ المرأة عورة دون الرجل، فأين الدلالة على أنّ كلّ جزء من أجزاء بدنها كذلك؟ كما لا يخفى.
ومن هذه الطائفة ما رواه الخاصّة عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: النساء عيّ وعورات، فداووا عيّهنّ بالسكوت، وعوراتهن بالبيوت(1). وقد أمر فيها بمداوى عوراتهنّ بالبيوت. ومن المعلوم أنّ المستوريّة بالبيت هي المستوريّة بجميع الأعضاء، ولكن إضافة العورات إليهنّ تدلّ على عدم كونها بتمامها عورة، ويمكن أن يكون عدم التماميّة بلحاظ كون العورة من خواصّ الجسم، ولا ارتباط لها بالروح، مع أنّ المرأة مركّبة منهما.
وكيف كان، فالظاهر أنّه لا يمكن الالتزام بالرواية; لظهورها في وجوب سترهنّ بالبيوت، وأنّه لا يجوز لها الخروج من البيت ولو مع ستر جميع
بدنها. ومن الواضح: أنّه لا يمكن الالتزام بذلك; لعدم وجوب سكونتها في البيت دائماً، وعدم خروجها منه كذلك. غاية الأمر استحباب ذلك، اللهمّ إلاّ أن يقال بالتفكيك، وأنّ الوجوب إنّما تعلّق بأصل الستر، والاستحباب تعلّق
- (1) أمالي الطوسي: 585 ح1209، وص662 ح1382، وعنه وسائل الشيعة 20: 66، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب25 ح6، وبحار الأنوار 103: 251 ح48.
( صفحه 42 )
بالستر بالبيوت، الذي هو أعلى مرتبة الستر، ولكنّه إنّما يصحّ لو تمّـت دلالة الرواية على أصل الوجوب أيضاً.
ومن الواضح: عدم تماميّتها; ضرورة أنّه لو كان هناك رواية دالّة على عدم وجوب ستر خصوص الوجه والكفّين، فهل يتحقّق التعارض بينها، وبين هذه الرواية؟ وليس ذلك إلاّ لأجل عدم دلالة هذه الرواية على وجوب ستر الأمرين أيضاً، فتدبّر جيّداً.
الطائفة الثانية: ما ورد في باب النظر إلى الأجنبيّة، وهي كثيرة:
منها: رواية علي بن عقبة، عن أبيه، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة(1).
والموضوع في الرواية وإن كان هي النظرة المطلقة، إلاّ أنّ المحمول فيها شاهد على كون المراد منه هي النظرة المحرّمة. وعليه: فلابدّ من إثبات تحريم النظر إلى الوجه والكفّين من دليل آخر، ولا دلالة للرواية عليه أصلا، فالرواية أجنبيّة عن الدلالة على حرمة النظر إليهما، وعلى تقديره فقد عرفت(2) أنّ حرمة النظر لا تستلزم وجوب الستر، بخلاف العكس.
ومنها: مرسلة ابن أبي نجران، عمّن ذكره، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ; وإن كانت مرويّة مسندة عن أبي جميلة، عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) قالا: ما من
- (1) الكافي 5: 559 ح12، عقاب الأعمال: 314 ح1، المحاسن 1: 196 ب49 ح339، وعنها وسائل الشيعة 20: 191، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح1.
- (2) في ص23.
( صفحه 43 )
أحد إلاّ وهو يصيب حظّاً من الزنا، فزنا العينين النظر، وزنا الفم القبلة، وزنا اليدين اللمس، صدق الفرج ذلك أو كذب(1).
والظاهر أنّ المراد من النظر فيها هو النظر مع التلذّذ; لدلالة لفظ
الزنا المحمول عليه على ذلك; لملازمته مع التلذّذ والتكيّف، ولكنّها
لا دلالة للرواية على أنّ النظر المحرّم ـ المحكوم عليه بكونه زنا العينين ـ
هو أيّ نظر.
اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ النساء المسلمات حيث كنّ يسترن بدنهنّ، فالعضو الواقع منهنّ في معرض النظر هو الوجه والكفّان، ولكنّ الظاهر أنّ الرواية ناظرة إلى أنّ النظر إلى العضو الذي يحرم النظر إليه يكون زناً بالنسبة إلى العينين. وأمّا أنّ النظر المحرّم ماذا، فلا دلالة لها عليه.
ومنها: رواية سعد الإسكاف، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: استقبل شابّ من الأنصار امرأة بالمدينة، وكان النساء يتقنّعنّ خلف آذانهنّ، فنظر إليها وهي مقبلة، فلمّا جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّـاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها واعترض وجهه عظم في الحائط أو زجاجة فشقّ وجهه، فلمّا مضت المرأة نظر فإذاً الدماء تسيل على ثوبه وصدره، فقال: والله لآتينّ
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولاُخبرنّه.
قال: فأتاه، فلمّا رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ماهذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية: ( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا ْ مِنْ أَبْصَـرِهِمْ وَ يَحْفَظُوا ْ فُرُوجَهُمْ
- (1) الكافي 5: 559 ح11، وعنه وسائل الشيعة 20: 191، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح2، وص326، أبواب نكاح المحرّ وما يناسبه ب14 ح2.
( صفحه 44 )
ذَ لِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرُ م بِمَا يَصْنَعُونَ )(1)،(2).
ولا يخفى أنّ المستفاد منها أنّ الأمر بالغضّ في الكريمة يكون المراد منه الأمر بالغضّ عن النظر إلى الأجنبيّة، خلافاً لما ذكرناه سابقاً(3)، واستفدناه من نفس الآية وبعض الروايات; من أنّ المراد هو الأمر بالغضّ عن النظر إلى فرج الغير وعورته، رجلا كان أو امرأة.
وكيف كان، فمفاد الآية ليس حرمة النظر إلى الوجه والكفّين أيضاً; لأنّ النساء كنّ يتقنّعنّ خلف آذانهنّ، وفي الآية قد اُمرن بإلقاء القناع على جيوبهنّ، فأين الدلالة على حرمة النظر إليهما؟ وعلى تقديره فلا دلالة لها على وجوب سترهما على النساء; لأنّ التحفّظ والتحرّز عن شقّ الوجه له طريقان: ستر النساء الوجه والكفّين، وعدم نظر الرجال إليهنّ، ولا دلالة لها
على تعيّن الأوّل.
ومنها: رواية عقبة قال: قال أبو عبدالله (عليه السلام) : النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها لله ـ عزّ وجلّ ـ لا لغيره أعقبه الله أمناً وإيماناً يجد طعمه(4).
والظاهر أنّها بعينها هي الرواية الاُولى المتقدّمة، غاية الأمر أنّ الراوي عن عقبة هناك هو ابنه، وهنا هشام بن سالم، فلا تكونان روايتين، وعلى تقديره
- (1) تقدّمت في ص9.
- (2) الكافي 5: 521 ح5، وعنه وسائل الشيعة 20: 192، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح4.
- (3) في ص10 ـ 11.
- (4) الفقيه 4: 11 ح2، وعنه وسائل الشيعة 20: 192، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ب104 ح5.