( صفحه 512 )
النحو مسندة بسند صحيح.
والثانية بما أشرنا إليه مراراً(1)، من أنّ الحاكي لفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) لو كان هو الإمام (عليه السلام) ، وكان غرضه منه بيان الحكم، غاية الأمر بهذا النحو، ومن هذا الطريق، تكون الحكاية كاللفظ الصادر منه في جواز التمسّك بإطلاقه، واستفادة الحكم من الخصوصيّات التي وقعت مورداً للتعرّض. وعليه: فالتصريح بترك الأذان في كلا موردي الجمع يكشف عن العناية بذلك، وأنّ غرضه (عليه السلام) منه هو سقوطه فيه، وثبوت الفرق بينه، وبين غيره من سائر الموارد التي لا يتحقّق الجمع فيها، كما لا يخفى.
ومثلها صحيحة عبدالله بن سنان، عن الصادق (عليه السلام) : أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين، وجمع بين المغرب والعشاء في الحضر من غير علّة بأذان واحد وإقامتين(2).
ودعوى أنّ التعرضّ لذكر ترك الأذان ليس إلاّ كالتعرّض لأصل الجمع، الذي لا مجال فيه إلاّ للحمل على مجرّد الجواز; من دون احتمال كونه على سبيل الاستحباب.
مدفوعة بأنّ التعرّض لذكر الجمع إنّما هو في مقابل العامّة القائلين بعدم جوازه(3); لاعتقادهم باختلاف مواقيت الصلاة، وتباينها من جهة الوقت،
- (1) في ج1: 67 و 233، وص451 هنا.
- (2) الفقيه 1: 186 ح886 ، وعنه وسائل الشيعة 4: 220، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب32 ح1.
- (3) الاُمّ 1: 77، المجموع: 308 ـ 322، المغني لابن قدامة 2: 112 ـ 126، الشرح الكبير 2: 114 ـ 118، بداية المجتهد 1: 174 ـ 178، الخلاف 1: 588 مسألة 351، وص591 مسألة 353، تذكرة الفقهاء 2: 365 مسألة 66، نهاية التقرير 1: 100 ـ 101 و 146 ـ 147.
( صفحه 513 )
والجمع مستلزم لورود صلاة في وقت صلاة اُخرى، فالتعرّض له لا يراد به إلاّ مجرّد عدم المنع في قبال القول به.
وأمّا التعرّض لترك الأذان، فلا محمل له إلاّ السقوط، وثبوت الفرق بينه، وبين سائر الموارد التي لا يتحقّق الجمع فيها، فالإنصاف تماميّة الاستدلال بمثل هذه الروايات على السقوط. نعم، وقع الكلام في أنّه هل هو على نحو العزيمة، أو الرخصة، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
بقي الكلام في اُمور:
الأوّل: أنّ سقوط الأذان في الموارد المذكورة هل يكون على سبيل الرخصة، أو بنحو العزيمة، أو تفصيل بين الموارد، ولابدّ قبل ذلك من التعرّض لمعنى العزيمة والرخصة.
فنقول: أمّا العزيمة، فمعناها هو عدم المشروعيّة، وثبوت الحرمة التشريعيّة لا الذاتيّة; ضرورة عدم ثبوت الحرمة الذاتيّة في المقام.
وأمّا الرخصة، فمعناها في نفسها هو جواز الترك وعدم لزوم الفعل، وحيث إنّ الأذان كان مستحبّاً، ولازمه جواز الترك، فالسقوط في تلك الموارد بمعنى الرخصة لابدّ وأن يكون المراد به أحد معنيين:
الأوّل: هي الكراهة في العبادات المكروهة التي لا بدل لها، كصوم يوم عاشوراء، ومرجعها إلى طروّ خصوصيّة للعبادة بعد الفراغ عن كونها عبادة راجحة في مقابل تركها، موجبة لأرجحيّة الترك، كانطباق عنوان أرجح على الترك، كالتشبّه ببني اُميّة في مثال الصوم المذكور، فالصوم إن لوحظ بالإضافة إلى الترك مع قطع النظر عن الخصوصيّة المذكورة يكون راجحاً،
( صفحه 514 )
ولأجله يكون عبادةً، وإن لوحظ بالإضافة إلى العنوان الأرجح المنطبق على الترك، يكون تركه أرجح من فعله.
وفي المقام نقول: إنّ الخصوصيّة المحتملة هي سرعة الإتيان بالصلاة الثانية والمبادرة إليها، وعدم الفصل بينها وبين الاُولى حتّى بالأذان، وهذا الوجه إنّما يلائم مع استحباب الجمع، كما في المواضع الثلاثة المتقدّمة، لا مع مجرّد جوازه كما في غيرها من الموارد، إلاّ أن يقال بثبوت خصوصيّة اُخرى غير المبادرة والسرعة مستكشفة من دليل السقوط فيها، ولا مجال لاعتبار العلم بتلك الخصوصيّة، كما يظهر من بعض العبارات.
الثاني: سقوط بعض مراتب الرجحان، وبقاء مراتب اُخرى كافية في أصل الرجحان والاستحباب، وبعبارة اُخرى: أقلّية الثواب بالإضافة إلى الأذان في غير موارد السقوط.
إذا ظهر معنى العزيمة والرخصة، فنقول:
لابدّ من البحث في كلّ واحد من الموارد المتقدّمة مستقلاًّ، وملاحظة دليله كذلك ليظهر حاله من هذه الجهة.
أمّا صلاة العصر يوم الجمعة، فإن كان مستند السقوط فيه هي رواية حفص المتقدّمة(1)، فلا خفاء في كون السقوط بنحو العزيمة; لتصريحها بكون الأذان الثالث يوم الجمعة بدعة، لكن عرفت عدم تماميّة الاستدلال بها، وإن كان المستند ما ذكره صاحب الجواهر (قدس سره) (2) من الإجماع القولي على
- (1) في ص507.
- (2) تقدّم تخريجه في ص506 ـ 507.
( صفحه 515 )
السقوط، والسيرة العمليّة على الترك، ففي الجواهر أنّ المرجع أصالة عدم المشروعيّة المقتضية للحرمة; لأنّه لا وجه للتمسّك بإطلاق أوامر الأذان أو عموماته; ضرورة الاتّفاق على عدم شمولها للمفروض، وإلاّ لاقتضيا بقاء ندبه(1).
وأورد عليه في المستمسك بأنّ البناء على انتفاء البعث إليه بظهور السيرة في ذلك لا يقتضي البناء على عدم المصلحة المصحّحة للتشريع والتعبّد; لاحتمال ملازمته لعنوان مرجوح، فلا موجب لرفع اليد عن دلالة الأدلّة العامّة على رجحانه ووجود المصلحة فيه; لأنّ دلالة الأوامر العامّة على
البعث والحثّ عليه بالمطابقة، وعلى وجود المصلحة المصحّحة للتشريع بالالتزام، ولا تلازم بين الدلالتين في الحجّية، فسقوط الاُولى عن الحجّية لظهور السيرة في خلافها لا يقتضي سقوط الثانية عنها، ولذا بني على التساقط في المتعارضين، وعلى كونهما حجّة في نفي الثالث(2).
والجواب عنه ما اُفيد من أنّ العمومات المذكورة مخصّصة على أيّ حال; فإنّ استحباب الأذان بمقتضى ظواهر الأدلّة مقدّمي; أي موجب لتكميل الصلاة المتعقّبة له، كما ينادي بذلك المستفيضة الدالّة على أنّ من صلّى بأذان وإقامة صلّى خلفه صفّان من الملائكة، ومن صلّى بإقامة صلّى خلفه صفّ واحد(3). فالأدلّة الدالّة على أفضليّة الأذان كلّها راجعة إلى أنّ الصلاة المتعقّبة
- (1) جواهر الكلام 9: 50.
- (2) مستمسك العروة الوثقى 5: 559.
- (3) تقدّمت في ص487.
( صفحه 516 )
للأذان أفضل من الصلاة الفاقدة له.
فلو فرضنا إطلاق هذه الأدلّة في تمام الحالات، فمقتضاها كون صلاة العصر في يوم الجمعة مع الأذان أفضل، ومقتضى الإجماع والسيرة أفضليّة الاكتفاء للعصر بإقامة وإيجادها بلا أذان، وهل هذا إلاّ التنافي بالعموم والخصوص المطلق، فالعمومات مخصّصة بهما لا محالة، ومقتضاه عدم المشروعيّة. نعم، لو كان هناك ما يدلّ على أصلها لقلنا بها، لكنّ المفروض عدمه.
وأمّا صلاة العصر يوم عرفة والعشاء بمزدلفة، فظاهر دليل السقوط فيهما هو: أنّ السقوط بنحو العزيمة; فإنّ قوله (عليه السلام) في رواية ابن سنان المتقدّمة(1): «السنّة في الأذان يوم عرفة أن يؤذن ويقيم للظهر، ثمّ يصلّي ثمّ يقوم، فيقيم للعصر بغير أذان، وكذلك في المغرب والعشاء بمزدلفة» ظاهر في أنّ الأذان
المشروع والراجح بمقتضى الإطلاقات أو العمومات الواردة فيه يكون المراد به هو الأذان في غير الموضعين بالإضافة إلى الصلاة الثانية، ففي الحقيقة تكون الرواية حاكمة ومفسّرة لأدلّة المشروعيّة، ومخصّصة لها بغير الموضعين، خصوصاً مع التصريح بترك الأذان والإتيان بها بدونه.
فالإنصاف ظهور مثل الرواية في تخصيص أدلّة المشروعيّة وتوضيح اختصاصها بغيرهما، وأنّ ما في ذهن السائل من السنّة في الأذان ينحصر بغيرهما، كما لا يخفى.