(الصفحة 300)
ومن الواضح أنّ هذا الفرض أولى لادّعائه صريحاً الانتقال الذي يكون مقتضى الأصل عدمه ، فمدعي الانتقال هو المدّعي وعليه إقامة البيّنة على الانتقال ، ومع عدمها يكون القول قول الآخر مع يمينه .
الفرض الثالث: هو الفرض الثاني مع مجرّد الإقرار بأنّه كان في يد عمرو أو ملكاً له سابقا مع السكوت عن الانتقال إليه ، وفي المتن مساواة حكمه مع الفرض الثاني أوّلا; نظراً إلى أنّ لازم الإقرار الكذائي دعوى الانتقال; لعدم انفكاكه عنه ، والإشكال في جعله منكراً لأجل يده مع حكمه بالانقلاب في الفرض الثاني بصورة الجزم ، ولعلّ الوجه فيه عدم الادّعاء صريحاً الانتقال الذي هو خلاف الأصل ويوجب مدّعيه مدّعياً ، بل ادّعى الملكيّة الفعليّة غير المنافية للإقرار باليد السابقة أو الملكيّة كذلك .
ومن الواضح شمول عبارة الكفاية المتقدّمة لهذا الفرض ، وإن استشكل في إطلاقه . وكيف كان فجعله منكراً لأجل اليد الفعلية الكاشفة عن الملكية الفعلية مع وجود الإقرار بسابقه مشكل ، كما في المتن ، من جهة وجود الدلالة الالتزامية ، ومن جهة أنّ المناط مصبّ الدعوى .
الفرض الرابع: ما لو قامت البيّنة على أنّه كان لعمرو سابقاً أو علم الحاكم بذلك ، وقد أفاد في المتن أنّ ذا اليد يده محكّمة ، ويكون القول قوله لعدم المنافاة; لأنّ هذا الفرض شبيه الفرض الأوّل ، بل المفروض في كلام المحقّق إقامة البيّنة على أنّه كان في يد زيد سابقاً(1) .
ومن الواضح أنّه لا فرق بين الأمرين ، كما أنّه لا فرق بين صورة قيام البيّنة وبين
- (1) شرائع الإسلام: 4 / 899 .
(الصفحة 301)مسألة 8: لو تعارضت البيّنات في شيء ، فإن كان في يد أحد الطّرفين ، فمقتضى القاعدة تقديم بيّنة الخارج ورفض بيّنة الداخل ، وإن كانت أكثر أو أعدل وأرجح ، وإن كان في يدهما فيحكم بالتنصيف بمقتضى بيّنة الخارج وعدم اعتبار الداخل ، وإن كان في يد ثالث أو لا يد لأحد عليه ، فالظاهر سقوط البيّنتين والرجوع إلى الحلف أو إلى التنصيف أو القرعة ، لكنّ المسألة بشقوقها في غاية الإشكال من حيث الأخبار والأقوال ، وترجيح أحد الأقوال مشكل ، وإن لا يبعد في الصّورة الأولى ما ذكرناه1.
صورة علم الحاكم بذلك ، كما لا يخفى . وليعلم أنّ هذا الفرض لا يكون فرضاً مستقلاًّ في مقابل الفرض الأول ، بل هو جزء منه ، فإنّ الملكية السابقة المفروضة في الفرض الأوّل لابدّ وأن تكون محرزة ، والاحراز قد يكون بقيام البيّنة ، وقد تكون بسبب علم الحاكم بناءً على جواز قضائه بعلمه كما قدّمناه سابقاً ، فهذا الفرض بعض منه ، لا أنّه مغاير له كما يفيد ظاهر العبارة .
الفرض الخامس: قيام البيّنة على أنّ يد زيد غصبية أو عارية أو أمانة أو نحوها من الأيادي غير الملكية ، ولا ينبغي الإشكال في تقدّم البيّنة على اليد; لأنّهما وإن كانتا أمارتين إلاّ أنّ البيّنة مقدّمة على اليد ، كما يظهر من قول النبيّ (صلى الله عليه وآله): البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر(1) . مضافاً إلى أنّ حجّية اليد منحصرة بما إذا لم تكن في مقابلها بيّنة ، وإلاّ لا يجوز الأخذ من السارق والغاصب في صورة عدم العلم ، بل قيام البيّنة كما لا يخفى .
1 ـ هذه المسألة من عويصات المسائل الفقهية وغوامضها ، وقد اضطربت فيها
- (1) تفسير القمّي: 2 / 156 ، الوسائل: 27 / 293 ، أبواب كيفيّة الحكم ب25 ح3 .
(الصفحة 302)
الأقوال واختلفت الروايات ، بل قال السيّد (قدس سره) في الملحقات: قد يختلف فتوى واحد منهم ، فيفتي في مقام ويفتي بخلافه في مقام آخر ، وربّما يدّعي الإجماع في مورد ويدّعي على خلافه الإجماع في مورد آخر ، وقد يحكم بضعف خبر ويعمل به في مورد آخر ، وقد يحملون الخبر على محمل بلا شاهد ويفتون به ، ويفرّقون بين الصور بقيود لا تستفاد من الأخبار من ذكر الشاهد السبب وعدمه ، أو كون الشيء ممّا يتكرّر كالبيع والشراء والصياغة ونحوها ، أو ممّا لا يتكرّر كالنتاج والنساجة والخياطة ونحوها ، وليس الغرض الإزرآء عليهم ، بل بيان الحال مقدّمة لتوضيح الحقّ من الأقوال ، فإنّ المسألة في غاية الإشكال وليست محرّرة(1) ، واللازم الدقّة وإمعان النظر فيها إن شاء الله تعالى .
فنقول: قد فرض في المتن لها صوراً ثلاثة; لأنّ الشيء مورد التنازع تارةً يكون في يد أحد الطرفين ، واُخرى يكون في يدهما ، وثالثة يكون في يد ثالث ، أو لا يد لأحد عليه . وقبل الخوض في المقصود لابدّ من تقديم أمرين:
أحدهما: أنّ معنى تعارض البيّنتين ثبوت التضادّ بين مفادهما بحيث لم يمكن الجمع والتوفيق بينهما . قال المحقّق (قدس سره) في الشرائع: يتحقّق التعارض في الشهادة مع تحقّق التضادّ ، مثل أن يشهد شاهدان بحقّ لزيد ، ويشهد آخران أنّ ذلك الحقّ بعينه لعمرو ، أو يشهدان بأنّه باع ثوباً مخصوصاً لعمرو غدوة ، ويشهد آخران ببيعه بعينه لخالد في ذلك الوقت ، ومهما أمكن التوفيق بين الشهادتين وفّق(2) .
ثانيهما: أنّ مقتضى القاعدة فيما إذا كان المال في يد أحدهما وأقاما البيّنة ، هو
- (1) ملحقات العروة الوثقى: 3 / 148 مسألة 2 .
- (2) شرائع الإسلام: 4 / 897 مسألة 3 .
(الصفحة 303)
تقديم بيّنة الخارج وهو غير ذي اليد; لأنّ مقتضى قوله (صلى الله عليه وآله): البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه أو على من أنكر(1) أنّه في الدرجة الاُولى تلاحظ بيّنة المدّعي الذي هو الخارج ، وتقدّم على طرفه من دون فرق بين ما إذا كانت له بيّنة وما إذا لم تكن له ، وقد حكي عن الرياض ادّعاء الإجماع عليه ، حيث قال: إنّ وظيفة ذي اليد اليمين دون البيّنة ، فوجودها في حقّه كعدمها بلا شبهة ، ولذا لو أقامها بدلا عن يمينه لم تقبل منه إجماعاً إن لم يقمها المدّعي(2) ، وإن أورد عليه السيّد (قدس سره)في الملحقات مضافاً إلى منع الإجماع ، وعموم ما دلّ على حجية البيّنة ، وإلى عموم مثل قوله (صلى الله عليه وآله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان(3) بخصوص أخبار المقام ، فإنّ في جملة منها تقديم بيّنة ذي اليد ، كخبر إسحاق وخبر غياث وخبر جابر ، وهو مقتضى إطلاق جملة اُخرى منها ، وأيضاً خصوص خبر حفص بن غياث حيث قال: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم(4) .
وخصوص صحيحة حمّاد الحاكية لأمر عيسى بن موسى في المسعى إذ رأى أبا الحسن موسى (عليه السلام) مقبلا من المروة على بغلة ، فأمر ابن هياج ـ رجلا من همدان منقطعاً إليه ـ أن يتعلّق بلجامه ويدّعي البلغة ، فأتاه فتعلّق باللّجام وادّعى البغلة ، فثنى أبو الحسن (عليه السلام) رجله ونزل عنها وقال لغلمانه: خذوا سرجها وادفعوها إليه .
- (1) وسائل الشيعة: 27 / 233 ، أبواب كيفيّة الحكم ب2 ح1 وص 293 ب25 ح3 .
- (2) رياض المسائل: 9 / 405 .
- (3) وسائل الشيعة: 27 / 232 ، أبواب كيفيّة الحكم ب2 ح1 .
- (4) الكافي: 7 / 387 ح1 ، الفقيه: 3 / 31 ح92 ، التهذيب: 6 / 261 ح695 ، الوسائل: 27 / 292 ، أبواب كيفيّة الحكم ب25 ح2 .
(الصفحة 304)
فقال: والسرج أيضاً لي . فقال: كذبت عندنا البيّنة بأنّه سرج محمد بن علي (عليه السلام); وأمّا البغلة فإنّا اشتريناها منذ قريب وأنت أعلم وما قلت(1) ، إلى آخر ما أفاده(2) .
وإن كان يمكن الجواب عن جميع إيراداته ; بأنّ منع دعوى الإجماع ـ مع تعبير صاحب الرياض أنّ وجود البيّنة كعدمها بلا شبهة ـ غير تامّ ، وعموم ما دلّ على حجّية البيّنة قابل للتخصيص ، وقوله (صلى الله عليه وآله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» لا يراد منه إلاّ الحصر الإضافي في مقابل القضاء بالعلم الواقعي الثابت للرسول (صلى الله عليه وآله) ، ولا دلالة له على أنّ اعتبار البيّنة بالإضافة إلى من واليمين بالنسبة إلى من، وإلاّ لكان مفاده حجّية يمين المدّعي ابتداءً ، كما لا يخفى . وأمّا أخبار المقام خصوصاً أو اطلاقاً فسيأتي البحث فيها .
وأمّا خبر حفص بن غياث ، فمفاده جواز الشهادة بتملّك ذي اليد; نظراً إلى أنّ اليد كما عرفت أمارة عقلائية وشرعية على الملكية ، والسائل إنّما يسأل عن جواز الشهادة بالملك ، التي يترتّب عليها آثار كثيرة: مثل صحّة الابتياع من ذي اليد وأمثاله ، ولا إشعار في الرواية بفرض وجود المعارضة وأنّه معها تتقدّم بيّنة ذي اليد ، وبعبارة اُخرى محطّ نظر السائل أنّه يجوز المغايرة في الشهادة تحمّلا أداءً أم لا يجوز أصلا ، كما لا يخفى .
وأمّا صحيحة حمّاد ـ الحاكية لما عرفت من قصّة موسى بن جعفر (عليهما السلام) ـ فالظاهر أنّ قول الإمام (عليه السلام) إنّما هو في مقابل خصمه الذي لم يكن يعتقد بإمامته، وإلاّ لا يتنازع مع الإمام المعصوم الصادق في كلّ ما يقول ، مع أنّه لم يكن هناك قاض ولا
- (1) الكافي: 8 / 86 ح48 ، الوسائل: 27 / 291 ، أبواب كيفيّة الحكم ب24 ح1 .
- (2) ملحقات العروة الوثقى: 3 / 153 .