( صفحه 225 )
بتركها، ولازم ما ذكره المشهور سقوط النهي بالكلّية عن عهدة من خالفه وعصاه ولو مرّة، فإنّ عدم الطبيعة ليس كوجودها حتّى يكون له أفراد متعدّدة ومصاديق متكثّرة; لأنّه ليس شيئاً متحقّقاً وأمراً ثابتاً حتّى يكون واحداً أو كثيراً، غاية الأمر أنّ العقل بعد إضافته إلى الطبيعة التي لا تكون في حدّ ذاتها واحدة ولا متكثّرة يعتبره أمراً واحداً.
و حينئذ يتحقّق اللزوم المذكور; لأنّ المعصية عندهم مسقطة للتكليف كالامتثال، فلا تستحقّ العقوبة إذا ارتكبه ثانياً وثالثاً وهكذا، وكذا يلزم عدم الفرق بين الارتكاب قليلاً أو كثيراً، وكذا عدم القدرة على الامتثال مع المخالفة ولو مرّة، وبطلان اللوازم بمكان من الوضوح.
فالتحقيق أن يقال: إنّ معنى النهي ليس هو طلب الترك، بل معناه هو الزجر عن إيجاد الفعل المنهيّ عنه، كما أنّ معنى الأمر هو البعث إلى إيجاد الفعل المأمور به، غاية الأمر أنّ للنهي عصيانات متعدّدة حسب تعدّد وجود الطبيعة المتعلّقة للنهي.
وتوهّم أنّه لا يعقل تحقّق المعاصي المتعدّدة بالنسبة إلى تكليف واحد; لأنّ المعصية إذا تحقّقت يسقط بها التكليف.
مدفوع بمنع ذلك; إذ لا معنى لكون المعصية مسقطة للتكليف، وسقوطه في بعض موارد العصيان إنّما هو لكون التكليف فيه مشروطاً وموقّتاً بوقت خاصّ، ولم يؤت به في وقته، فسقوطه إنّما هو لمضيّ وقته، وهو يوجب سلب القدرة على الامتثال، وهذا بخلاف الامتثال; فإنّه لكونه موجباً لحصول الغرض ـ ولامعنى لثبوت الأمر مع حصول الغرض ـ يوجب سقوط التكليف.
( صفحه 226 )
فقد ظهر أنّ النهي مع كونه تكليفاً واحداً له عصيانات متعدّدة موجبة لاستحقاق عقوبات متكثرة، كما أنّ له أيضاً امتثالات متعدّدة، فالقول بانحلال النهي إلى تكاليف عديدة حسب تعدّد الموضوع ممّا لا سبيل إليه، انتهى(1).
وما أفاده (قدس سره) في الإشكال على المشهور في باب معنى النهي ـ من عدم كون المطلوب في هذا الباب; وهو عدم الطبيعة وتركها، متعدّداً; لأنّه ليس عدم الطبيعة كوجودها حتّى يكون له أفراد متعدّدة ومصاديق متكثّرة ـ وإن كان محلّ نظر بل منع; لأنّه كما أنّ للطبيعة وجودات متكثّرة، كذلك لها أعدام متعدّدة; لأنّه كما أنّ وجود فرد ما يكفي في تحقّق الطبيعة; لكونه تمام تلك الطبيعة، وليست النسبة بينه، وبينها هي النسبة بين المركّب وأجزائه; لعدم كون الفرد حصّة من الطبيعة بل تمامها.
كذلك يكفي عدمه في اتّصاف الطبيعة بالعدم; لأنّه لا يعقل أن يكون وجوده كافياً في وجودها، ولا يكون عدمه موجباً لعدمها، ولا مانع من اتّصاف الطبيعة في آن واحد بالوجود والعدم بلحاظ اختلاف أفرادها، كما لا مانع من اتّصافها بالبياض والسواد، والطول والقصر، والحركة والسكون، وأمثالها، فوجودات الطبيعة إذا كانت متّصفة بالتكثّر يكون أعدامها أيضاً كذلك.
إلاّ أنّ ما أفاده في الإشكال على المحقّق النائيني (قدس سره) ـ من إبطال الانحلال، وعدم كون النواهي المتعلّقة بالطبايع راجعة إلى القضايا الحقيقيّة ـ في كمال
المتانة والسداد; لأنّه لا وجه لإرجاعها إليها المستلزم للانحلال، وثبوت
- (1) نهاية التقرير 1: 360 ـ 364.
( صفحه 227 )
تكاليف متعدّدة حسب تعدّد الموضوعات.
والظاهر أنّ منشأ الإرجاع ملاحظة عدم ارتفاع النهي بالمخالفة وثبوته بعدها أيضاً، مع أنّه لو كان تكليفاً واحداً غير منحلّ إلى تكاليف متعدّدة لكان اللاّزم سقوطه بالمرّة بالمخالفة ولو مرّة; لأنّ العصيان يوجب ارتفاع التكليف، فاللاّزم هو الالتزام بالانحلال حتّى تكون المخالفة في كلّ فرد من أفراد الموضوع موجبة لسقوط التكليف الخاصّ المتعلّق به مع بقاء التكليف بالإضافة إلى الأفراد الاُخر بحاله.
والحقّ أنّ بقاء النهي بعد المخالفة لا يلازم الانحلال والإرجاع إلى القضايا الحقيقيّة، بل حيث إنّ الزجر متعلّق بوجود الطبيعة ـ وهو متعدّد ـ يكون لازمه بقاؤه بعد المخالفة أيضاً; لأنّه لم يقم دليل على أنّ التكليف الواحد لابدّ وأن لا يكون له إطاعات متعدّدة وعصيانات متكثّرة، كما أنّك عرفت أنّه لا وجه لدعوى كون المعصية مسقطة للتكليف، فالإنصاف تماميّة ما أفاده الاُستاذ (قدس سره) في مقام الإشكال على المحقّق المزبور.
نعم، يرد على المشهور أنّ العدم ليس بشيء حتّى يتعلّق به الطلب، وهذا من دون فرق بين ما إذا كان مطلقاً أو مضافاً، وما اشتهر من أنّ العدم المضاف له حظّ من الوجود والتحقّق، فلا ينبغى الاغترار بظاهره بعد وضوح أنّ الإضافة لا توجب خروجه عن ماهيّة المقابلة للوجود.
وأمّا الأمر الثاني: فقد أنكره سيّدنا الاُستاذ الماتن ـ دام ظلّه العالي ـ في مباحثه الاُصوليّة، وحاصل ما أفاده في وجه ذلك: أنّ القضايا الحقيقيّة قضايا بتيّة كالقضايا الخارجيّة; من دون فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً، غاية الأمر أنّ الحكم في القضايا الحقيقيّة إنّما يكون على الطبيعة بوجودها الساري
( صفحه 228 )
أعمّ من الأفراد المحقّقة والمقدّرة، وفي القضايا الخارجيّة يكون مقصوراً على خصوص الأفراد الموجودة، فقولنا: «كلّ نار حارّة» يكون الحكم بالحرارة فيه حكماً بتيّاً ثابتاً لجميع أفراد طبيعة النار، ولا يكون حكماً مشروطاً بوجوده.
كيف؟ ولو كان الحكم في مثله مشروطاً بوجود الموضوع، لكان اللاّزم في مثل ما إذا كان المحمول من لوازم ماهيّة الموضوع ـ كقولنا: «الأربعة زوج» ـ أن يكون ترتّب الزوجيّة على الأربعة مشروطاً بوجودها، مع أنّ المفروض كونها من لوازم الماهيّة التي مرجعها إلى ثبوتها لنفس الماهيّة مع قطع النظر عن الوجودين، بحيث لو فرض لها تقرّر وثبوت في غير عالم الوجودين لكانت تلزمها.
وبالجملة: معنى القضيّة الشرطيّة هو كون الشرط فيها دخيلاً في ثبوت المحمول وترتّبه على الموضوع، مع أنّ القضايا الحقيقيّة لا يكون كلّها كذلك، فالحقّ أنّها قضايا بتيّة غير مشروطة، ولذا جعلها المنطقيّون(1) من الحمليّات التي تكون قسيماً للشرطيّات.
نعم، لا شبهة في أنّ الحكم ما لم يتحقّق موضوعه لا يثبت، وليس ذلك لأجل اشتراطه بوجود الموضوع، بل لأنّ الموضوع ما لم يوجد لا يكون موضوعاً; فإنّ النار ما لم تتحقّق في الخارج لا تكون ناراً، والحكم بالحرارة معلّق على النار، وحينئذ فمع الشكّ في وجود الموضوع لا يكون الحكم مترتّباً ولايكون حجة على العبد; لأنّ العلم بالكبرى بمجرّده لايكون حجّة مالم ينضمّ إليه العلم بالصغرى، لا لأجل الشكّ في وجود الشرط المستلزم للشكّ في
- (1) تقدّم تخريجهم في ص223.
( صفحه 229 )
المشروط; وهو فعليّة الحكم، بل لأجل ما عرفت(1). فالأمر الثاني ممنوع أيضاً.
هذا، وعلى تقدير إنكار الأمر الأوّل كما عرفت أنّه الحقّ، فهل لازمه إنكار البراءة العقليّة; نظراً إلى ثبوت تكليف واحد معلوم، فيجب الخروج عن عهدته، وتلزم رعايته بالاجتناب عن الفرد المشكوك أيضاً، أو أنّه تجري بناءً عليه أيضاً؟
والظاهر هو الثاني; لأنّ وحدة التكليف مع ثبوت الإطاعات المتعدّدة والعصيانات المتكثّرة لا توجب تماميّة الحجّة على العبد من دون العلم بموضوعه، وليس المراد من البيان في قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» هو البيان
الجائي من قبل المولى اللاّزم على عهدته، حتّى يقال بأنّ البيان من قبله تامّ لا نقص فيه; لأنّه ليس من شأنه بيان الصغريات وتشخيص المصاديق، بل المراد به هي الحجّة على التكليف، وما يصحّ للمولى الاحتجاج به.
والظاهر عدم تماميّتها بمجرّد العلم بالكبرى; لأنّه لا يكفي في ترتّب النتيجة وثبوتها، بل لابدّ من ثبوت الصغرى والعلم بها، فكما أنّ ثبوت الكبرى واقعاً من دون العلم بها لا يصحّح الاحتجاج ولا يسوّغ المؤاخذة، فكذلك ثبوت الصغرى كذلك لا يوجب ذلك، بل لابدّ من إحرازها وتعلّق العلم بها. فالإنصاف جريان البراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة في التكاليف النفسيّة.
جريان البراءة فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر
المقام الثاني: في جريان البراءة العقليّة فيما إذا دار الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيّين، وقد قرّبه الشيخ الأعظم (قدس سره) في الرسائل; بأنّ العلم الإجمالي
- (1) أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية 2: 144 ـ 146.