( صفحه 230 )
بوجوب الأقلّ أو الأكثر ينحلّ إلى العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ، والشكّ البدوي في وجوب الأكثر; وذلك لوجوب الأقلّ على التقديرين; لأنّه إن كان الأكثر واجباً واقعاً يكون الأقلّ أيضاً واجباً، غاية الأمر أنّ وجوبه وجوب تبعيّ، وإن لم يكن كذلك يكون الأقلّ واجباً بالوجوب النفسي، فوجوبه الأعمّ من النفسي والغيري معلوم تفصيلاً، وهذا بخلاف الأكثر; فإنّ وجوبه مشكوك، فتجري فيه البراءة(1).
وأورد عليه تلميذه المحقّق الخراساني (قدس سره) في الكفاية; بأنّ الانحلال مستلزم للخلف، أو المحال الذي هو عبارة عن استلزام وجود الشيء لعدمه:
أمّا الخلف، فلأنّه يتوقّف لزوم الأقلّ فعلاً ـ إمّا لنفسه أو لغيره ـ
على تنجّز التكليف مطلقاً ولو كان متعلّقاً بالأكثر; ضرورة أنّه لو لم
يتنجّز على تقدير تعلّقه به لم يكن الأقلّ واجباً بالوجوب الغيري;
لأنّه تابع لوجوب ذي المقدّمة، ومع عدمه لا مجال له، كما أنّه لو لم يتنجّز
على تقدير تعلّقه بالأقلّ لا يكون واجباً بالوجوب النفسي، فوجوبه الأعمّ من النفسي والغيري يتوقّف على تنجّز التكليف على أيّ تقدير، فلو كان لزومه كذلك موجباً لعدم تنجّز التكليف إلاّ على تقدير تعلّقه بالأقلّ
يلزم الخلف.
وأمّا استلزام وجوده للعدم; فلأنّ لزوم الأقلّ على الفرض يستلزم عدم تنجّز التكليف على كلّ حال، وهو يستلزم عدم لزوم الأقلّ مطلقاً، وهو يستلزم عدم الانحلال، فلزم من وجود الانحلال عدمه، وما يلزم من وجوده
- (1) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 322 ـ 323.
( صفحه 231 )
عدمه فهو محال(1).
أقول: وهنا تقريب ثالث زائد على التقريبين المذكورين; وهو: أنّ العلم التفصيلي لو تولّد من العلم الإجمالي بحيث كان معلولاً له ومسبّباً عنه، لا يعقل أن يؤثّر في انحلال ذاك العلم الإجمالي; لأنّه لا يمكن أن يؤثّر المعلول في رفع علّته وإعدامها مع بقائه.
والمقام من هذا القبيل; فإنّ العلم التفصيلي بوجوب الأقلّ ـ إمّا لنفسه أو لغيره ـ إنّما نشأ من العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر، نظير ما إذا تردّد أمر الوضوء مثلاً بين أن يكون وجوبه نفسيّاً، أو غيرياً ناشئاً من الوجوب المتعلّق بما هو مقدّمة له، ولكن كان وجوب ذي المقدّمة مشكوكاً; فإنّه لا يعقل أن يصير العلم التفصيلي بوجوب الوضوء على أيّ تقدير موجباً لانحلال العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفساً، أو بوجوب ما يكون هو مقدّمة له; لأنّه مع الانحلال وإجراء أصالة البراءة بالإضافة إلى وجوب ذي المقدّمة لا يكون العلم التفصيلي باقياً بحاله، فالعلم التفصيلي المسبّب
عن العلم الإجمالي يستحيل أن يؤثّر في انحلاله واضمحلاله، كما هو ظاهر.
هذا، والاستدلال والإشكال بتقريباته الثلاثة كلاهما مبتنيان على أمرين: ثبوت المقدّميّة للأجزاء، واتّصافها بالوجوب الغيري، كالمقدّمات الخارجيّة، والأوّل وإن كان يمكن توجيهه، كما قرّر في محلّه(2)، إلاّ أنّ الثاني لا مجال له
- (1) كفاية الاُصول: 413.
- (2) كفاية الاُصول: 114 ـ 115، فوائد الاُصول 1 ـ 2: 263 ـ 268، مناهج الوصول 1: 329 ـ 335، اُصول فقه شيعة 4: 206.
( صفحه 232 )
بوجه; لأنّ الوجوب الغيري ـ على تقدير القول به، وثبوت الملازمة العقليّة بينه، وبين الوجوب النفسيّ المتعلّق بذي المقدّمة ـ إنّما هو لأجل أنّ الوجوب المتعلّق بذي المقدّمة لا يكاد يدعو إلى المقدّمة; لأنّ الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه.
فالالتزام بالوجوب الغيري إنّما هو لأن يدعو إلى الإتيان بالمقدّمة لأجل تحقّق ذيها، وبدونه لا يكون هنا ما يدعو إليه بعد عدم كون الأمر بذي المقدّمة صالحاً للدعوة إلى غير المتعلّق.
ومن الواضح: أنّ هذا المناط موجود في المقدّمات الخارجيّة; لكونها مغايرة لذي المقدّمة ماهيّة ووجوداً، فالأمر الداعي إليها لابدّ وأن يكون غير الأمر المتعلّق بذيها.
وأمّا المقدّمات الداخليّة، فلا حاجة فيها إلى الأمر الغيري بعد كون الأمر المتعلّق بذيها داعياً إليها; لعدم كون المركّب مغايراً لها; لأنّه إجمالها وصورتها الوحدانيّة، وتلك تفصيله وتحليله، وهو لا ينافي مقدّميّة الأجزاء; لأنّ المقدّمة إنّما هو كلّ جزء مستقلاًّ لا مجموع الأجزاء،فالأمر المتعلّق بالمركّب يدعو بعينه إلى الأجزاء، ولا يلزم من ذلك أن يكون الأمر داعياً إلى غير متعلّقه; لأنّ الاجزاء هي نفس المركّب، والفرق إنّما هو بالإجمال والتفصيل، والبساطة والتحليل.
وتقريب البراءة على ما ذكرنا أنّ الأمر يدعو إلى الأجزاء بعين دعوته إلى المركّب، ويترتّب على ذلك أنّ الحجّة على الأجزاء إنّما هي بعينها الحجّة على المركّب، لكن مع قيام الحجّة على الأجزاء التي ينحلّ إليها. وأمّا مع عدم
( صفحه 233 )
قيامها على جزئيّة بعض ما تحتمل الجزئيّة فيه، فلا يكون الأمر بالمركّب داعياً إلى ذلك الجزء المشكوك أيضاً; لعدم العلم بتعلّق الأمر بما ينحلّ إليه.
ومن المعلوم أنّ تماميّة الحجّة تتوقّف على إحراز الصغرى والكبرى معاً، ومع الشكّ في إحداهما لا معنى لتماميّتها المصحّحة للعقاب; لعدم كونه عقاباً من دون بيان، ومؤاخذة بلا برهان، فاللاّزم العلم بتعلّق الأمر بالمركّب وبأجزائه التحليليّة أيضاً، وبدون ذلك تجري البراءة العقليّة الراجعة إلى قبح العقاب المذكور، وثبوت الارتباط بين الأجزاء على ما هو المفروض لا يقدح في جريان البراءة عقلاً بعد عدم تماميّة الحجّة بالإضافة إلى مشكوك الجزئيّة.
ولا يتفاوت في جريان البراءة بين القول بكون مدلول ألفاظ العبادات خصوص الصحيح منها، وبين القول بالأعمّ من الفاسد; لما حقّقناه في الاُصول(1) من أنّ مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيين مسألة مستقلّة لا يبتني جريان البراءة فيها وعدمه على مسألة الصحيح والأعمّ; وإن ذهب جماعة كالمحقّق النائيني (قدس سره) (2) إلى أنّ الصحيحي لابدّ وأن يقول بجريان قاعدة الاشتغال في مسألة الأقلّ والأكثر، ولكنّه ممنوع.
نعم، على تقدير تصوير الجامع على بعض الوجوه، كالتصوير على النحو الذي اختاره المحقّق الخراساني (قدس سره) في الكفاية(3)، لا محيص عن الالتزام بقاعدة
- (1) سيرى كامل در اصول فقه 12: 350 ـ 351.
- (2) فوائد الاُصول 1 ـ 2: 66 ـ 67، هداية المسترشدين 1: 484، نهاية النهاية في شرح الكفاية 1: 41.
- (3) كفاية الاُصول: 39 ـ 44.
( صفحه 234 )
الاشتغال، كما أوضحناه في محلّه(1).
ثمّ إنّه لسيّدنا الاُستاذ البروجردي (قدس سره) تقريب آخر لجريان البراءة تبعاً لبعض الأعلام(2); وهو: أنّ الأمر مع كونه واحداً حقيقة له أبعاض كثيرة يتعلّق كلّ واحد منها بجزء من أجزاء متعلّقه; وذلك لأنّ المركّبات الشرعيّة مركّبات اعتباريّة، والمراد بها هي الأشياء المتغايرة في الحقيقة، المتكثّرة في الوجود، مع اعتبار الوحدة فيها باعتبار ترتّب حكم واحد عليها، وكونها معنونة بعنوان حسن، بخلاف المركّبات الحقيقيّة.
وحينئذ فإذا تعلّق أمر واحد بتلك الأشياء، فقد تعلّق بكلّ واحد منها بعض ذلك الأمر الواحد، وحينئذ فإذا شكّ في متعلّقه من حيث القلّة والكثرة، فقد شكّ بعد العلم بتعلّق أبعاضه المعلومة إلى الأجزاء المعلومة في تعلّق بعضه بالجزء المشكوك، فيحكم العقل بالبراءة وعدم تنجّز ذلك الأمر بالإضافة إلى البعض المشكوك على تقدير تعلّقه بالأكثر واقعاً، ولا ينافي ذلك تنجّزه بالنسبة إلى أبعاضه المعلومة.
ولا منافاة بين كون الأمر واحداً حقيقة، وكونه ذا أبعاض كثيرة; إذ هو نظير بعض الاُمور الخارجيّة، الذي يكون واحداً حقيقة مع كونه ذا أبعاض كثيرة، كالماء الواقع في الحوض مثلاً; فإنّه مع كونه واحداً; لمساوقة الاتّصال
- (1) سيرى كامل در اصول فقه 2: 138 وما بعدها، اُصول فقه شيعه 2: 57 وما بعدها.
- (2) انظر فوائد الاُصول 4: 226، ورسالة الصلاة في المشكوك للنائينى: 293 ـ 303، وكتاب الصلاة، تقريرات بحث المحقّق النائيني للآملي 1: 193 ـ 194، ويأتي الإشارة إليه حكايةً عن المحقّق النائيني في ص250 ـ 252.