( صفحه 515 )
السقوط، والسيرة العمليّة على الترك، ففي الجواهر أنّ المرجع أصالة عدم المشروعيّة المقتضية للحرمة; لأنّه لا وجه للتمسّك بإطلاق أوامر الأذان أو عموماته; ضرورة الاتّفاق على عدم شمولها للمفروض، وإلاّ لاقتضيا بقاء ندبه(1).
وأورد عليه في المستمسك بأنّ البناء على انتفاء البعث إليه بظهور السيرة في ذلك لا يقتضي البناء على عدم المصلحة المصحّحة للتشريع والتعبّد; لاحتمال ملازمته لعنوان مرجوح، فلا موجب لرفع اليد عن دلالة الأدلّة العامّة على رجحانه ووجود المصلحة فيه; لأنّ دلالة الأوامر العامّة على
البعث والحثّ عليه بالمطابقة، وعلى وجود المصلحة المصحّحة للتشريع بالالتزام، ولا تلازم بين الدلالتين في الحجّية، فسقوط الاُولى عن الحجّية لظهور السيرة في خلافها لا يقتضي سقوط الثانية عنها، ولذا بني على التساقط في المتعارضين، وعلى كونهما حجّة في نفي الثالث(2).
والجواب عنه ما اُفيد من أنّ العمومات المذكورة مخصّصة على أيّ حال; فإنّ استحباب الأذان بمقتضى ظواهر الأدلّة مقدّمي; أي موجب لتكميل الصلاة المتعقّبة له، كما ينادي بذلك المستفيضة الدالّة على أنّ من صلّى بأذان وإقامة صلّى خلفه صفّان من الملائكة، ومن صلّى بإقامة صلّى خلفه صفّ واحد(3). فالأدلّة الدالّة على أفضليّة الأذان كلّها راجعة إلى أنّ الصلاة المتعقّبة
- (1) جواهر الكلام 9: 50.
- (2) مستمسك العروة الوثقى 5: 559.
- (3) تقدّمت في ص487.
( صفحه 516 )
للأذان أفضل من الصلاة الفاقدة له.
فلو فرضنا إطلاق هذه الأدلّة في تمام الحالات، فمقتضاها كون صلاة العصر في يوم الجمعة مع الأذان أفضل، ومقتضى الإجماع والسيرة أفضليّة الاكتفاء للعصر بإقامة وإيجادها بلا أذان، وهل هذا إلاّ التنافي بالعموم والخصوص المطلق، فالعمومات مخصّصة بهما لا محالة، ومقتضاه عدم المشروعيّة. نعم، لو كان هناك ما يدلّ على أصلها لقلنا بها، لكنّ المفروض عدمه.
وأمّا صلاة العصر يوم عرفة والعشاء بمزدلفة، فظاهر دليل السقوط فيهما هو: أنّ السقوط بنحو العزيمة; فإنّ قوله (عليه السلام) في رواية ابن سنان المتقدّمة(1): «السنّة في الأذان يوم عرفة أن يؤذن ويقيم للظهر، ثمّ يصلّي ثمّ يقوم، فيقيم للعصر بغير أذان، وكذلك في المغرب والعشاء بمزدلفة» ظاهر في أنّ الأذان
المشروع والراجح بمقتضى الإطلاقات أو العمومات الواردة فيه يكون المراد به هو الأذان في غير الموضعين بالإضافة إلى الصلاة الثانية، ففي الحقيقة تكون الرواية حاكمة ومفسّرة لأدلّة المشروعيّة، ومخصّصة لها بغير الموضعين، خصوصاً مع التصريح بترك الأذان والإتيان بها بدونه.
فالإنصاف ظهور مثل الرواية في تخصيص أدلّة المشروعيّة وتوضيح اختصاصها بغيرهما، وأنّ ما في ذهن السائل من السنّة في الأذان ينحصر بغيرهما، كما لا يخفى.
( صفحه 517 )
وأمّا الصلاة الثانية في سائر موارد الجمع، فالظاهر أنّ مقتضى الجمع بين دليل السقوط، ومثل قوله (عليه السلام) : «لا صلاة إلاّ بأذان وإقامة»(1)، وسائر الأدلّة(2)العامّة أو المطلقة الواردة في مشروعيّة الأذان في مطلق الصلوات، وكونه عبادة مستحبّة هو: كون السقوط فيها أيضاً بنحو العزيمة على ما هو المتفاهم عند العرف بعد ملاحظة الدليلين، كما عرفت(3) في صلاة العصر يوم الجمعة، والإنصاف أنّ السقوط فيها بنحو العزيمة لو لم يكن أقوى فلا أقلّ من كونه مقتضى الاحتياط الوجوبي، كما في المتن.
الأمر الثاني: الظاهر أنّ المراد من الجمع هو الجمع بين خصوص الظهرين وخصوص العشاءين، كما هو الظاهر من المتن. وأمّا الجمع بين العصر والمغرب مثلا، فالظاهر أنّه لا دليل على السقوط فيه. نعم، ورد النصّ على سقوط الأذان في مورد الجمع بين قضاء الصلوات(4) أيضاً. وأمّا في الأداء، فلا دليل عليه في غير ما ذكر.
الأمر الثالث: في معنى الجمع، ويظهر من الكلمات أنّه يجري فيه احتمالات أربعة:
الأوّل: أنّ المراد به إتيان الصلاتين في وقت فضيلة واحدة منهما; سواء فرّق بينهما بالزمان، أو صلاّهما من غير تراخ، وفي مقابله التفريق الذي هو
- (1) تقدّم في ص494.
- (2) تقدّمت في ص487 ـ 488.
- (3) في ص506 ـ 507.
- (4) الكافي 3: 291 ح1، تهذيب الأحكام 2: 282 ح1124، وج3: 158 ح340، وعنهما وسائل الشيعة 5: 446، كتاب الصلاة، أبواب الأذان والإقامة، ب37 ح1 و 2.
( صفحه 518 )
عبارة عن إيقاع كلّ صلاة في وقت فضيلتها، فلو أوقع صلاة الظهر في آخر وقت فضيلتها، وصلاة العصر في أوّل وقتها كذلك، فلا جمع ولو لم يتحقّق الفصل بينهما بزمان.
وهذا الوجه هو الظاهر من المحقّق (قدس سره) في مقام جوابه عن تلميذه جمال الدين الشامي حين سأل عنه واعترض عليه بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) إن كان يجمع بين الصلاتين، فلا حاجة إلى الأذان للثانية; إذ هو للإعلام، وإن كان يفرّق فلِمَ جعلتم الجمع أفضل؟ فأجاب (قدس سره) بأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان يجمع تارة، ويفرّق اُخرى، وأنّه إنّما استحببنا الجمع في الوقت الواحد إذا أتى بالنوافل والفرضين فيه; لأنّه مبادرة إلى تفريغ الذمّة(1).
فإنّ الظاهر أنّ المراد بالوقت الواحد هو وقت الفضيلة، وإلاّ فهو مشترك. وعليه: فهو ظاهر في أنّ المراد بالجمع ما ذكر، وأنّ الإتيان بالنوافل لا يقدح فيه، كما أنّه يظهر منه استحباب الجمع في جميع الموارد; لكونه مبادرة إلى تفريغ الذمّة.
الثاني: أن يكون المراد بالجمع والتفريق معناهما العرفي الذي يرجع إلى تحقّق الفصل بين الصلاتين بما يتحقّق معه التفريق، وعدمه بما يتحقّق معه الجمع، ففي الحقيقة هما أمران عرفيّان لا دخالة للشرع فيهما بوجه.
الثالث: أن يكون المراد بالجمع مجرّد عدم الفصل بينهما بالنافلة; سواء وقعتا في وقتهما، أو في وقت واحد; وسواء تحقّق الفصل بينهما، أو لم يتحقّق. وعليه: فمرجعه إلى ثبوت معنى شرعيّ للجمع والتفريق لا يرتبط بما هو
- (1) حكاه في ذكرى الشيعة 2: 335، وجواهر الكلام 7: 499.
( صفحه 519 )
معناهما عند العرف. نعم، يقع الكلام حينئذ في أنّ المراد هل هو الفصل بنفس النافلة، بحيث لو حصل الفصل بمقدارها لا يكون تفريقاً، أو أنّه يكفي الفصل بمقدار أدائها، كما أنّه يقع الكلام في أنّ المراد هل هو مطلق النافلة، أو أنّ المراد خصوص النافلة الموظّفة، كنافلة العصر الواقعة بين الظهرين، ونافلة المغرب الواقعة بين العشاءين.
الرابع: ما يظهر من المتن من أنّ المراد بالجمع معناه العرفيّ الذي يرجع إلى عدم الفصل بينهما، إلاّ أنّ الشارع قد خطّأ العرف وحكم بأنّ النافلة الموظّفة تمنع عن تحقّق الجمع أيضاً، فالتفريق يتحقّق إمّا بالفصل بمقدار يصدق معه التفريق عرفاً، وإمّا بالإتيان بالنافلة الموظّفة بين الصلاتين.
إذا عرفت ذلك فنقول:
لابدّ من ملاحظة الروايات الواردة في هذا المقام، وهي كثيرة:
منها: رواية محمد بن حكيم، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إذا جمعت بين صلاتين فلا تطوّع بينهما(1).
والظاهر اتّحادها مع روايته الاُخرى التي رواها في الوسائل بعد هذه الرواية قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: الجمع بين الصلاتين إذا لم يكن بينهما تطوّع، فإذا كان بينهما تطوّع فلا جمع(2).
وربما يقال(3) بظهور الرواية في الاحتمال الثالث، ولكنّ الإنصاف أنّ
- (1) الكافي 3: 287 ح3، تهذيب الأحكام 2: 263 ح1050، وعنهما وسائل الشيعة 4: 224، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب33 ح2.
- (2) الكافي 3: 287 ح4، وعنه وسائل الشيعة 4: 224، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت ب33 ح3.
- (3) مستمسك العروة الوثقى 5: 557.