(الصفحة 18)مسألة 4 : الإكراه هو حمل الغير على إيجاد ما يكره إيجاده مع التوعيد على تركه بإيقاع ما يضرّ بحاله عليه ، أو على من يجري مجرى نفسه كأبيه وولده نفساً أو عرضاً أو مالا ، بشرط أن يكون الحامل قادراً على إيقاع ما توعّد به مع العلم أو الظنّ بإيقاعه على تقدير عدم امتثاله ، بل أو الخوف به وإن لم يكن مظنوناً ، ويلحق به موضوعاً أو حكماً ما إذا أمره بإيجاد ما يكرهه مع خوف المأمور من عقوبته والإضرار عليه لو خالفه ، وإن لم يقع منه توعيد وتهديد ، ولا يلحق به ما لو أوقع الفعل مخافة إضرار الغير عليه بتركه من دون إلزام منه عليه ، فلو زوّج امرأة ثم رأى أنّه لو بقيت على حباله لوقعت عليه وقيعة من بعض متعلّقيها كأبيها وأخيها مثلا ، فالتجأ إلى طلاقها فطلّقها يصحّ طلاقها(1) .
والدليل على اعتبار الأمر الثاني ـ مضافاً إلى حديث الرفع(1) النصّ العام ـ روايات خاصّة ، مثل: صحيحة زرارة ، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : سألته عن طلاق المكره وعتقه ؟ فقال : ليس طلاقه بطلاق ولا عتقه بعتق ، الحديث(2) .
ورواية يحيى بن عبدالله بن الحسن ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سمعته يقول : لا يجوز الطلاق في استكراه ـ إلى أن قال : ـ وإنّما الطلاق ما اُريد به الطلاق من غير استكراه ، الحديث(3) . والروايات الاُخر الواردة في هذا المجال(4) . وسيأتي في المسألة الآتية معنى الإكراه إن شاء الله تعالى .1 ـ الظاهر أنّ المرجع في فهم المراد من الإكراه هو العرف واللغة ، إذ ليس له
- (1) الوسائل: 15 / 369 ، أبواب جهاد النفس ب56 .
- (2) الكافي: 6 / 127 ح2 ، الوسائل: 22 / 86 ، أبواب مقدمات الطلاق ب37 ح1 .
- (3) الكافي: 6 / 127 ح4 ، الوسائل: 22 / 46 ، أبواب مقدّمات الطلاق ب18 ح6 .
- (4) الوسائل: 22 / 86 و 87 ، أبواب مقدّمات الطلاق ب37 ح2 و4 .
(الصفحة 19)
حقيقة شرعية ولا مثلها ، وقد ذكر المحقّق في الشرائع : ولا يتحقّق الإكراه ما لم تحصل اُمور ثلاثة : كون المكرِه قادراً على فعل ما توعّد به ، وغلبة الظنّ أنّه يفعل ذلك مع امتناع المكرَه ، وأن يكون ما توعّد به مضرّاً بالمكرَه في خاصّة نفسه ، أو من يجري مجرى نفسه كالأب والولد ، سواءً كان ذلك الضرر قتلا أو جرحاً أو شتماً أو ضرباً ، ويختلف بحسب منازل المكرَهين في احتمال الإهانة ، ولا يتحقّق الإكراه مع الضرر اليسير(1) .
أقول : الظاهر أنّ معنى الإكراه بحسب اللغة هو حمل الغير على ما يكرهه ، غاية الأمر أنّ فعل المكروه الصادر عن الغير يكون صادراً عن اختياره في مقابل الإضطرار إليه كحركة المرتعش ، وكما إذا ضرب بيد الغير من غير أن يكون الضرب صادراً عن قصده وإرادته ، ففرق بين الضارب عن إكراه وبين الضارب من دون أن يكون قصده مؤثّراً في ذلك .
وكيف كان ففي عبارة المحقّق المتقدّمة اعتبار حصول اُمور ثلاثة في تحقّق معنى الإكراه :
أحدها : كون المكرِه قادراً على فعل ما توعّد به ، والوجه في اعتبار هذا الأمر أنّه لا يصدق بدونه ، ضرورة أنّه مع عدم القدرة عليه لا يتحقّق أنّ الغير حمله على ذلك .
ثانيها : غلبة الظنّ أنّه يفعل ذلك مع امتناع المكره ، والظاهر عدم اعتبار هذا الأمر ، بل الظاهر الصدق مع الخوف العقلائي كما في المتن ، ويدلّ عليه ـ مضافاً إلى عدم الاختصاص عرفاً بصورة العلم أو الظنّ ـ صحيحة عبدالله بن سنان ، عن
- (1) شرائع الإسلام: 3 / 13 .
(الصفحة 20)
أبي عبدالله(عليه السلام) ، أو مرسلته قال : سمعته يقول : لو أنّ رجلا مسلماً مرّ بقوم ليسوا بسلطان فقهروه حتّى يتخوّف على نفسه أن يعتق أو يُطلّق ففعل ، لم يكن عليه شيء(1) .
ثالثها : أن يكون ما توعّد به مضرّاً بالمكرَه ، ولو كان ضرراً ماليّاً غير يسير ، كما يدلّ عليه ذيل عبارته الشامل لغير الأمثلة المذكورة في الصدر أيضاً ، ضرورة أنّه مع عدم الإضرار بالمكرَه لا يتحقّق الإكراه; لعدم صدق الحمل مع عدم الاضرار ، ومن المعلوم اختلاف الأفراد في هذه الجهة .
وليعلم أنّ الإكراه على المحرّمات وإن كان موجباً لارتفاع الحرمة عنها ، كما يدلّ عليه مثل حديث الرّفع(2) ، إلاّ أنّه لابدّ في هذه الجهة من ملاحظة الحرام ، وأنّه في أيّة مرتبة من حيث نظر الشارع ، ضرورة أنّ المحرّمات مختلفة من حيث المرتبة كما حقّق في محلّه ، ومن ملاحظة الضرر المتوعّد به وإن كان غير يسير ، مثلا إذا اُكره أحد على الزنا بزوجة الغير ، فمن المعلوم أنّه لا يتحقّق الجواز بمجرّد التوعيد على الضرر المالي ، وإن كان غير يسير بل معتدّاً به يقع المُكرَه بالفتح في الضرر ، وإذا اُكره أحد على الشرك بالله تعالى الذي هو أكبر الكبائر ، كما في الرواية الواردة في المعاصي الكبيرة(3) وتعدادها ، قال الله تعالى :
{إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}(4) . وعليه فلا يتحقّق الجواز بمجرّد التوعيد على الضرر ، مثل الضرب والشتم ، بل لعلّ مثل الجرح غير المتعقّب
- (1) الكافي: 6 / 126 ح1 ، الوسائل: 22 / 86 ، أبواب مقدّمات الطلاق ب37 ح2 .
- (2) الوسائل: 15 / 369 ، أبواب جهاد النفس ب56 .
- (3) الوسائل: 15 / 318 ـ 332 ، أبواب جهاد النفس ب46 .
- (4) سورة النساء: 4 / 48 .
(الصفحة 21)
بالموت ، فلا يجوز أن يقال : إنّ مجرّد الإكراه يرفع كلّ محرّم ولو بلغ ما بلغ ، فتدبّر جيّداً .
بقي في هذه المسألة أمران :
الأول : يلحق بالإكراه موضوعاً أو حكماً ما إذا لم يكن هناك توعيد ولا تخويف ، بل يتخوّف المكرَه بالفتح أنّه إن لم يفعل يقع من ناحية المُكْرِه بالكسر في ضرر من قبله ، فإنّه مع صدق الإكراه تشمله الروايات العامة والخاصّة المتقدّمة الواردة في الإكراه بالطلاق ، ومع عدم صدقه يكون فيه ملاك الرفع وعدم تحقّق الطلاق مع الإكراه ، لأنّ المفروض أنّه في هذه الحالة لا يكون عمله صادراً عن طيب نفسه ورضاه ، بل كان الداعي له إلى العمل هو الخوف من الضرر المذكور مع الإلزام ، وإن لم يتحقّق التوعيد والتهديد به ، كما لا يخفى .
الثاني : لا يلحق بالإكراه ما لو وقع الفعل مخافة إضرار الغير عليه بتركه من دون إلزام منه عليه ، وفرّع عليه في المتن أنّه لو زوّج امرأة ثم رأى أنّه لو بقيت على حباله لوقعت عليه وقيعة من بعض متعلّقيها كأبيها وأخيها مثلا ، فالتجأ إلى طلاقها فطلّقها يصحّ طلاقها .
أقول : السرّ في ذلك بعد عدم تحقق الإكراه لما عرفت من أنّ معناه هو حمل الغير وإلزامه على ما يكرهه ، ومجرّد وقوع الطلاق خوفاً من الضرر على الترك لا يوجب صدق الإكراه ، ضرورة أنّ العقود والإيقاعات الصادرة من العقلاء يكون الداعي لهم إمّا ترتّب نفع عليه أو دفع ضرر على الترك ، ولو كان النفع أو الضرر مرتبطاً بالآخرة ، فإنّ من يبيع داره مثلا يكون الداعي له إلى البيع إمّا جلب منفعة
(الصفحة 22)مسألة 5 : لو قدر على دفع ضرر الآمر ببعض التفصيّات ممّا ليس فيه ضرر عليه كالفرار والإستغاثة بالغير لم يتحقّق الإكراه ، فلو أوقع الطلاق حينئذ معه وقع صحيحاً ، نعم لو قدر على التورية وأوقعه من دون ذلك ، فالظاهر وقوعه مكرهاً عليه وباطلا(1) .
وإمّا دفع ضرر على الترك ولو كان الضرر خياليّاً ، مع أنّ الحكم بالبطلان في مثل هذه الصورة خلاف الامتنان ، الذي لأجله سيق حديث الرفع كما يشعر أو يدلّ عليه قوله (صلى الله عليه وآله) : «رفع عن اُمّتي . . .»(1) فتدبّر جيّداً .1 ـ لو قدر على دفع ضرر الآمر الملزم ببعض التفصيّات ممّا ليس فيه ضرر عليه ، ولا يكون مخالفاً لشأنه ووضعه كالفرار عن المحلّ والاستغاثة والاستعانة بالغير ، لم يتحقّق الإكراه ولا يكون الطلاق معه عن إكراه ، فلا محالة يقع الطلاق صحيحاً من هذه الجهة ، والوجه فيه أنّه لا يكون الضرر مترتّباً على ترك المكره عليه فقط ، بل على الترك وعدم دفع الضرر ببعض التفصيّات الممكنة; لأنّ المفروض القدرة على دفع الضرر من غير طريق إيجاد الفعل المكرَه عليه .
نعم ، لو قدر على التورية وأوقعه من دون ذلك ، فقد استظهر في المتن وقوع الطلاق مكرهاً عليه وباطلا ، والوجه فيه صدق الإكراه وإن كان قادراً على التورية ، خلافاً لبعض العامة فأوجبها للقادر(2) .
نعم ، هنا كلام في أنّه لو قصد المكرَه إيقاع الطلاق ففي محكي المسالك : في وقوعه وجهان: من أنّ الإكراه أسقط أثر اللفظ ومجرّد النية لا تعمل ، ومن حصول اللفظ
- (1) الوسائل: 15 / 369 ، أبواب جهاد النفس ب56 .
- (2) مغني المحتاج: 3 / 290 ، المغني لابن قدامة: 8 / 262 ، الشرح الكبير: 8 / 245 ، المجموع: 18/ 200 .