(الصفحة 104)
قلت: إنّ الاستهجان العرفي إنّما هو فيما إذا كانت الركعات متّصلة، وأمّا في مثل المقام فلا نسلّم الاستهجان.
هذا، وإن أبيت إلاّ عن ظهور أخبار الاشتراك في دخول وقت العصر أيضاً بمجرّد الزوال، فنقول: لابدّ من رفع اليد عن هذا الظهور بملاحظة رواية ابن فرقد(1)الصريحة في الاختصاص، خصوصاً بملاحظة ذيلها كما عرفت.
إن قلت: كيف يمكن الذهاب إلى الاختصاص مع أنّه لا يكون للوقت المختصّ حدّ محدود; لاختلافه بحسب اختلاف المكلّفين من حيث الخفّة والبطء، وحالاتهم من حيث السفر والحضر.
قلت: لم يدلّ دليل على أنّه يجب أن يكون الوقت بحيث لا يقبل الزيادة والنقصان، ألا ترى أنّ مقدار القدم والقدمين والمثل والمثلين يختلف باختلاف الفصول والأيّام من حيث الطول والقصر، ومع ذلك فقد جعلت حدّاً كما عرفت ويأتي.
ثمّ إنّ صاحب المصباح(قدس سره) ذكر في المقام كلاماً، ملخّصه: أن المتبادر من قول القائل: إذا زالت الشمس دخل وقت العمل الكذائي، إرادة دخول وقته الفعلي الذي يجوز فيه ذلك الفعل، لا الوقت الشأنيّ الذي لا يصحّ إيقاعه فيه إلاّ على بعض الفروض النادرة الخارجة عن اختيار المكلّف، كما هو الشأن في المقام بالنسبة إلى صلاة العصر، بناءً على مشاركتها مع الظهر من أوّل الوقت، إلاّ أنّه يجب رفع اليد عن هذا الظهور هنا، فيدور الأمر بين أن يكون المراد دخول الوقتين معاً، غاية الأمر كون المراد بالنسبة إلى العصر الوقت الشأني; ويكون قوله(عليه السلام): «إلاّ أنّ هذه
(الصفحة 105)
قبل هذه» قرينة عليه; وبين أن يكون المراد دخول الوقتين متعاقبين.
ولكنّك خبير بأنّ جعل هذه الفقرة قرينة لإرادة الوقت الشأني أولى من ارتكاب هذا التأويل، بل هو المتعيّن; لصراحة جملة من الأخبار في إرادة دخول وقت العصر أيضاً كالظهر بمجرّد الزوال، فيجب أن يكون المراد بها دخول وقتها الصالح للفعل من حيث هو لا بالفعل، وحينئذ فيكون للعصر ثلاثة أوقات: وقت شأنيّ، ووقت فعليّ، ووقت منجّز.
فالأوّل: عبارة عن الوقت الصالح للإتيان بها بحسب الذات، بحيث لو فرض تحقّق سائر شرائطها لكان إيقاعها فيه صحيحاً، وهو الوقت الذي يدخل بمجرّد الزوال.
والثاني: عبارة عن الوقت الذي يكون المكلّف مأموراً بإيقاعها فيه على سبيل الإطلاق، لا معلّقاً بوجود سائر الشرائط التي منها الترتيب، وهو يدخل بمضيّ مقدار أربع ركعات من أوّل الزوال ولم يأت بالظهر بعد.
والثالث: عبارة عن الوقت الذي يكون بعد الفراغ عن الإتيان بالظهر، وحينئذ فقوله(عليه السلام): «إذا زالت الشمس دخل الوقتان» يحمل على الوقت الشأني بالنسبة إلى العصر، ورواية داود بن فرقد المتقدّمة ـ الدالّة على اختصاص أوّل الوقت بالظهر، ودخول وقت العصر بعد مضيّ مقدار أربع ركعات من أوّل الزوال ـ تحمل على الوقت الفعلي، ورواية الفضل(1) ـ الدالّة على دخول وقت العصر بعد الفراغ من الظهر ـ على الوقت المنجّز.
- (1) علل الشرائع: 263، ب182، قطعة من ح9; عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 109، ح1; وعنهما وسائل الشيعة 4: 159، أبواب المواقيت، ب10، ح11.
(الصفحة 106)
هذا، وتظهر ثمرة دخول وقت العصر بمجرّد الزوال في مواضع:
منها: ما لو انتفت شرطيّة الترتيب، كما لو غفل عن الإتيان بالظهر، أو اعتقد إتيانها فصلّى العصر، أو أتى بالظهر بزعم دخول الوقت، ثمّ صلّى العصر بعدها، ثمّ تبيّن وقوع الظهر قبل وقتها ووقوع العصر أوّل الزوال.
ومنها: ما إذا حصلت براءة الذمّة من الظهر، ولو بمقتضى ظاهر التكليف، كما لو اعتقد دخول الوقت فصلّى الظهر ثمّ دخل الوقت في آخر صلاته قبل إكمالها ولو بلحظة، فله أن يأتي بالعصر مع عدم مضيّ مقدار أربع ركعات; لوقوعها حينئذ في وقته، والفرض تحقّق سائر الشرائط أيضاً; وكما لو صلّى الظهر بزعم دخول الوقت، ثمّ شك بعد الفراغ في الزوال، فيحكم بصحّتها لقاعدة الفراغ; ولكنّها لا يثبت دخول الزوال قبلا، فإذا علم به فعلا صحّ إتيان العصر(1). انتهى ملخّصاً.
ولا يخفى أنّه بعد تسليم ظهور قوله(عليه السلام): «إذا زالت الشمس دخل الوقتان» في الوقت الفعلي، وعدم إمكان الحمل على ظاهره; لوجوب تقديم الظهر على العصر، وهو يوجب رفع اليد عنه، لا وجه لحمله على الوقت الشأني بالمعنى الذي ذكره، بعد إمكان حمله على ما ذكرنا في معناه; من أنّ المراد به جواز الشروع فيهما عند الزوال; بأن يأتي بالظهر ثمّ العصر من غير فصل، في مقابل الجمهور القائلين بوجوب تأخير العصر بعد الفراغ من الظهر إلى أن يدخل وقتها الذي يكون مبائناً لوقت الظهر.
وبالجملة: بعد دوران الأمر بين الوجهين لا مجال لحمل الروايات على الوجه الأوّل، خصوصاً مع كون الثاني متبادراً من مثل هذا التعبير كما عرفت. فالأقوى
- (1) مصباح الفقيه 9: 103ـ115.
(الصفحة 107)
في المسألة ما اختاره المشهور(1) من الاختصاص; لرواية ابن فرقد الصريحة فيه، وعدم منافاة أخبار الاشتراك معها.
وتوهّم أنّه كيف يرفع اليد عن الروايات الكثيرة الدالّة على الاشتراك برواية واحدة، خصوصاً مع كونها مرسلة; لأنّ رفع اليد عن الإطلاقات الكثيرة يتوقّف على دليل قطعيّ؟
مندفع ـ مضافاًإلى أنّ الرواية الواحدة تكفي لتقييدالإطلاقاتوإن كانت كثيرة، والإرسال فيها منجبر بعمل الأصحاب ـ بأنّ أخبارنا لا تكون منحصرة فيما أُودعت في الجوامع الأربعة الثانويّة التي تكون بأيدينا، بل كان في زمن الرضا(عليه السلام)وقبله وبعده إلى زمان تصنيف تلك الجوامع، جوامع دائرة بين الأصحاب; ولم تكن جميع الأخبارالمذكورة فيهامنقولة في الجوامع الثانويّة، والدليل على ذلك وجود روايات في بعضها دون بعض الآخر.
وبالجملة: فلا إشكال في عدم كون الكتب الأربعة جامعة لجميع الأخبار المودعة في الجوامع الأوّلية الدائرة بين الأصحاب، كجامع البزنطي، والبرقي، وغيرهما. هذا كلّه بالنسبة إلى الوقت الاختصاصي للظهر.
وأمّا اختصاص آخر الوقت بالعصر، فيدلّ عليه روايتا ابن فرقد والحلبي المتقدّمتان، وصحيحة منصور بن حازم، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: إذا طهرت الحائض قبل العصر صلّت الظهر والعصر معاً وإن طهرت في آخر وقت العصر صلّت العصر(2).
- (1) تقدّم تخريجه في ص94.
- (2) تهذيب الأحكام 1: 390، ح1202; الاستبصار 1: 142، ح487; وعنهما وسائل الشيعة 2: 363، أبواب الحيض، ب49، ح6.
(الصفحة 108)
وغير ذلك ممّا يدلّ على اختصاص العصر بآخر الوقت، وهذا لاشبهة فيه أصلا، ويمكن حينئذ إثبات الاختصاص بالنسبة إلى الأوّل أيضاً بعدم القول بالفصل.
وما حكي عن الصدوق من التفصيل بين أوّل الوقت وآخره بالقول بالاشتراك في الأوّل، وبالاختصاص في الثاني(1)، لا ينافي ما ذكرنا; لعدم صراحة كلامه في الاشتراك; فإنّه أفتى على طبق قوله(عليه السلام): «إذا زالت الشمس دخل الوقتان»، وقد عرفت أن هذا التعبير لا ينافي القول بالاختصاص.
ثمّ إنّه بعد الفراغ عن ثبوت أصل الاختصاص، يقع الكلام في مقداره، وأنّه هل يكون مقدار أربع ركعات مطلقاً حتّى بالنسبة إلى المسافر والخائف، فيجب عليهما الانتظار بعد الفراغ عن الظهر التي صلاّها في أوّل الوقت بمقدار ركعتين أُخريين، حتّى يمضي مقدار أربع ركعات، أو أنّ التعبير بذلك كما في رواية ابن فرقد إنّما هو كناية عن الإتيان بالظهر؟ وجهان، والحقّ هو الوجه الثاني، الذي مرجعه إلى أنّ الاعتبار بمقدار أداء الظهر بحسب الوظيفة الفعليّة لهذا المكلّف، ولو كان ركعتين أو أقلّ منهما، كما إذا وقعت الظهر ببعض أجزائها في الوقت; فإنّه يجوز له حينئذ الإتيان بالعصر بعدها.
والدليل على ما ذكرنا ـ مضافاً إلى أنّ لفظة أربع في الرواية واردة مورد الغالب وظاهرة فيه، والمراد بها هو الإتيان بالظهر، فكنّي بها عنه ـ قوله(عليه السلام): «إنّه ليس بين الظهر والعصر حدّ معروف»، كما في بعض الروايات(2).
ويؤيّده بل يدلّ عليه أيضاً قوله(عليه السلام): «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت
- (1) تقدّم تخريجه في ص94.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 255، ح1013; وعنه وسائل الشيعة 4: 126، أبواب المواقيت، ب4، ح4.