(الصفحة 130)
ومنها: رواية يعقوب بن شعيب، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: قال لي: مسّوا بالمغرب قليلا; فإنّ الشمس تغيب من عندكم قبل أن تغيب من عندنا(1).
ومنها: غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي نقل بعضها في الوسائل في كتاب الحجّ في باب الإفاضة من عرفات، فراجع(2).
إذا عرفت ذلك فنقول:
هذه الأخبار كما ترى يترائى منها التعارض مع الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ الاعتبار إنّما هو باستتار القرص، ولابدّ من بيان وجه الجمع بينهما، وعلى تقدير عدم إمكانه لابدّ من بيان أنّ الترجيح مع أيّهما؟ ونقول قبل ذلك: إنّ الاحتمالات المتصوّرة الجارية في أخبار الاستتار أربعة:
أحدها: أن يكون الاعتبار باستتار الشمس وغيبوبتها عن نظرنا ولو بسبب حاجب، أو مانع كالجبل ونحوه.
ثانيها: أن يكون الاعتبار باستتارها عن اُفق المصلّي، بحيث لا يكاد يراها أحد من الساكنين في هذا الاُفق ولو لم يكن في البين حاجب ولا مانع.
ثالثها: أن يكون الاعتبار باستتارها ووقوعها تحت الاُفق الذي يكون المصلّي واقعاً فيه، وكذلك عن اُفق جميع الأراضي الموافقة لهذه الأرض من حيث الاُفق.
رابعها: أن يكون المراد استتارها عن الاُفق الحقيقي المنصف للكرة.
وبالجملة: فكلمة الاستتار والغيبوبة وإن لم تكن مجملة من حيث المفهوم،
- (1) تهذيب الأحكام 2: 258، ح1030; الاستبصار 1: 264، ح951; وعنهما وسائل الشيعة 4: 176، أبواب المواقيت، ب16، ح13.
- (2) وسائل الشيعة 13: 557، كتاب الحج، أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة، ب22، ح2 و 3.
(الصفحة 131)
إلاّ أنّه يجري فيها باعتبار المستور عنه هذه الاحتمالات الأربعة، فالروايات من هذه الحيثيّة تكون مجملة. ولا ريب أنّ التنافي بينها، وبين أخبار الحمرة إنّما يتوقّف على كون المراد من أخبار الاستتار واحداً من الاحتمالين الأوّلين; لأنّه لو كان المراد منها واحداً من الاحتمالين الأخيرين، لا يكون بينهما تعارض أصلا، كما هو واضح.
وحينئذ فيمكن أن يقال بأنّ أخبار الحمرة تكون مبيّنة بالنسبة إلى أخبار الاستتار، وحاكمة عليها، ومفسّرة للمراد منها، ويشهد بذلك رواية بريد بن معاوية المتقدّمة، بناءً على ما استظهرنا منها من كون المراد أنّ الاعتبار إنّما هو بغيبوبة الشمس عن جميع الأراضي المتساوية السطح لأرض المصلّي.
هذا، وإن أبيت عن إمكان الجمع بين الطائفتين وقلت بأنّ الظاهر من أخبار الاستتار هو الاعتبار باستتار الشمس عن خصوص أرض المصلّي، فنقول:
لابدّ من ترجيح أخبار الحمرة والعمل على طبقها; إذ قد عرفت(1) أنّ جميع فرق المسلمين مخالف للإماميّة فتوى وعملا في ذلك، ولم يكن بينهم ذكر من الحمرة أصلا، كما أنّهم يصلّون بمجرّد استتار القرص.
وحينئذ فمع فتوى مشهور الإماميّة على طبق تلك الأخبار، وأنّ الاعتبار إنّما هو بذهاب الحمرة لا بالاستتار، لا ينبغي للعاقل الارتياب في أنّ اختصاصهم بذلك من بين الفرق الإسلاميّة إنّما هو لاعتقادهم بحجّة اُخرى، وهي فتوى أئـمّتهم الإثني عشر صلوات الله عليهم أجمعين، حيث إنّهم يجعلونه حجّة مستقلّة مقابلا لجميع الفرق. فمع اشتمال جوامعهم المعدّة لنقل الروايات المأثورة
(الصفحة 132)
عنهم(عليهم السلام)على الأخبار الدالّة على أنّ الاعتبار إنّما هو بالحمرة، يحصل القطع بأنّ هذا المعنى قد اُلقي إليهم من ناحية أئـمّتهم(عليهم السلام).
وحينئذ فيجب العمل بها خصوصاً مع كثرتها، وطرح الأخبار المخالفة; لأجل صدورها تقيّة، كما يشهد بذلك لسان بعضها.
ومن المعلوم أنّ بناءهم على مراعاة التقيّة، خصوصاً في مثل هذه المسألة التي كانت ضروريّة عند سائر الفرق، وكان اعتقادهم أنّ ذلك مأثوراً من النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وأنّ عمله(صلى الله عليه وآله) أيضاً كذلك.
ودعوى أنّه لو كان عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) على وفق ما يقول به الإماميّة ـ كما هو معتقدنا ـ فكيف يمكن أن يختفي على جميع المسلمين إلى زمان صدور أخبار الحمرة.
مدفوعة بأنّ المسلمين في الصدر الأوّل لم يكونوا متوجّهين إلى خصوصيّات أفعاله(صلى الله عليه وآله)، ولا مهتمّين بضبطها حتّى لا يشتبه الأمر على من بعدهم; لكونهم حديثي العهد بالإسلام، مضافاً إلى أنّهم كانوا قليلين، والاختلاف بين المسلمين في الأحكام إنّما حدث بعد وفاة النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فحينئذ توجّه أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى أنّه فات منهم ما فات، وأنّهم لم يستفيدوا من صحبته(صلى الله عليه وآله) إلاّ قليلا.
وبالجملة: فلا منافاة بين كون عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) على طبق ما يقول به الإماميّة، وبين اختفاء ذلك على المسلمين; لعدم اهتمامهم بضبط خصوصيّات أفعاله(صلى الله عليه وآله)، فلا ينبغي الارتياب بملاحظة ما ذكرنا في أنّ الترجيح إنّما هو مع أخبار الحمرة.
فقد انقدح ممّا ذكرنا عدم المنافاة بين الطائفتين من الأخبار أوّلا، ولزوم الأخذ بأخبار الحمرة ثانياً.
(الصفحة 133)
واعلم أنّه بعد استتار القرص عن الأنظار تكون الحمرة المشرقيّة متّصلة بالاُفق حسّاً، وترتفع تدريجاً من الاُفق ويسوّد الاُفق، وإذا انتهى ارتفاعها يصير لونها ضعيفاً، ويبلغ إلى حدّ لا ترى العين حمرة أصلا، وحينئذ توجد مقارنة لزوالها حمرة ضعيفة في جانب المغرب فوق الاُفق، وتنخفض تدريجاً مع الاشتداد إلى أن تغيب عن النظر بالكلّية.
وأمّا حركة الحمرة بالتدريج من المشرق إلى أن تبلغ قمّة الرأس، وتميل إلى جانب المغرب كذلك، فليس ممّا يصدّقه الحسّ والوجدان، وحينئذ فيشكل الأخذ بمرسلة ابن أبي عمير المتقدّمة، الظاهرة في حركتها من المشرق إلى المغرب تدريجاً، ويمكن حملها على ما ذكرنا من كون المراد زوال الحمرة في ناحية المشرق، وحدوثها في ناحية المغرب، وحينئذ فلا يستفاد منها أمر وراء سائر الروايات.
نعم، هنا كلام يجري في جميع الروايات، وهو: أنّ المراد بغيبوبة الحمرة، أو زوالها، أو تغيّرها، أو ذهابها على اختلاف التعبيرات الواقعة في الروايات، هل هو ارتفاعها عن الحدّ المتّصل بالاُفق وانفصالها عنه، فتكون العبرة بمجرّد انفصالها، أو أنّ المراد زوالها من ناحية المشرق بالكلّية، بحيث لو نظر الناظر إلى تلك الناحية لم ير فيها حمرة أصلا؟ وجهان، الظاهر هو الوجه الثاني; لأنّ المتبادر من تلك التعبيرات، والمنسبق إلى أذهان العرف إنّما هو هذا الوجه، كما لا يخفى.
ثمّ إنّه ربما يجمع بين الطائفتين من الأخبار المتقدّمة بوجه آخر، وهو: أنّ المراد بزوال الحمرة هو الوجه الأوّل من هذين الوجهين; وهو انفصالها عن الاُفق ولو بقدر أصابع، وإن لم يصل إلى قمّة الرأس فضلا عن التجاوز عنها،
(الصفحة 134)
ومن المعلوم أنّ زوال الحمرة بهذا المعنى مقارن لاستتار القرص عن النظر.
ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما ذكرنا من أنّ المراد بزوال الحمرة هو زوالها بالكلّية، بحيث لا يرى الناظر في ناحية المشرق حمرة أصلا، كما يشهد بذلك التعبير عنه في مرسلة ابن أبي عمير المتقدّمة، بتجاوزها قمّة الرأس ـ : أنّه لو كان المراد من أخبار الحمرة هو ما يدلّ عليه أخبار الاستتار ـ وبعبارة اُخرى: كان فتوى الأئـمّة(عليهم السلام) موافقاً لفتاوى سائر الفرق، ولم يكن بينهما مخالفة في هذه الجهة أصلا ـ لما كان وجه لإلقاء هذه الكلمة الموهمة للخلاف بين شيعتهم، خصوصاً مع كون غرضهم مراعاة الاتّحاد، وعدم الاختلاف مهما أمكن، كما هو واضح، فهذا الجمع ممّا لا سبيل إليه أصلا.
وقد يجمع أيضاً بين الأخبار كما عن بعض الأعاظم(1) بحمل أخبار الحمرة على الاستحباب والفضيلة، ولكن يرد عليه: أنّ هذا تصرّف في ظواهر تلك الأخبار من غير أن يدلّ عليه دليل.
والإنصاف أنّه لا سبيل إلى الجمع بغير ما ذكرناه، ومقتضاه أنّ الاعتبار بذهاب الحمرة، وعلى تقدير عدم إمكان الجمع لا مجال للارتياب في ترجيح أخبار الحمرة، ويؤيّده الشهرة المحقّقة بين الفقهاء على ذلك.
ثمّ إنّه حكي عن المحقّق الوحيد البهبهاني(قدس سره)(2) أنّه استدلّ على عدم اشتراط ذهاب الحمرة ـ وأنّ الاعتبار إنّما هو بالاستتار ـ بأنّه لو اعتبرت الحمرة المشرقيّة من حيث دلالتها على تحقّق الغروب، لاعتبرت الحمرة المغربيّة أيضاً من حيث دلالتها على الطلوع بالنسبة إلى صلاة الصبح، وحينئذ يلزم أن يكون الإتيان
- (1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري(رحمه الله): 11ـ14.
- (2) الحاشية على مدارك الأحكام 2: 305.