(الصفحة 253)
بإتيان الواحدة على الثاني.
وهذان الوجهان متفرّعان على القولين في المسألة السابقة، وقد تقدّم اختيار الوجه الأوّل. هذا كلّه فيما إذا تمكّن من الإتيان بأكثر من أربع صلوات. وأمّا إذا لم يتمكّن إلاّ من الإتيان بأربع أو ثلاث أو اثنين، فهل يجب عليه أن يصلّيها للظهر إلاّ واحدة، أو أنّ الوقت المشترك بين الظهر والعصر قد انقضى، ودخل الوقت المختصّ بالعصر، فيجب عليه أن يصلّيها جميعاً للعصر؟ وجهان مبنيّان على الوجهين اللذين ذكرناهما آنفاً; من اختلاف مقدار وقت العصر باختلاف حال المكلّف من حيث العلم والجهل وعدمه.
فعلى الأوّل: يجب عليه أن يأتي بجميع المحتملات للعصر، وعلى الثاني: يجب أن يأتي بواحدة منها للعصر، وما بقي للظهر، وقد تقدّم أنّ الأظهر هو الوجه الثاني.
ثمّ إنّه بناءً على الوجه الثاني هل يجب عليه أن يصلّي مقدار ما تمكّن منه للظهر وإن كان أكثر من الواحدة، أو لا يجب عليه إلاّ الإتيان بواحدة فقط كالعصر؟ قولان، وقد تقدّم وجههما، ولا يخفى أنّ هذين القولين يجريان بناءً على الوجه الأوّل أيضاً، كما لا يخفى.
مسألة: كما أنّ المتحيّر في القبلة يجب عليه تكرار الصلاة إلى أربع جهات في الصلوات اليوميّة، كذلك يجب عليه التكرار مع فقد العلم والظنّ في الصلوات المندوبة وباقي الصلوات الواجبة، كصلاة الميّت وإن احتمل بعض فيها عدم وجوب التكرار(1)، ولكنّه لا وجه له.
- (1) الحدائق الناضرة 10: 422; مستند الشيعة 6: 313.
(الصفحة 254)
ولعلّ منشأ توهّمه أنّ وجوب التكرار في الصلوات اليومية إنّما هو لدلالة دليل شرعيّ تعبديّ، وهو غير متعرّض لحكم صلاة الميّت إذا اشتبهت القبلة وتردّدت بين الجهات الأربع، ولكن قد عرفت(1) أنّ وجوب التكرار إنّما هو حكم عقليّ، والأخبار تكون إرشاداً إليه.
نعم، الظاهر عدم وجوب التكرار في الصلوات التي لا يكون بناؤها على التكرار، كصلاة الجمعة والعيدين، هذا. ويجري حكم الظنّ أيضاً مع فقد العلم في باقي الصلوات الواجبة والمندوبة، وكما أنّ المتحيّر يجب عليه تكرار الصلاة، كذلك يجب عليه التكرار مع عدم العلم والظنّ في الأجزاء المنسية وسجدتي السهو، بناءً على وجوب الاستقبال لهما كما هو الظاهر من الأدلّة، فإذا كان وظيفته تكرار الصلاة إلى أربع جهات، وعلم بعد الإتيان بجميعها أنّه لم يأت بالتشهّد مثلا في شيء منها، يجب عليه قضاؤه إلى أربعة جوانب.
وأمّا إذا علم أنّ جزءاً قد نسيه في إحدى الصلوات المأتيّ بها، فيحتمل أن تجري قاعدة الفراغ; لأنّه وإن كان قاطعاً إجمالا بنسيان بعض الأجزاء، ومورد قاعدة الفراغ هي صورة الشكّ في الإتيان به، إلاّ أنّه لمّا كان المكلّف بالنسبة إلى المكلّف به الواقعي ـ الذي هي الصلاة إلى القبلة الواقعيّة ـ شاكّاً في الإتيان بالجزء، فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ.
ويحتمل أن يقال بوجوب القضاء عليه إلى أربع جهات; لأنّه وإن كان شاكّاً في الإتيان بالجزء بالنسبة إلى المكلّف به الواقعي، إلاّ أنّ العقل الذي يحكم عليه بوجوب الصلاة إلى أربعة جوانب يقضي بوجوب القضاء إليها; لأنّه يجب عليه
(الصفحة 255)
العلم بوجود جميع الصلوات مع أجزائها، فإذا كان عالماً بنسيان جزء في إحداها، فقد علم بأنّه لم يأت بها مع أجزائها، فيجب عليه قضاء الجزء المنسي إلى أربع جهات لأجل العلم بوجود شرطه; وهو استقبال القبلة.
هذا، ولا يبعد ترجيح هذا الاحتمال، فتدبّر.
مسألة: إذا علم المتحيّر بعد الإتيان بمحتملات ما يجب عليه تكراره، بأنّه لم يأت بجميع المحتملات، بل ترك واحداً منها مثلا; سواء تذكّر في الوقت أو في خارجه، أو علم ببطلان أحد المحتملات من جهة نقصانه لأجل ترك الركن فيها سهواً، فهل يجب عليه الإتيان بما علم أنّه لم يأت به في الوقت أو بعده، أو إعادة ماوقع باطلا، أو لا يجب شيء منهما؟
وجهان من جريان قاعدة الفراغ أو الشك بعد الوقت بالنسبة إليه; لأنّه وإن كان قاطعاً بترك أحد المحتملات، أو بنسيان الركن، إلاّ أنّه يكون بالنسبة إلى المأمور به الواقعي ـ الذي هي الصلاة إلى القبلة الواقعيّة ـ شاكّاً في الإتيان به، أو نسيان الركن فيه، فتجري قاعدة الشك بعد الوقت وقاعدة الفراغ، ومقتضاهما عدم وجوب الإتيان بالمحتمل الذي يعلم بعدم الإتيان به، وعدم وجوب الإعادة فيما لو علم بترك الركن نسياناً.
ومن أنّه وإن كان شاكّاً بالنسبة إلى المأمور به الواقعي في الإتيان به، أو في نسيان الركن فيه، إلاّ أنّه بعد ملاحظة أنّ الشارع لم يسقط شرطيّة القبلة، والمفروض أنّ طريق إحرازها منحصر في الإتيان بالصلاة إلى أربعة جوانب، وأنّه يعلم بترك أحد المحتملات، أو بترك الركن فيه سهواً، الذي هو بمنزلة الأوّل، يحكم العقل والعرف حكماً قطعيّاً بوجوب الإتيان بما علم بفواته، ووجوب الإعادة عليه، وهذا هو الأظهر.
(الصفحة 256)
وفي حكم ترك الركن سهواً، ما لو علم بترك ما لا تبطل الصلاة بتركه سهواً، بل يجب عليه أن يقضيه بعد الفراغ من الصلاة، كالتشهد والسجدة الواحدة، فإذا علم بترك التشهد مثلا في أحد المحتملات يجب عليه قضاؤه، ولا تجري قاعدة الفراغ بالنسبة إليه كما عرفت.
ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكرنا ـ من وجوب الإتيان بما علم فوته، وإعادة المأتيّ به فاسداً من جهة ترك الركن سهواً ـ بين العلم بعدم الإتيان بواحد معيّن من المحتملات أو ببطلانه، وبين العلم إجمالا بعدم الإتيان بواحد منها أو ببطلانه، فيجب عليه في الصورة الاُولى الإتيان بالصلاة إلى الجهة التي يعلم تفصيلا أنّه لم يصلّ إلى تلك الجهة صلاة صحيحة، وفي الصورة الثانية الإتيان بها إلى أربع جهات في كلا الفرضين لإحراز الصلاة إلى القبلة الواقعيّة.
أمّا لو علم بترك ما لا تبطل الصلاة بتركه سهواً، بل يجب عليه قضاؤه بعد الإتمام، فإن علم بتركه في واحد معيّن من المحتملات، فإن كان هو الأخير يجب عليه قضاؤه بعده إلى الجهة التي صلّى الأخير إليها، وإن كان غيره، كما إذا علم بتركه في المحتمل الأوّل أو الثاني أو الثالث فيعلم حكمه من الفرض الآتي.
وإن علم بتركه إجمالا في أحد المحتملات، فالمسألة مبنيّة على أنّ الأجزاء المنسيّة التي يجب قضاؤها بعد الفراغ من الصلاة، هل تكون جزءاً للصلاة ومتمّمة لها، غاية الأمر أنّه قد تغيّرت مواضعها، واكتفى الشارع بإتيانها بعدها، وأوجب سجدتي السهو لأجل تغيير موضعها، أو أنّها تكون مأموراً بها مستقلّة، والمصلحة الفائتة لأجل نسيانها في الصلاة تتدارك بها؟ فعلى الأوّل: يشترط فيها عدم الإنفصال عنها، وكذا كلّ ما يعتبر فيها من الاستقبال وغيره، بخلاف الثاني; فإنّه بناءً عليه لا يضرّ بها الانفصال وفعل المنافي عمداً أو سهواً.
(الصفحة 257)
فإن قلنا بالثاني فيجب عليه فيما نحن فيه قضاؤها إلى الجهات الأربع، وتتدارك بها ما فاتته من المصلحة، ويعلم حينئذ بالإتيان بالمأمور به الواقعي مع جميع أجزائه وشرائطه.
وأمّا بناءً على القول الأوّل، كما هو الظاهر من الأدلّة، فلا يحصل العلم بإتيان الصلاة التامّة إلى القبلة الواقعيّة بقضاء الجزء المنسي إلى أربع جهات; لأنّه يحتمل حصول الانفصال بينه، وبين الصلاة التي نسي جزءها; لأنّه يحتمل نسيان الجزء في غير المحتمل الأخير، مضافاً إلى احتمال الاستدبار عن القبلة، كما هو واضح.
والمفروض أنّه يجب عليه إحراز الاتّصال وواجديّته لشرائط الصلاة، بل يحصل الاحتياط بقضاء الجزء المنسيّ ـ كالتشهد مثلا ـ بعد الإتيان بالمحتمل الأخير إلى الجهة التي صلّى الأخير إليها، ثمّ الإتيان بثلاث صلوات تامّة إلى الجهات الثلاث الاُخر، أو الإتيان ثانياً بالصلاة إلى أربعة جوانب.
ومن هنا ظهر حكم الفرض السابق; فإنّه إذا علم بترك التشهد في المحتمل الثالث مثلا، فطريق الاحتياط هو أن يأتي بصلاة تامّة إلى الجهة التي صلّى المحتمل الثالث إلى تلك الجهة ثانياً، وهكذا حكم سائر فروضه.
مسألة: قد ظهر من مطاوي ما ذكرنا أنّ مراتب امتثال الأمر المتعلّق بالمأمور به الواقعي ـ وهي الصلاة إلى القبلة الواقعيّة ـ ثلاثة:
الأوّل: العلم التفصيلي بإتيانه مع تمكّنه من تحصيله.
الثاني: التحرّي والاجتهاد والعمل على طبق المظنّة من أيّ شيء حصلت، مع عدم التمكّن من تحصيل العلم التفصيلي.