(الصفحة 461)
ولو بقلع الثوب وإلقائه، فيستفاد من تلك الروايات قاعدة كلية; وهي عدم بطلان الصلاة لو وقع بعض أكوانها المتخلّلة بين أفعالها في النجاسة إذا لم يأت بفعل أو قول معها.
هذا إذا احتمل حدوثها في الأثناء، وإن لم يحتمل حدوثها فيه، بل تبيّن له أنّها كانت من قبل، بحيث وقع بعض أفعال الصلاة معها، فمقتضى قاعدة الإجزاء وجوب الإتمام مع إمكان غسله، وعدم وجوب الإعادة أو القضاء، كما أنّ مقتضى الروايات المتقدّمة ـ الواردة فيما لو تبيّن وقوع الصلاة في النجاسة بعد الفراغ عنها ـ ذلك; لأنّه إذا كانت الصلاة الواقعة بتمامها فيها صحيحة مجزئة، فإذا وقع بعض أفعالها في النجاسة مع الجهل بها، فصحّتها وإجزاؤها بطريق أولى.
وقد عرفت أنّه لا يضرّ وقوع بعض الأكون المتخلّلة بين الأفعال في النجاسة، فمقتضى القاعدة عدم وجوب الإعادة، إلاّ أنّه يظهر من بعض الروايات الفرق بين ما إذاتبيّن الخلاف في الأثناء، وبين ماإذا تبيّن بعد الفراغ، وأنّه تجب الإعادة في الصورة الاُولى، دون الثانية.
مثل رواية أبي بصير المتقدّمة(1) عن أبي عبدالله(عليه السلام)، حيث قال(عليه السلام)في رجل صلّى في ثوب فيه جنابة ركعتين ثمّ علم به: عليه أن يبتدئ الصلاة، وقال في مقام الجواب عن السؤال عمّا إذا علم بوقوعها في النجاسة بعد الفراغ: مضت صلاته ولا شيء عليه. ومثل صحيحة زرارة المتقدّمة(2).
وحيث إنّ الرواية متضمّنة لأحكام وفروع كثيرة، فلا بأس بنقلها بتمامها،
فنقول: روى الشيخ في التهذيب عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد، عن حريز،
- (1) في ص453.
- (2) في ص462.
(الصفحة 462)
عن زرارة قال(1): قلت: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من منيّ، فعلّمت أثره إلى أن أُصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصلاة، ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال(عليه السلام): تعيد الصلاة وتغسله. قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته؟ قال: تغسله وتعيد الصلاة.
قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك، فنظرت فلم أرَ شيئاً، ثمّ صلّيت فيه فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت: لِمَ ذلك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً.
قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك.
قلت: فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب بالشكّ الذي وقع في نفسك.
قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة; لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ(2).
فإنّ الجواب عن السؤال الثالث يدلّ على عدم وجوب الإعادة فيما إذا
- (1) ورواه الصدوق في العلل عن أبيه، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام)، وعليه: لا تكون الرواية مضمرة «منه».
- (2) تهذيب الأحكام 1: 421، ح1335; الاستبصار 1: 183، ح641; علل الشرائع: 361; وعنها وسائل الشيعة 3: 479; كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب42، ح2; وص477، ب41، ح1; وص402، ب7، ح2; وص466، ب37، ح1; وص482، ب44، ح1.
(الصفحة 463)
انكشف الخلاف بعد الفراغ والإتمام، والجواب عن السؤال الأخير يدلّ على وجوب الإعادة فيما إذا التفت إلى النجاسة في الأثناء، وعلم بوقوع بعض الأفعال فيها، وعلى عدم وجوبها في هذه الصورة فيما إذا علم أو احتمل حدوثها في الأثناء.
وبالجملة: فظاهر الرواية التفصيل بين ما إذا تبيّن وقوع الصلاة في النجاسة بعد الفراغ، وبين ما إذا تبيّن ذلك في الأثناء، ولكن قد يدّعى القطع بعدم الفرق بين الصورتين، بل بأولويّة عدم وجوب الإعادة في الصورة الثانية، خصوصاً بعد اشتراكهما في العلّة التي علّل الإمام(عليه السلام) عدم وجوب الإعادة في الصورة الاُولى بها، وهي جريان الاستصحاب واقتضاء دليله الإجزاء، وهذا يوجب طرح الرواية.
مضافاً إلى أنّ من البعيد أن لا يسأل زرارة بعد سؤاله عن علّة الحكم في الصورة الاُولى عن علّة حكم هذه الصورة، خصوصاً بعد اشتراكهما في التعليل كما عرفت آنفاً.
هذا، ولا يخفى أنّه لا وجه لطرح الرواية بعد كونها صحيحة، ومجرّد الاستبعاد لا يوجب ذلك، واقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ودلالته على توسعة المأمور به بالأمر الواقعيّ الأوّلي إنّما هو مقتضى ظاهر دليله، فلا ينافي ورود دليل خاصّ على خلافه، كما قام في الطهارة الحدثيّة على وجوب الإعادة فيما إذا تبيّن كونه فاقداً لها.
وبالجملة: فالظاهر لزوم الأخذ بمقتضى الرواية، وجعلها دليلا على التفصيل في المسألة وإن كان خلاف القاعدة.
(الصفحة 464)
هذا، وقد يتوهّم دلالة صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة(1) على ما ذكرنا أيضاً، حيث قال الإمام(عليه السلام) فيها: إن رأيت المنيّ قبل أو بعدما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، وإن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثمّ صلّيت فيه ثمّ رأيته بعد فلا إعادة عليك، وكذلك البول.
هذا، ولا يخفى أنّ ظاهرها التفصيل بين ما إذا كان مسبوقاً بالعلم، وما إذا لم يكن كذلك، لا الفرق في الثاني بين الأثناء وبعد الفراغ، كما هو مفروض المسألة; لأنّ المراد بقوله(عليه السلام): «إن رأيت المنيّ» إلخ أنّه إن رأيت المنيّ قبل الشروع في الصلاة أو بعد الدخول فيها ونسيت إزالته وصلّيت ثمّ ذكرت فعليك الإعادة، فهذه الجملة ـ أعني الجملة الاُولى ـ متعرّضة لحكم ما إذا سبق العلم قبل إتمام الصلاة، ووقعت باقي أجزائها مع تقدّم العلم.
غاية الأمر أنّ ذلك لا يتحقّق من القاصد للامتثال الملتفت إلى شرطيّة الطهارة إلاّ مع نسيان الإزالة، ويؤيّد ذلك عطف قوله(عليه السلام): «بعدما تدخل» على قوله(عليه السلام): «قبل»، الدالّ على أنّ الفرض هو ما إذا وقعت الصلاة أو بعض أجزائها مسبوقة بالعلم بالنجاسة، كما يؤيّده أيضاً قوله(عليه السلام): «فعليك إعادة الصلاة»، كما لا يخفى.
ثمّ إنّه قد يتوهّم أيضاً دلالة رواية اُخرى لمحمّد بن مسلم على التفصيل المتقدّم، الذي دلّت عليه صحيحة زرارة المتقدّمة; وهي:
ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن محمّدبن مسلم قال: قلت له: الدم يكون في الثوب عليّ وأنا في الصلاة، قال: إن رأيته(2)
- (1) في ص457.
- (2) كذا في التهذيب والفقيه والوسائل وفي الكافي: إن رأيت، وكلمة «ثوب» ليس في الكافي.
(الصفحة 465)
وعليك ثوب غيره فاطرحه وصلّ، وإن لم يكن عليك ثوب غيره فامض في صلاتك، ولا إعادة عليك ما لم يزد على مقدار الدرهم، وما كان أقلّ من ذلك فليس بشيء، رأيته قبل أو لم تره، وإذا كنت قد رأيته وهو أكثر من مقدار الدرهم فضيّعت غسله وصلّيت فيه صلاة كثيرة، فأعد ما صلّيت فيه(1).
وعن التهذيب زيادة لفظة «و» قبل قوله(عليه السلام): «ما لم يزد»، وإسقاط قوله(عليه السلام): «وما كان أقلّ»، وعليه: تكون جملة «ما لم يزد» إلخ، جملة مستأنفة خبرها قوله(عليه السلام): «فليس بشيء».
وحيث إنّ الشيخ رواها في التهذيب عن كتاب الكافي، فيدلّ ذلك على أنّ النسخة الموجودة عنده منه مطابقة لما في التهذيب، فلا مجال للقول بأنّ ما في الكافي أضبط ممّا في غيره، كما لا يخفى.
وكيف كان، فلابدّ من توضيح معنى الرواية، وبيان مقدار دلالتها ليظهر حال التوهّم المذكور، فنقول:
الظاهر إطلاق السؤال وشموله لما إذا علم بوقوع بعض أجزاء الصلاة في الدم المرئيّ في الأثناء، ولما إذا احتمل حدوثه في الأثناء، كما أنّ الظاهر عدم شموله لما إذا صلّى في الدم عالماً; إذ لا يتحقّق ذلك من المكلّف القاصد للامتثال الملتفت إلى شرطيّة الطهارة.
وأمّا الجواب، فهو متضمّن لأربع جملات:
أحدها: قوله(عليه السلام): «إن رأيته» إلخ، والمراد أنّه لو رأيته في الأثناء وأمكن لك الإزالة وتحصيل الطهارة، بحيث لا تبقى مكشوف العورة، يجب عليك ذلك
- (1) الكافي 3: 59، ح3; الفقيه 1: 161، ح758; تهذيب الأحكام 1: 254، ح736; الاستبصار 1: 175، ح609; وعنها وسائل الشيعة 3: 431، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب20، ح6، ومتن الاستبصار مطابق مع الكافي.