(الصفحة 360)
اُمور واقعيّة يحتمل كون شرب التتن منها(1). انتهى محلّ الحاجة من كلامه(قدس سره).
أقول: لا يخفى أنّ الحكم بعدم الفرق بين الشبهات الموضوعيّة والحكميّة في جريان البراءة العقليّة في غير محلّه; لأنّ العقل يحكم بأنّ المخالفة في الاُولى مع العلم بالحكم موجبة لخروج العبد عن رسوم العبوديّة، وكونه طاغياً على مولاه، دون المخالفة في الثانية.
والحكم بأنّ النهي عن الخمر لا يدلّ إلاّ على حرمة الأفراد المعلومة، كما هو ظاهر كلام الشيخ بل صريحه، مندفع بأنّ المفروض مع قطع النظر عن الأخبار الدالّة على حلّية المشتبه، أنّ الحكم بالتحريم ثابت للخمر الواقعي من دون دخالة العلم في موضوعه، كيف؟ ومعه لا مجال لاحتمال التكليف في الفرد المشتبه; لفرض عدم وجود العلم المأخوذ في موضوعه، وهو ممّا يقطع بخلافه، فالنهي عامّ والمخالفة مع احتمال ثبوته غير جائزة عند العقل.
هذا، وغاية ما يمكن أن يقال في وجه جريان البراءة العقليّة في الشبهات الموضوعيّة، ما أفاده بعض الأعلام من المعاصرين في الرسالة التي صنّفها في حكم الصلاة في الألبسة المشكوكة، حيث قال ما ملخّصه:
إنّه لا خفاء في أنّه لابدّ أن يكون متعلّق التكليف عنواناً اختياريّاً للمكلّف قابلا لأن يتعلّق به الإرادة، إمّا بنفسه، أو بالتوسيط، وذلك العنوان يكون على أربعة أقسام:
الأوّل: العنوان الذي يكون متعلّقاً للتكليف، بلا تعلّق له بموضوع خارجيّ، خارج عن تحت القدرة والاختيار، كالتكلّم والضحك والبكاء ونحوها.
- (1) فرائد الاُصول (تراث الشيخ الأعظم) 2: 121ـ122.
(الصفحة 361)
الثاني: العنوان الذي يكون له تعلّق بالموضوع الخارجي، وكان ذلك الموضوع أمراً جزئيّاً متحقّقاً في الخارج، كاستقبال القبلة واستدبارها.
الثالث: أن يكون له تعلّق بالموضوع الخارجيّ الذي اُخذ وجوده ولو ببعض أفراده موضوعاً للحكم، وبعبارة اُخرى: موضوع الحكم هو صرف وجوده المساوق للإيجاب الجزئي، كما في الوضوء والتيمّم بالنسبة إلى الماء والتراب.
الرابع: أن يتعلّق بالموضوع الخارجيّ الذي يكون عنواناً كلّياً ذا أفراد محقّقة الوجود ومقدّرته، ولوحظ ذلك العنوان في مقام تعلّق الحكم مرآتاً للأفراد الموجودة والمقدّرة، كالشرب المتعلّق بالخمر وغيره ممّا يكون موضوعاً للحكم على نحو القضايا الحقيقيّة.
وينحلّ الحكم في هذا القسم إلى أحكام كثيرة حسب تعدّد الموضوع وكثرته، فيختصّ كلّ واحد من أفراد الموضوع بحكم خاصّ، كما هو الشأن في القضايا الحقيقيّة; فإنّ كلّ واحد من أشخاص موضوعاتها له حكم خاصّ، ففي الحقيقة يصير معنى «لا تشرب الخمر» أنّه يحرم شرب كلّ خمر موجود في الخارج، أو يوجد بعد.
وبملاحظة ما ذكره المنطقيّون(1) من انحلال القضايا الحقيقيّة إلى شرطيّة متّصلة مقدّمها عقد الوضع فيها، وتاليها عقد الحمل، يصير معنى «لا تشرب الخمر» هكذا: كلّ خمر إذا وجد في الخارج فهو بحيث إذا وجد يحرم شربه، وهذه القضيّة كما ترى تكون الحرمة فيها مترتّبة على وجود الخمر، فالحرمة المجعولة للخمر قبل تحقّقه ووجوده في الخارج تكون حكماً إنشائيّاً، وفعليّتها
- (1) تحرير القواعد المنطقيّة في شرح الرسالة الشمسيّة: 253ـ260; الحاشية على تهذيب المنطق لملاّ عبدالله: 101ـ102; شرح المنظومة 1: 248ـ249.
(الصفحة 362)
وكونها زاجرةً للمكلّف يتوقّف على وجوده في الخارج.
ومن المعلوم أنّ المنجّز للتكليف إنّما هو العلم بالتكليف الفعلي، لا العلم بالحكم الإنشائي، وقد عرفت أنّ فعليّته متوقّفة على وجود موضوعه، فتنجّز الحرمة يتوقّف على العلم بالتكليف الفعلي، وهو يتوقّف على وجود موضوعه، فتنجّزها يتوقّف على العلم بوجود الموضوع، ففي الحقيقة يكون وجود الموضوع من جملة شرائط وجود التكليف.
ومن هنا يظهر بطلان ما يترائى من كلام الشيخ(قدس سره) في الرسالة(1)، حيث إنّ الظاهر منه أنّ عدم وجوب الاجتناب في الشبهات الموضوعيّة إنّما هو لعدم كونها مقدّمة علميّة حتّى تجب بوجوب ذيها، وذلك لما عرفت من أنّ جواز الاقتحام، وعدم وجوب الاجتناب فيها إنّما هو لعدم العلم بتحقّق شرط التكليف.
فهو نظير ما إذا شكّ في تحقّق الاستطاعة التي يكون وجوب الحجّ مشروطاً بوجودها، وهذا هو الفارق بين هذا القسم والأقسام الثلاثة المتقدّمة، حيث إنّ الحكم فيها منجّز بنفس العلم به واجتماع شرائط التكليف من القدرة وغيرها، كما هو واضح(2)، انتهى ملخّص كلامه زيد في علوّ مقامه.
ويرد عليه أوّلا: المنع من انحلال التكليف التحريميّ المتعلّق بشرب الخمر مثلا إلى أحكام كثيرة حسب كثرة الموضوع وهو الخمر، بل الحقّ كونه تكليفاً واحداً له عصيانات متعدّدة وامتثالات متكثّرة.
- (1) تقدّم في ص359ـ360.
- (2) رسالة الصلاة في المشكوك للمحقّق النائيني(رحمه الله): 188ـ260.
(الصفحة 363)
توضيح ذلك: أنّ المشهور(1) ذهبوا إلى أنّ معنى النهي هو طلب الترك، وتبعهم جماعة من المتأخّرين، منهم: المحقّق الخراساني(قدس سره) في الكفاية(2)، وعليه: يشترك النهي مع الأمر في أنّ معناه أيضاً هو الطلب، غاية الأمر أنّ الطلب في الأمر متعلّق بوجود الطبيعة، وفي النهي بتركها، وهو خلاف التحقيق; فإنّه يلزم بناءً عليه سقوط النهي بالكلّية عن عهدة من خالفه وعصاه ولو مرّة; فإنّ عدم الطبيعة ليس كوجودها حتّى يكون له أفراد متعدّدة ومصاديق متكثِّرة; لأنّه ليس شيئاً متحقّقاً وأمراً ثابتاً حتّى يكون واحداً أو كثيراً.
غاية الأمر أنّ العقل بعد إضافته إلى الطبيعة التي لا تكون في حدّ ذاتها متكثّرة ـ كما أنّها لا تكون واحدة ـ يعتبرها أمراً واحداً وشيئاً فارداً.
وحينئذ يلزم سقوط النهي بالمخالفة بناءً على ما يقولون من أنّ المعصية مسقطة للتكليف كامتثاله، فيلزم عدم استحقاق العقوبة إذا ارتكبه ثانياً وثالثاً وهكذا، وكذا يلزم عدم الفرق بين من ارتكبه قليلا أو كثيراً، وعدم القدرة على الامتثال أصلا لو خالفه ولو مرّة، وبطلان اللوازم بمكان من الوضوح.
فالتحقيق أن يقال: إنّ معنى النهي ليس هو الطلب، بل معناه الزجر عن إيجاد الفعل المنهيّ عنه، كما أنّ معنى الأمر هو البعث إلى إيجاد الفعل المأمور به، فمتعلّق النهي هو عين متعلّق الأمر، ولكن معناهما متغايران، عكس ما ذكره المشهور.
غاية الأمر أنّ للنهي عصيانات متعدّدة حسب تعدّد وجود الطبيعة المتعلّقة
- (1) معارج الاُصول للمحقّق الحلّي: 116; معالم الدِّين وملاذ المجتهدين في اُصول الفقه: 90ـ91; هداية المسترشدين 3: 17ـ18; تعليقة على معالم الاُصول 4: 496.
- (2) كفاية الاُصول: 182.
(الصفحة 364)
للنهي; لأنّ متعلّقه هو الوجود على ما عرفت، وهو يحصل به مخالفته، فتتكثّر المخالفة بتكثّره، كما أنّ متعلّق الأمر يحصل به موافقته وامتثاله.
وتوهّم أنّه لا يعقل تحقّق المعاصي المتعدّدة بالنسبة إلى تكليف واحد; لأنّ المعصية إذا تحقّقت يسقط بها التكليف.
مدفوع بمنع ذلك; إذ لا معنى لكون المعصية مسقطة للتكليف، وسقوطه في بعض موارد العصيان إنّما هو لكون التكليف فيه مشروطاً وموقّتاً بوقت خاصّ، ولم يؤت به في وقته، فسقوطه إنّما هو لمضيّ وقته، وهو يستلزم سلب القدرة على الامتثال المعتبرة في ثبوت التكليف بلا إشكال، ولا دخل للعصيان فيه أصلا.
وهذا بخلاف الامتثال والموافقة في الأمر; فإنّه بمجرّد تحقّقه يوجب سقوط الأمر لحصول الغرض به. فقد ظهر أنّ النهي مع كونه تكليفاً واحداً، له عصيانات متعدّدة موجبة لاستحقاق عقوبات متكثّرة، كما أنّ له أيضاً امتثالات متعدّدة.
غاية الأمر أنّ استحقاق المثوبة إنّما هو فيما إذا كان الاجتناب لملاحظة نهي الشارع، مع كون اقتضاء قوّة الشهويّة أو الغضبيّة هو الارتكاب، وانقدح من جميع ما ذكرنا بطلان القول بانحلال النواهي إلى تكاليف عديدة حسب تعدّد الموضوع.
وثانياً: منع كون التكليف في هذا القسم ـ أي القسم الرابع ـ مشروطاً بوجود الموضوع; إذ المراد من التكليف المشروط أن يكون البعث أو الزجر ثابتاً على فرض وجود الشرط، وحينئذ لا يمكن أن يقال: إنّ الزجر في النواهي مشروط بوجود موضوعاتها; إذ القول به ليس إلاّ كالقول بأنّ النهي مشروط بما إذا اقتضى طبعه الارتكاب الذي يكون الترك فيه غاية للنهي.