(الصفحة 347)
والجورب والقلنسوة ونحوها ممّا يصدق عليه اللباس، ولا يكون محيطاً بالشخص اللاّبس له، أو يعمّ ما ذكر وما إذا لم يكن لباساً; ولكن كان لباسه ملاصقاً وملابساً معه، كما إذا لاقى ثوبه بول غير مأكول اللحم، أو كانت خيوط ثوبه التي خيط بها من شعره، وغيرهما من الصور، أو يقال بشمول دليل الاعتبار لمثل ما إذا كان محمولا للمصلّي أيضاً؟ وجوه:
ذهب الشهيدان(قدس سرهما) إلى اختصاص المنع بما إذا كان لباس المصلّي من أجزائه، بل نقل عنهما أنّ عدم شمول دليل المنع لما إذا صلّى في الثوب الملقاة عليه شعراته، وجواز الصلاة فيه، من المقطوع به(1)، ولكن حكي عن ظاهر المشهور القول بالمنع مطلقاً(2).
ويدلّ عليه ما رواه في الكافي موثّقاً عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن بكير قال: سأل زرارة أبا عبدالله(عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر؟ فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله، فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه وكلّ شيء منه فاسدة، لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ الله أكله.
ثمّ قال: يازرارة هذا عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فاحفظ ذلك يا زرارة، فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شيء منه جائزة إذا
- (1) ذكرى الشيعة 3: 52; مسالك الأفهام 1: 162; روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 572ـ574; وكذا العاملي في مدارك الأحكام 3: 165ـ166; والفيض في مفاتيح الشرائع 1: 109.
- (2) في ذخيرة المعاد: 234; وكفاية الفقه، المشتهر بـ «كفاية الأحكام» 1: 82; وبحار الأنوار 83: 221: «أكثر»; ولكن في رياض المسائل 3: 156; وجواهر الكلام 8: 126 عن الذخيرة والبحار: أنّه المشهور، وراجع ص345.
(الصفحة 348)
علمت أنّه ذكيّ قد ذكّاه الذبح، وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كلّ شيء منه فاسدة، ذكّاه الذبح أم لم يذكّه(1).
وقد استشكل على الاستدلال بالرواية للقول المشهور بأنّ ظاهر كلمة «في»، في قوله(عليه السلام): «فالصلاة في وبره» إلخ، هي الظرفيّة، ومقتضاها كون أجزاء غير مأكول اللحم بحيث يكون ظرفاً للمصلّي ومحيطاً به، وهو لا يصدق فيما إذا اُلقي على ثوبه وبره، أو شعره، وكذا فيما إذا كان مستصحباً لهذه الاُمور من دون لبس(2).
هذا، ونقل عن البهبهاني(قدس سره) أنّه أجاب عن هذا الإشكال بما حاصله:
إنّ كلمة «في» ليست للظرفيّة; لامتناع اعتبار كون البول والروث ظرفاً للمصلّي، فلابدّ من أن يراد منها المصاحبة، ومعه يتمّ الاستدلال، ثمّ أورد على نفسه بأنّ اعتبار الظرفيّة في الروث والبول إنّما هو بملاحظة تلطّخ الثوب أو البدن بواحد منهما، فكأنّه قيل: الصلاة في الثوب المتلطّخ بهما فاسدة.
وعليه: فلا يشمل ما إذا كان شيء من أجزاء غير المأكول محمولا للمصلّي ولا يدلّ على المنع فيه.
ثمّ أجاب بأنّ ذلك المعنى مستلزم للاضمار والحذف، بخلاف ما ذكرنا في معناه; فإنّه مستلزم للمجازيّة، وقد قرّر في الاُصول(3) تقدّم الثاني على الأوّل
- (1) الكافي 3: 397، ح1; تهذيب الأحكام 2: 209، ح818; وعنهما وسائل الشيعة 4: 345، أبواب لباس المصلّي، ب2، ح1.
- (2) كما في رياض المسائل 3: 156; وجواهر الكلام 8: 127.
- (3) الفوائد الحائريّة: 332.
(الصفحة 349)
فيما إذا دار الأمر بينهما(1)، انتهى.
ولكن يمكن أن يقال بإمكان اعتبار الظرفيّة فيما إذا تلطّخ الثوب بهما بملاحظة ملابسة الثوب معهما، فكأنّهما صارا جزءين للثوب، فهو نظير ما إذا كان بعض الثوب من أجزاء غير المأكول دون البعض الآخر.
هذا، ولا يخفى بُعد هذا المعنى، والظاهر بعد امتناع اعتبار الظرفيّة لما عرفت في كلام المجيب هو جعل كلمة «في» بمعنى المصاحبة، ومعه يتمّ الاستدلال ويشمل الدليل جميع الصور حتّى ما إذا كان المصلّي مستصحباً لرطوبات غير المأكول التي لا تعدّ من أجزائه الفعليّة.
ثمّ لا يخفى أنّ التكرار الواقع في قوله(عليه السلام): «إنّ الصلاة» إلخ، والحزازة الواقعة في قوله(عليه السلام): «لا تقبل تلك الصلاة» إلخ، وغير ذلك من الجهات المخالفة للفصاحة، يشعر بأنّ الرواي نقل الرواية بالمعنى، ولم يضبط الألفاظ الصادرة من الإمام(عليه السلام)، ولكنّه لا يضرّ بالاستدلال بالرواية; لمعلوميّة المضمون الصادر منه(عليه السلام).
ويؤيّدها ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن عمر بن عليّ بن عمر بن يزيد، عن إبراهيم بن محمّد الهمداني قال: كتبت إليه: يسقط على ثوبي الوبر والشعر ممّا لا يؤكل لحمه من غير تقيّة ولا ضرورة، فكتب: لا تجوز الصلاة فيه(2).
وغير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة عليه بالعموم أو بالخصوص(3)، وإن كان
- (1) الحاشية على مدارك الأحكام 2: 348; وكذا في مصباح الفقيه 10: 224ـ225.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 209، ح819; الاستبصار 1: 384، ح1455; وعنهما وسائل الشيعة 4: 346، أبواب لباس المصلّي، ب2، ح4.
- (3) وسائل الشيعة 4: 345ـ347، أبواب لباس المصلّي، ب2.
(الصفحة 350)
كلّ واحد منها لا يصلح للحجّية، ولا يجوز الاعتماد عليه منفرداً، إلاّ أنّ المجموع قابل للاستناد إليه، خصوصاً بعد ملاحظة الشهرة والإجماعات المنقولة.
ثمّ إنّ مقتضى إطلاق موثّقة ابن بكير المتقدّمة وغيرها عدم الفرق في المنع عن الصلاة في أجزاء غير المأكول، بين كون ما يصلّى فيه ممّا تتمّ فيه الصلاة منفرداً، وبين غيره كالقلنسوة والجورب وغيرهما ممّا لا تتمّ فيه الصلاة وحده، خلافاً لما حكي عن الشيخ في المبسوط، حيث خصّ فيه المنع بالأوّل بعد اختياره في النهاية التعميم(1) على ما هو ظاهر كلامه بل صريحه.
ونقل العلاّمة في محكيّ المختلف عن الشيخ أنّه استدلّ على الجواز في الثاني بأنّه قد ثبت للتكّة والقلنسوة حكم مغاير لحكم الثوب من جواز الصلاة فيهما، وإن كانا نجسين، أو من حرير محض، فكذا يجوز لو كانا من وبر الأرانب وغيره(2)، انتهى.
وظاهر كلامه وإن كان هو الاستدلال بالقياس الذي أجمعت الإماميّة على عدم حجّيته، إلاّ أنّه يمكن أن يكون مراده الاستدلال بما ورد في الحرير الفارق بينهما في الحكم الشامل بعمومه للمقام; وهو ما رواه في التهذيب عن كتاب سعد بن عبدالله الأشعري، عن موسى بن الحسن ـ الذي هو من أكابر الطبقة الثامنة ـ عن أحمد بن هلال، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: كلّ ما لا تجوز الصلاة فيه وحده فلا بأس بالصلاة فيه، مثل التكّة الإبريسم والقلنسوة والخفّ والزنّار يكون في السراويل ويصلّى فيه(3).
- (1) راجع المبسوط 1: 83; والنهاية: 98.
- (2) مختلف الشيعة 2: 80.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 357، ح1478; وعنه وسائل الشيعة 4: 376، أبواب لباس المصلّي، ب14، ح2.
(الصفحة 351)
بناءً على أن يكون قوله(عليه السلام): «مثل التكّة الإبريسم»، بياناً لما هو المانع من صحّة الصلاة فيما تتمّ فيه الصلاة وحده ومثالا له، ولم يكن مراده الاختصاص بالإبريسم، بل كان ذكره كذكر التكّة والقلنسوة من باب المثال، ففي الحقيقة يكون المراد أنّ كلّ ما يكون مانعاً من الصلاة فيما تتمّ الصلاة فيه من كونه نجساً أو حريراً محضاً، أو من أجزاء غير المأكول، فهو لا يكون مانعاً بالنسبة إلى ما لاتتمّ الصلاة فيه وحده، فتجوز الصلاة فيه وإن كان واجداً لشيء من الموانع أو لجميعها.
فالرواية بعمومها تدلّ على ما ذكره الشيخ(رحمه الله) من الفرق بينهما في المقام أيضاً، ويمكن أن يكون مراده الاستدلال بالاستقراء، بتقريب أنّ مراجعة الأدلّة المانعة عن الصلاة في النجس وفي الحرير المحض الشاملة بإطلاقها لجميع الموارد بعد قيام القرينة المنفصلة على التقييد بالصورة الاُولى، تقتضي الحكم بأنّ مراد الشارع من المطلقات الواردة في غير النجس والحرير هو المقيّد، فلا دلالة لها على المنع في غير تلك الصورة.
هذا، وفي كلّ منهما نظر:
أمّا الأوّل: فلضعف سند الرواية لتضعيف كثير من علماء الرجال لأحمد بن هلال، مضافاً إلى ما نقل من التوقيع عن الناحية المقدّسة الوارد في مذمّته بقوله(عليه السلام): إحذروا الصوفيّ المتصنّع(1)، إلخ.
ويؤيّده عدم نقل هذه الرواية أحد من تلامذة ابن أبي عمير غيره، فهي ساقطة
- (1) اختيار معرفة الرجال، المعروف بـ «رجال الكشّي»: 535، الرقم 1020; وعنه مستدرك الوسائل 12: 318، أبواب الأمر والنهي، ب37، ح14194.