(الصفحة 535)
وقد روي أيضاً عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه قال: لـمّا هبط جبرئيل(عليه السلام)بالأذان على رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان رأسه في حجر عليّ(عليه السلام)، فأذّن جبرئيل(عليه السلام)وأقام، فلمّا انتبه رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: يا عليّ سمعت؟ قال: نعم، قال: حفظت؟ قال: نعم، قال: أُدع بلالا فعلّمه، فدعا عليّ(عليه السلام) بلالاً فعلّمه(1).
وبالجملة: فالظاهر أنّ الأذان ثبت مطلوبيّته من الله ـ تعالى ـ بالوحي على الرسول(صلى الله عليه وآله)، كما عرفت أنّه مدلول الرواية.
وقد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل على وجوب الأذان، مضافاً إلى ماتقدّم من وجود الدليل على عدم الوجوب.
ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا ـ من أنّ تشريع الأذان في الابتداء كان لدعوة الناس إلى إقامة الصلاة، غاية الأمر أنّه قد شرع للمنفرد أيضاً لأن تصير صلاته جماعة ـ أنّه لا دليل على مشروعيّة الأذان لمجرّد الإعلام بدخول الوقت، كما يظهر من جماعة من الفقهاء(2)، فإذا لم تكن في البين صلاة، فالأذان لغيرها لم يعلم من الأدلّة كونه مشروعاً، بل الظاهر أنّه مجعول لدعوة الناس إلى إقامة الصلاة، كما تدلّ عليه الآيتان المتقدّمتان.
هذا، مضافاً إلى أنّ فصوله الأخيرة التي تعرف حقيقتها وماهيّتها كالحيّعلات، شاهدة على ما ذكرنا; من أنّ المقصود منه دعوة الناس إلى الصلاة، غاية الأمر أنّه يدعوهم إلى الصلاة ابتداءً ثمّ يدعوهم إلى الفلاح الذي هو عبارة عن الصلاة;
- (1) الكافي 3: 302، ح2; الفقيه 1: 183، ح865; تهذيب الأحكام 2: 7277 ح1099; وعنها وسائل الشيعة 5: 369، أبواب الأذان والإقامة، ب1، ح2.
- (2) السرائر 1: 210; تحرير الأحكام 1: 220; جامع المقاصد 2: 171; روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 636; مسالك الأفهام 1: 182ـ183; كشف اللثام 3: 362; الحدائق الناضرة 7: 394ـ397.
(الصفحة 536)
للإشعار بأنّها هو ما يكون مطلوباً عندهم، ثمّ يدعوهم إلى خير الأعمال الذي هو عبارة عنها أيضاً، واختلاف التعبير لما ذكرنا من الإشعار بأنّ الصلاة هي ما توجّهت إليه النفوس، واشتاقت للوصول إليه من الفلاح والسعادة وخير الأعمال والأفعال.
ومن المعلوم أنّ هذا النحو من التعبير أوقع في النفس، وأحسن في تشويق النفوس إلى الصلاة، من تكرار لفظها مرّتين أو مرّات، كما لا يخفى.
وبالجملة: فلا دليل على مشروعية الأذان لغير الصلاة، بل لمجرّد الإعلام بدخول الوقت، وقد يتوهّم ذلك لجريان السيرة عليه. وفيه: مضافاً إلى منع الصغرى أنّ الكبرى ممنوعة أيضاً.
ثمّ إنّه لا تنحصر مشروعيّة الأذان والإقامة بخصوص الرجال، بل الظاهر التعميم للنساء أيضاً، كما صرّح به في الروايات الكثيرة الدالّة على استحباب الأذان والإقامة لهنّ(1)، وأنّهنّ لو لم يفعلن يجزئ التكبير والشهادتان، غاية الأمر أنّ الأوّل أفضل واستحبابه آكد.
ثمّ إنّ صاحب الحدائق(2) ذكر في أواخر مسألة اشتراط الذكوريّة في المؤذّن ماحاصله: أنّه لا يشترط الذكوريّة في أذان الصلاة; لإطلاق أدلّته، وخصوص بعض الروايات الدالّة على مشروعيّته للنساء.
وأمّا أذان الإعلام فثبت مشروعيّته بالسيرة، ولا إطلاق لها، فالواجب الاقتصار على القدر المتيقّن; وهو كون المؤذّن رجلا لا امرأة، وهذا; أي كون الأذان على قسمين: أذان الإعلام، وأذان الصلاة، هو الذي اختاره تلميذه العلاّمة
- (1) وسائل الشيعة 5: 405ـ406، أبواب الأذان والإقامة، ب14، ح1، 2 و 5.
- (2) الحدائق الناضرة 7: 335.
(الصفحة 537)
الطباطبائي في منظومته، حيث قال:
وما له الأذان في الأصل وسم *** شيئان إعلام وفرض قد علم
ثمّ بيّن افتراقهما في الأحكام ـ إلى أن قال: ـ
فافترق الأمران في الأحكام *** فرقاً خلا عن وصمة الإبهام(1)
واستدلّ صاحب الجواهر(2) لمشروعيّة أذان الإعلام بما ذكره صاحب الحدائق، من جريان السيرة القطعيّة به، وباستفادتها من النصوص المستفيضة، كصحيح معاوية بن وهب، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): من أذّن في مصر من أمصار المسلمين سنة وجبت له الجنّة(3). وغيره من الأخبار الواردة في مدح المؤذّنين(4).
أقول: أمّا السيرة، فقد عرفت ما فيها، وأمّا النصوص، فلا تنافي كون الأذان فيها لإعلام الناس إلى إقامة الجماعة; لأنّه حيث يكون الأذان كذلك متوقّفاً على الصوت البليغ الذي يسمعه الناس، ـ كما يدلّ عليه التعبير عنه في الآيتين بالنداء. ومن المعلوم أنّ الصوت كذلك يأبى عنه بعض الناس بل أكثرهم; لمنع صفة التكبّر الموجود فيهم عنه ـ ترتّبت عليه تلك المثوبات العظيمة والفوائد الخطيرة.
وبالجملة: فلا يستفاد من النصوص الواردة في هذا الباب مشروعيّة الأذان، لمجرّد الإعلام بدخول الوقت. نعم، لابأس بالإتيان به رجاءً كسائر ما لم يثبت
- (1) الدرّة النجفيّة: 113 و 114.
- (2) جواهر الكلام 9: 5ـ6.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 283، ح1126; الفقيه 1: 185، ح881; وعنهما وسائل الشيعة 5: 371، أبواب الأذان والإقامة، ب2، ح1.
- (4) وسائل الشيعة 5: 371، ب2 من هذه الأبواب.
(الصفحة 538)
استحبابه; لوجود القول بالاستحباب بين الفقهاء(1)، وصدق البلوغ بذلك(2)، كما هو واضح.
مسألة: في كيفيّة الأذان والإقامة
فاعلم أنّ المشهور بين الإماميّة في كيفيّة الأذان، أنّه عبارة عن التكبير أربع مرّات، والشهادة بالتوحيد مرّتين، والشهادة بالرسالة مرّتين، والدعاء إلى الصلاة مرّتين، والدعوة إلى الفلاح كذلك، والدعاء إلى خير العمل كذلك، والتكبير مرّتين، والتهليل مرّتين، فيكون مجموع الأذان ثماني عشرة كلمة(3).
ويظهر من بعض أصحابنا القول بكون التكبير في آخره أربع مرّات كالتكبير في أوّله(4). وعليه: فيكون عشرين كلمة، وخالف جميع العامّة في قول «حيّ على خير العمل» بعد قول «حيّ على الفلاح»(5) على ما تشهد به سيرتهم المستمرّة، ولا ريب في أنّه كان هذا القول من فصول الأذان في زمان النبيّ(صلى الله عليه وآله). غاية الأمر أنّه لا يعلم لِمَ أُسقط ومن أسقطه بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله)؟! قد يقال كما قيل: بأنّه أُسقط في زمان عمر، وكان وجه إسقاطه إيّاه، توهّمه أنّه لو علم الناس بكون الصلاة خير الأعمال لم يرغبوا في الجهاد وتسامحوا فيه.
- (1) جواهر الكلام 9: 5ـ7.
- (2) أي يشمله أخبار من بلغ. راجع وسائل الشيعة 1: 80ـ82، أبواب مقدّمة العبادات، ب18.
- (3) تحرير الأحكام 1: 223ـ224، الرقم 737; مختلف الشيعة 2: 135; التنقيح الرائع 1: 191; المهذّب البارع 1: 348; المقتصر في شرح المختصر: 73; جامع المقاصد 2: 181; مسالك الأفهام 1: 187; روض الجنان فى شرح إرشاد الأذهان 2: 644ـ645; مجمع الفائدة والبرهان 2: 170; مفاتيح الشرائع 1: 116; بحار الأنوار 84: 109; مفتاح الكرامة 6: 465ـ469; مستند الشيعة 4: 478ـ481.
- (4) الهداية: 131، ب42; النهاية: 69; وانظر مصباح المتهجّد: 29; والخلاف 1: 278، مسألة 19.
- (5) الخلاف 1: 278، مسألة 19; تذكرة الفقهاء 3: 42; بداية المجتهد 1: 108.
(الصفحة 539)
وبالجملة: فلم يعلم تحقيقاً أنّه في أيّ زمان اُسقط، ومن كان مسقطاً له، وماوجه إسقاطه إيّاه؟ وإنّما المعلوم كون ذلك مورداً لاختلاف المسلمين، ومميّزاًللتشيّع عن التسنّن، بحيث يرتفع به صوت الشيعة عند القيام على العامّة، كما يظهر من بعض التواريخ. وعليه: فيسقط من فصول الأذان عندهم اثنتا كلمة.
وقال الشافعي بكون الأذان تسع عشرة كلمة في غير الفجر، وفيه إحدى وعشرون بزيادة الترجيع في الجمع، والتثويب في خصوص الفجر، والشهادة بالتوحيد مرّة واحدة بدل التهليل مرّتين في آخره(1).
والترجيع عبارة عن تكرار الشهادتين مرّتين اُخريين، بأن يقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله مرّتين، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله مرّتين مع إخفاض صوته، ثمّ يرجع ويرفع صوته بذلك. والتثويب عبارة عن قول: الصلاة خير من النوم في خلال الأذان أو بعده، ووافقه أبو حنيفة إلاّ في الترجيع والتثويب، فيكون الأذان عنده خمس عشرة كلمة.
وقال مالك: إنّ التكبير في أوّله مرّتان مع الترجيع، فيكون سبع عشرة كلمة، ووافقه أبو يوسف إلاّ في الترجيع، فيكون عنده ثلاث عشرة كلمة، وقال أحمد بالتخيير بين الترجيع وعدمه(2).
وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الخلاف مع العامّة في خمسة موارد:
الأوّل: في الدعاء إلى خير العمل بعد الدعاء إلى الفلاح، وقد عرفت اتّفاقهم
- (1) مختصر المزني: 12; المهذّب 1: 109; المجموع 3: 100ـ102; الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6: 226ـ228; مغني المحتاج 1: 135ـ136; الخلاف1: 278، مسألة 19.
- (2) المجموع 3: 102; بداية المجتهد 1: 108ـ109; الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6: 227ـ228; بدائع الصنائع 1: 366; الخلاف 1: 279، ذ مسألة 19.