(الصفحة 266)
والعجب أنّه(قدس سره)ممّن يعتمد في نظائر المسألة على مجرّد نقل الشيخ، ويطعن على من ردّه بالإرسال أو غيره!.
ثمّ إنّ المراد بالاستدبار في الرواية التي رواها الشيخ(1) ليس هي النقطة المقابلة للكعبة، بل المراد به هو الربع المقابل للربع من الدائرة التي وقعت الكعبة في جزء منه، ويجب التوجّه في الصّلاة وغيرها إليه، وأيضاً ليس المراد به ما هو خارج عمّا بين المشرق والمغرب، كما قد يتوهّم من رواية عمّار الساباطي المتقدّمة، باعتبار المقابلة بينه، وبين ما بين المشرق والمغرب; لأنّ هذا التوهّم ممنوع، ومع فرضه فلايدلّ على أنّ المراد بالاستدبار فيما حكاه الشيخ(قدس سره) أيضاً ذلك، كما لا يخفى.
ثمّ إنّ ما ذكرنا من وجوب الإعادة عليه في الوقت دون خارجه فيما إذا كان الانحراف كثيراً، إنّما هو فيما إذا كان مأموراً بالتحرّي والاجتهاد; لعدم انكشاف الواقع، فتحرّى ثمّ تبيّن مخالفته للواقع. وأمّا إذا كان عالماً بالحكم وبالقبلة ولكن صلّى إلى غير القبلة سهواً أو اشتباهاً، ففي إلحاقه بالصورة الاُولى خلاف بين الأصحاب.
وممّن ذهب إلى الإلحاق وعدم التفصيل المفيد(قدس سره) في المقنعة، والشيخ في التهذيب والنهاية، وبعض المتأخّرين، كالمحقّق الهمداني في المصباح(2)، ولكنّ الأقوى عدم الإلحاق وفاقاً للعلاّمة في المختلف(3). واحتجّ الشيخ ـ على
- (1) النهاية: 64.
- (2) المقنعة: 97; تهذيب الأحكام 2: 47; النهاية: 64; مصباح الفقيه 10: 176ـ177.
- (3) مختلف الشيعة 2: 73.
(الصفحة 267)
ما حكاه عنه العلاّمة فيه وإن لم نجده في كتبه ـ بحديث الرفع(1)، وأجاب عنه بأنّ حديث الرفع لا يدلّ على رفع الحكم، بل المرفوع هي المؤاخذة، فلا يدلّ على عدم وجوب الإعادة.
أقول: إن كان المراد من حديث الرفع هو رفع حكم ما فعله الناسي في حال نسيانه; بمعنى أنّ الفعل الذي يفعله الناسي لو كان له حكم لو خلّي وطبعه، فذلك الحكم مرفوع في حال صدوره نسياناً، فلا يتمّ الاستدلال أيضاً; لأنّ المفروض أنّ الناسي المكلّف بالصلاة إلى القبلة الواقعيّة لم يأت بها، ففي الحقيقة يكون كمن لم يصلّ أصلا، فهو لم يعمل عملا له حكم حتى يرفع ذلك الحكم في حال النسيان، بخلاف من كان مأموراً بالتحرّي والاجتهاد; فإنّ الحكم في حقّه هي الصلاة إلى جهة ظنّ أنّها القبلة، ولذا لو لم يكن دليل على وجوب الإعادة عليه في الوقت لم نقل بوجوبها عليه; لأنّ الأمر الظاهري يقتضي الإجزاء ولو انكشف الخلاف في الوقت، وهذا بخلاف الناسي; فإنّ الحكم في حقّه هي الصلاة إلى القبلة الواقعيّة، والمفروض عدم مطابقة عمله لها.
ثمّ إنّه على تقدير دلالة حديث الرفع على عدم وجوب الإعادة، فهو معارض بحديث رواه زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة: الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود(2); لأنّ مورده صورة النسيان فقط،
- (1) الفقيه 1: 36، ح132; التوحيد: 353، ح24; الخصال: 417، ح9; الكافي 2: 463، ح2; نوادر ابن عيسى: 74، ح157; وعنها وسائل الشيعة 7: 293، أبواب قواطع الصلاة، ب37، ح1، وج8: 249، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، ب30، ح1و2، وج15:369، أبواب جهادالنفس، ب56، ح1، وج23:237، كتاب الأيمان، ب16،ح3.
- (2) الفقيه 1: 181، ح857; تهذيب الأحكام 2: 152، ح597; وعنهما وسائل الشيعة 4: 312، أبواب القبلة، ب9، ح1.
(الصفحة 268)
لا ما يشمل العامد والجاهل كما قال به بعض(1); لأنّ التعبير بالإعادة لا يناسبهما; فإنّها إنّما تستعمل في مورد يكون الشخص قاصداً لامتثال التكليف المتوجّه إليه، ويكون هو الداعي له على إتيان العمل.
غاية الأمر أنّه إنّما منعه عن إتيانه تامّاً بأجزائه وشرائطه بعض الطوارئ القهريّة، وإلاّ فالعامد الذي يترك عمداً بعض ما له دخل في تحقّق المأمور به، أو يفعل بعض ما كان وجوده مضرّاً به لا يكون قاصداً في الحقيقة لإتيان المأمور به، فلا يقال عليه أنّه يجب عليك الإعادة، بل يقال: إنّه يجب عليك أصل الصلاة كما هو واضح. نعم، لا يبعد أن يكون شاملا للجاهل القاصر الذي يعتقد صحّة ما يفعله وإن كان في الواقع فاسداً، وسيأتي في بعض المباحث الآتية مزيد توضيح لذلك، فانتظر. فإذا انحصر مورد حديث لا تعاد بصورة النسيان ولم يكن عامّاً له ولغيره، فيكون مخصّصاً لحديث الرفع، وحاكماً عليه كما لا يخفى.
ثمّ إنّه لا دلالة للأخبار المتقدّمة المفصّلة بين الوقت وخارجه على عدم الفرق بين الناسي وغيره كما يظهر من بعض(2); لأنّك عرفت أنّ موردها ما إذا كانت علائم الانكشاف مفقودة لأجل العمى أو الغيم أو غيرهما، فلا يشمل صورة النسيان، فالواجب الرجوع في حكم هذه الصورة إلى القواعد، وهي تقتضي وجوب الإعادة عليه في الوقت وفي خارجه مطلقاً، حتّى ما إذا لم يكن مستدبراًللقبلة; فإنّه لم يأت بما هو المأمور به.
والمفروض أنّه لم يتوجّه إليه أمر ظاهريّ حتى يقال باقتضائه للإجزاء، فيجب عليه الإعادة كما يدلّ عليه أيضاً حديث «لا تعاد» على ما عرفت.
- (1 ، 2) راجع جواهر الكلام 8: 58ـ59; ومصباح الفقيه 10: 179ـ180.
(الصفحة 269)
هذا كلّه فيما إذا كان الانحراف كثيراً. وأمّا إذا كان يسيراً، فمقتضى حديث الرفع وإن كان عدم وجوب الإعادة، بناءً على أنّ المراد برفع النسيان هو رفع حكم كلّ ما صار النسيان سبباً له من فعل أو ترك، فإذا صلّى مع نسيان السورة مثلا فهو يقتضي عدم وجوب الإعادة عليه، وعدم كون السورة جزءاً في حال النسيان.
فما يترتّب على تركها من عدم تحقّق المركّب، وعدم الإتيان بالمأمور به، ووجوب الإعادة فهو مرفوع، ولا يلزم من هذا عدم وجوب الإتيان بالصلاة فيما إذا تركها في بعض الوقت سهواً; لأنّ وجوب الإتيان بها بعده ليس من آثار عدم الإتيان به فيما مضى من الوقت، بل من آثار بقاء الأمر المتوجّه إليه من أوّل الوقت.
وبالجملة: فمقتضى حديث الرفع وإن كان ذلك، إلاّ أنّ حديث لا تعاد يدلّ على وجوب الإعادة عليه، وهو مخصّص لحديث الرفع; لأنّك عرفت أنّ مورده هو الساهي فقط، ولا يشمل العالم العامد والجاهل.
هذا كلّه مع قطع النظر عن الأخبار الخاصّة الواردة في المسألة. وأمّا مع ملاحظتها فلا يجب عليه الإعادة; لإطلاق موردها على وجه يشمل الناسي، ولا يختصّ بالمجتهد المخطئ في اجتهاده، كما هو ظاهر صحيحتي معاوية بن عمّار وزرارة، ورواية عمّار الساباطي المتقدّمة(1).
ثمّ إنّ الصحيحتين تدلاّن بظاهرهما على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة لجميع المكلّفين في جميع الحالات من العلم والظنّ وغيرهما، وهو مع أنّ أحداً
(الصفحة 270)
من الأصحاب لم يعمل على طبقهما ـ ولذا لم يعبّر أحد منهم بذلك في مقام تعيين حدّ القبلة ـ معارض لقوله(عليه السلام) في رواية عمّار الساباطي: «إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم»; فإنّها تدلّ بظاهرها على أنّ القبلة التي لو كان المكلّف عالماً بها لوجب عليه أن يتوجّه نحوها أضيق ممّا بين المشرق والمغرب.
فالوجه أن يقال: إنّ المراد منهما أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة في الجملة، ولو لبعض المكلّفين في الحالات; بأن يقال مثلا: إنّ الإمام(عليه السلام) قال في صحيحة زرارة إنّه لا يصدق عنوان الصلاة على الصلاة التي كانت فاقدة لشرط القبلة، فصدقها يتوقّف على أن يكون المصلّي متوجّهاً إليها، ثمّ سأل الراوي عن حدّ القبلة التي لو كان المكلّف متوجّهاً إليها لصدق على فعله أنّه صلاة، فقال(عليه السلام): «ما بين المشرق والمغرب قبلة»; يعني: إذا تجاوز هذا الحدّ فلا يصدق عنوان الصلاة. وأمّا صدقها على الصلاة التي كان التوجّه فيها إلى ما بين المشرق والمغرب مطلقاً وفي جميع الأحوال، فلا يعلم منهما.
وبالجملة: لا يستفاد منهما أنّ ما بينهما قبلة مطلقاً، بل هي قضيّة مجملة لاتنافي عدم كونه قبلة في بعض الأحوال، وعلى تقدير كون ظاهرهما ذلك يجب تأويلهما وحملهما على ما ذكرنا; لما عرفت من كونهما معرضاً عنهما مع ثبوت المعارض لهما.
ويؤيّد ذلك أنّ المشهور بل المتّفق عليه بين الأصحاب أنّ الالتفات إلى غير القبلة في أثناء الصلاة مبطل لها(1)، ومعنى الالتفات أن ينحرف بوجهه عن القبلة
- (1) النهاية: 64 و 87; المعتبر 2: 260ـ261; البيان: 182; ذكرى الشيعة 4: 16ـ18; جامع المقاصد 2: 346ـ349; روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 886ـ888; الروضة البهيّة 1: 202 و 236; مفاتيح الشرائع 1: 173; الحدائق الناضرة 9: 26ـ32; مفتاح الكرامة 5: 412ـ415; وج8: 46ـ67; مستند الشيعة 7: 20ـ26; جواهر الكلام 11: 42ـ72; وج8: 3ـ4.