(الصفحة 295)
من أن ينظر إليه.
ثمّ إنّ حفظ الفرج يتحقّق بجعل حائل بين المبصِر والمبصَر ولو لم يكن ثوباً، والأحوط أن لا يكون شفّافاً بحيث يحكي ما تحته. نعم، لا دليل على وجوب كون الحائل على نحو لا يحكي حجم المبصر، وإن كان الأحوط أيضاً ذلك.
ثمّ إنّ كلمة «من» في قوله ـ تعالى ـ : (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـرِهِمْ)يحتمل أن تكون زائدة، وأن تكون للتبعيض، وهو إمّا باعتبار الأبصار، أو باعتبار المبصر، فعلى الأوّل والثاني لا دلالة لها على ما يجب غضّ البصر عنه; لأنّ متعلّقه محذوف، ولا يمكن أن يكون حذف المتعلّق هنا دليلا على العموم كما في سائر الموارد; لعدم إرادته قطعاً، فهي مجملة من هذه الحيثيّة.
كما أنّ الإجمال متحقّق في المعنى الثالث أيضاً كما لا يخفى، ولكن يمكن أن يقال: إنّ المراد وجوب غضّ البصر عن فروج سائر الرجال، لمقارنته مع قوله ـ تعالى ـ : (وَ يَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ)، فيصير المعنى حينئذ أنّه يجب على المؤمنين حفظ فروجهم من أن ينظر إليها، ويحرم عليهم النظر إلى فروج غيرهم من الرجال.
وأمّا الكلام في الجهة الثانية، وهي الوجوب الشرطي المتعلّق بالستر، فهو المقصود بالبحث. واعلم أنّ بين الوجوب النفسي المتعلّق بالستر مطلقاً، والوجوب الشرطي الذي يتعلّق به في حال الصلاة فرق من جهات:
منها: أنّ الأوّل يتعلّق بالرجل بالنسبة إلى عورته، وبالمرأة بالنسبة إلى جميع بدنها إذا كانا معرضين لنظر الغير كما عرفت، والثاني يكون ثابتاً عليهما مطلقاً
ولو لم يكونا معرضين للنظر أصلا.
(الصفحة 296)
ومنها: أنّ الأوّل أعمّ من حيث الساتر; أي لا يجب أن يكون هو الثوب، بل يكفي ورق الشجر أو الجصّ أو الطين أو غيرها، بخلاف الثاني; فإنّه يجب أوّلا أن يكون الساتر هو الثوب، ومع عدم التمكّن منه يكتفى بغيره، وإن لم يكن متمكّناً من الساتر رأساً تسقط شرطيّة الستر، كما سيجيء.
ومنها: أنّه لا يعتبر في الأوّل أن يكونا لابسين له، بل يكفي أن يكون الساتر بحيث يكون حائلا بينه وبين الغير وإن كان منفصلا عنه، بخلاف الثاني; فإنّه يجب أن يكون المصلّي لابساً له.
ومنها: أنّه لا يعتبر في الأوّل صفة في الساتر; أي لا يعتبر أن لا يكون حريراً للرجل أو غيره، بخلاف الثاني; فإنّه يجب أن لا يكون الساتر حريراً للرجل أو ميتة أو نجساً ومن أجزاء غير مأكول اللحم لمطلق المصلّي وإن كان امرأة.
نعم، هذه الأوصاف لا تعتبر في الساتر بما هو ساتر، بل تكون معتبرة فيه من حيث كون المصلّي لابساً له، وبعبارة أُخرى: يشترط أن لا يكون ما يلبسه المصلّي وإن لم يكن ساتراً له واجداً لواحد من تلك الأوصاف، ويكون وجود واحد منها مانعاً لصحّة الصلاة، كما سيظهر إن شاء الله تعالى.
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم، أنّه لا يجب على الرجال في الصّلاة إلاّ ستر ما يكون ستره متعلّقاً للوجوب النفسي، فيجب عليهم ستر العورة فقط، خلافاً لبعض العامّة(1)، حيث أوجب عليهم أن يستروا ما بين السرّة والركبة، ولكن لا دليل عليه كما عرفت، ولكن يستحبّ نفسيّاً أن يستر ما بينهما(2)، ويوجب ذلك
- (1) بداية المجتهد 1: 117، المسألة الثانية; المجموع 3: 171; المغني لابن قدامة 1: 615.
- (2) الخلاف 1: 398، مسألة 149; غنية النزوع: 65; الوسيلة: 89; قواعد الأحكام 1: 256; وهو المشهور كما في كشف اللثام 3: 231.
(الصفحة 297)
أكمليّة الصلاة، هذا في الرجال.
وأمّا النساء، فيجب عليهنّ ستر جميع البدن ما عدا الوجه; فإنّ ستره لا يكون شرطاً لصحّة الصلاة(1)، كما هو مقتضى الأخبار الصحيحة الدالّة على ذلك(2)، بل بعضها يدلّ على استحباب عدمه(3)، غاية الأمر أنّها إذا كانت معرضاً لنظر الغير ولم يستر وجهها تكون عاصية للوجوب النفسي بناءً على وجوب ستره عليها، وهذا لا يكون مضرّاً بصحّة الصلاة كما هو واضح.
والمراد بالوجه الذي لا يجب ستره في الصلاة ولا يكون شرطاً لها، هل هو الوجه الذي يجب غسله في باب الوضوء; وهو ما دارت عليه الإبهام والوسطى من قصاص الشعر إلى الذقن، كما رواه زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام)(4)، أو أنّ المراد به هو الوجه العرفي الذي يكون أوسع من ذلك؟ وجهان:
من أنّ تفسير الإمام(عليه السلام) الوجه بذلك في باب الوضوء يدلّ على أنّ الوجه في نظر الشارع هو ذلك المقدار. ومن أنّ مراده(عليه السلام) هو عدم وجوب غسل ما هو خارج عن ذلك الحدّ في قبال العامّة، حيث إنّهم يجعلون كلاًّ من أجزاء الوجه مورداً للبحث ويناظرون فيه، حتى أنّ بعضهم أوجب غسل الأذنين، فمراده(عليه السلام)إبطال قولهم بوجوب غسل ما هو زائد على ذلك المقدار، وبيان ما يجب غسله
- (1) الكافي في الفقه: 139; المبسوط 1: 87; الاقتصاد: 396; الوسيلة: 89; السرائر 1: 260; المعتبر 2: 101; مختلف الشيعة 2: 98; تذكرة الفقهاء 2: 446; مفتاح الكرامة 6: 21ـ22.
- (2) الفقيه 1: 167، ح785; وعنه وسائل الشيعة 4: 405، أبواب لباس المصلّي، ب28، ح1.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 230، ح904; وعنه وسائل الشيعة 4: 421، أبواب لباس المصلّي، ب33، ح1; وص424، ب35، ح6.
- (4) الفقيه 1: 28، ح88; الكافي 3: 27، ح1; تهذيب الأحكام 1: 54، ح154; وعنها وسائل الشيعة 1: 403، أبواب الوضوء، ب17، ح1.
(الصفحة 298)
من الوجه، فلايدلّ على أنّ المراد بالوجه في غير ذلك المورد هو هذا المقدار. وهذا الوجه هو الظاهر.
ثمّ لا يخفى أنّ المراد ممّا ذكره الإمام(عليه السلام) أنّه يجب غسل المقدار الذي يكون مساوياً للمقدار الذي هو منتهى الفاصلة بين الإبهام والوسطى، بحيث لا يخرج عن حدّ الوجه، فلا يرد أنّ وجوب غسل ذلك المقدار في الذقن لا يتحقّق امتثاله إلاّ بإدخال جزء من العنق في الغسل، وذلك لخروجه عن حدّ الوجه، ولعلّه السبب في حمل بعض وتأويله الرواية على فرض دائرة في الوجه يكون قطرها ذلك المقدار الفاصل بين الإبهام والوسطى. وأنت خبير ببُعد هذا المعنى، والصواب ما ذكرناه.
هذا، ولكنّ التحقيق أنّه ليس في الأخبار الدالّة على عدم وجوب ستر الوجه في الصلاة ما يدلّ على استثناء الوجه بعنوانه حتّى يبحث في المراد منه، بل مدلول تلك الأخبار إنّما هو مجرّد ما يكفي من الثياب أن تصلّي المرأة فيها، مثل قوله(عليه السلام): المرأة تصلّي في الدرع والمقنعة(1)، وقوله(عليه السلام): صلّت فاطمة(عليها السلام)في درع وخمارها على رأسها(2)، والمعنى: أنّ أقل ما يكفي من الثياب هو الدرع والخمار، والمراد بالأوّل هو قميص المرأة، الذي يستر من الكتف إلى القدمين، وبالثاني هو ما يستر رأس المرأة.
وحينئذ فلابدّ من الفحص والتتبّع ليعرف المقدار الخارج عن الدرع والخمار حتّى يستدلّ بتلك الأخبار على عدم وجوب ستره، وإن لم تدلّ على وجوب ستر
- (1) الفقيه 1: 343، ح1081; الكافي 3: 394، ذ ح2; تهذيب الأحكام 2: 217، ذ ح855; وعنها وسائل الشيعة 4: 405، أبواب لباس المصلّي، ب28، ح3; وص 406، ذ ح7.
- (2) يأتي بتمامه في ص299ـ300.
(الصفحة 299)
كلّ ما هو داخل فيهما ومستور بهما; لإمكان عدم وجوب ستر بعض ما يكون داخلا فيهما، كما لا يخفى.
وانقدح ممّا ذكرنا أنّ ستر المرأة وجهها لا يكون شرطاً لصحّة صلاتها، كما هو المشهور بين العامّة(1) والخاصّة(2); للأخبار الدالّة على أنّ المرأة تصلّي في درع وخمار، ومن المعلوم أنّ الخمار لا يكون ساتراً للوجه.
فما عن بعض العامّة(3) والخاصّة من أنّ ستره يكون واجباً وشرطاً لها ـ كالمحكي عن ابن حمزة من أنّه يجب عليها ستر جميع بدنها إلاّ موضع السجود(4)، وما حكي عن الغنية والجمل والعقود، من شرطيّة ستر جميع البدن من غير استثناء(5) ـ ممّا لا وجه له.
وكذا ما حكي عن البعض الآخر من جواز كشف بعض الوجه(6)، ويمكن أن يكون مراده وجوب ستر البعض من باب المقدّمة، فلا ينافي ما ذكرنا، وقد عرفت أنّ المراد بالوجه فيما نحن فيه هو الوجه العرفي الشامل للصدغين وما يحاذيهما من الوجه، لا الوجه في باب الوضوء، ويدلّ عليه ما رواه الصدوق عن الفضيل، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: صلّت فاطمة(عليها السلام) في درع وخمارها
- (1) بداية المجتهد 1: 117، المسألة الثالثة; المغني لابن قدامة 1: 637; المجموع 3: 171.
- (2) بحار الأنوار 83: 179; الحدائق الناضرة 7: 7; مصابيح الظلام 6: 151.
- (3) وهو أبو بكر بن عبدالرحمن بن هشام، كما في الخلاف 1: 394، مسألة 144; والمجموع 3: 171ـ172; وتذكرة الفقهاء 2: 446، مسألة 108.
- (4) الوسيلة: 89.
- (5) غنية النزوع: 65; الجمل والعقود (الرسائل العشر): 176; والحاكي هو صاحب الجواهر في جواهر الكلام 8: 283; ولكن حكى ابن إدريس في السرائر 1: 260، عن الجمل والعقود استثناء الوجه والكفّين والقدمين.
- (6) إشارة السبق: 83.