(الصفحة 345)
في البقاء المتحقّق في المقام.
وبالجملة: لا مانع من جريان الأصل من هذه الحيثيّة أصلا.
وأنت إذا أمعنت النظر فيما ذكرنا من الحكم في تلك الصور، تظهر لك ما في الكلام السابق من النظر الوارد على ما أفاده المحقّق المتقدّم بناءً على القول الثاني.
هذا، ويرد على ما ذكره بناءً على القول الأوّل ـ وهو كون التذكية عبارة عن نفس الأفعال المخصوصة ـ أنّ التذكية بناءً عليه هي تلك الأفعال بما أنّها مؤثِّرة في قتل الحيوان، وموجبة لانقطاع حياته; ضرورة أنّ إيقاع تلك الأفعال على الميتة لا يوجب اتّصافها بكونها مذكّاة.
ومن المعلوم حينئذ أنّ كلّ جزء من الحيوان يوصف بأنّه أثّر فيه تلك الأفعال بإيجابها، سلب الآثار المترتّبة عليه بوصف الحياة عنه، ولو في الأجزاء التي لاتحلّها الحياة، فما أفاده من أنّ الجلد خارج عن موضوع التذكية بناءً على هذا القول ممّا لا يصحّ، كما لا يخفى.
[ عدم كون لباس المصلّي من أجزاء الحيوان غير المأكول اللحم ]
الأمر الثاني: من الاُمور المعتبرة في لباس المصلّي أن لا يكون من أجزاء الحيوان الذي يحرم أكل لحمه، واعتباره في لباس المصلّي ممّا تفرّدت به الإماميّة(1)، خلافاً لسائر فرق المسلمين، حيث لم يتعرّضوا لهذه المسألة
- (1) الخلاف 1: 511، مسألة 256; المهذّب 1: 75; غنية النزوع: 66; الوسيلة: 88; السرائر 1: 262; المعتبر 2: 81ـ82; منتهى المطلب 4: 210; تذكرة الفقهاء 2: 466، مسألة 119; نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 374; ذكرى الشيعة 3: 32; جامع المقاصد 2: 81; روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 572; كشف اللثام 3: 207; الحدائق الناضرة 7: 58.
(الصفحة 346)
في كتبهم مع كونها ممّا يعمّ به البلوى.
ثمّ لا يخفى أنّ الأخبار الواردة في هذا المقام من الأئـمّة(عليهم السلام) أكثرها لا يخلو من علل الحديث; من ضعف، أو إرسال، أو غيرهما، كما يظهر لمن راجعها. نعم، واحد منها يكون موثّقاً، وهو الخبر الآتي، ولذلك استشكل(1) صاحب المدارك(2)في المسألة بناءً على مذهبه في الخبر الواحد من اختصاص الحجّية بالصحيح الأعلائي منه، وهو ما كان كلّ واحد من رواته مذكّى بتذكية عدلين.
ولكن ذلك ـ أي عدم خلوّ الأخبار من ضعف أو إرسال ـ لا يوجب إشكالا في المسألة بعد ذهاب الأصحاب من السلف إلى الخلف إلى اعتبار ذلك فيه، في قبال سائر المسلمين، وبعد الإجماعات المنقولة المدّعاة في كلام كثير منهم.
هذا، مضافاً إلى عدم اختصاص الحجّية بما ذكره صاحب المدارك، كما قرّر في محلّه(3).
وبالجملة: لا يمكن رفع اليد عمّا يدلّ عليه الأخبار بعد كونها مؤيّدة بالشهرة العظيمة المحقّقة والإجماعات المنقولة الكثيرة، فالإشكال في أصل المسألة ممّا لا ينبغي أن يصدر من الفقيه.
نعم، يقع الكلام في أنّ ذلك هل يكون معتبراً في خصوص لباس المصلّي; وهو ما يلبسه المصلّي ممّا هو محيط به كالقميص وغيره، أو يشمل مثل التكّة
- (1) لا يخفى بعد المراجعة إلى كلامه ظهر أنّ مختاره هو ما ذهب إليه الشهيدان(رحمهما الله)، لا الإشكال في أصل المسألة، فلا تغفل «منه».
- (2) مدارك الأحكام 3: 161ـ163.
- (3) نهاية الاُصول: 508ـ516.
(الصفحة 347)
والجورب والقلنسوة ونحوها ممّا يصدق عليه اللباس، ولا يكون محيطاً بالشخص اللاّبس له، أو يعمّ ما ذكر وما إذا لم يكن لباساً; ولكن كان لباسه ملاصقاً وملابساً معه، كما إذا لاقى ثوبه بول غير مأكول اللحم، أو كانت خيوط ثوبه التي خيط بها من شعره، وغيرهما من الصور، أو يقال بشمول دليل الاعتبار لمثل ما إذا كان محمولا للمصلّي أيضاً؟ وجوه:
ذهب الشهيدان(قدس سرهما) إلى اختصاص المنع بما إذا كان لباس المصلّي من أجزائه، بل نقل عنهما أنّ عدم شمول دليل المنع لما إذا صلّى في الثوب الملقاة عليه شعراته، وجواز الصلاة فيه، من المقطوع به(1)، ولكن حكي عن ظاهر المشهور القول بالمنع مطلقاً(2).
ويدلّ عليه ما رواه في الكافي موثّقاً عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن بكير قال: سأل زرارة أبا عبدالله(عليه السلام) عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر؟ فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله، فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وألبانه وكلّ شيء منه فاسدة، لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ الله أكله.
ثمّ قال: يازرارة هذا عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فاحفظ ذلك يا زرارة، فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وبوله وشعره وروثه وألبانه وكلّ شيء منه جائزة إذا
- (1) ذكرى الشيعة 3: 52; مسالك الأفهام 1: 162; روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 572ـ574; وكذا العاملي في مدارك الأحكام 3: 165ـ166; والفيض في مفاتيح الشرائع 1: 109.
- (2) في ذخيرة المعاد: 234; وكفاية الفقه، المشتهر بـ «كفاية الأحكام» 1: 82; وبحار الأنوار 83: 221: «أكثر»; ولكن في رياض المسائل 3: 156; وجواهر الكلام 8: 126 عن الذخيرة والبحار: أنّه المشهور، وراجع ص345.
(الصفحة 348)
علمت أنّه ذكيّ قد ذكّاه الذبح، وإن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كلّ شيء منه فاسدة، ذكّاه الذبح أم لم يذكّه(1).
وقد استشكل على الاستدلال بالرواية للقول المشهور بأنّ ظاهر كلمة «في»، في قوله(عليه السلام): «فالصلاة في وبره» إلخ، هي الظرفيّة، ومقتضاها كون أجزاء غير مأكول اللحم بحيث يكون ظرفاً للمصلّي ومحيطاً به، وهو لا يصدق فيما إذا اُلقي على ثوبه وبره، أو شعره، وكذا فيما إذا كان مستصحباً لهذه الاُمور من دون لبس(2).
هذا، ونقل عن البهبهاني(قدس سره) أنّه أجاب عن هذا الإشكال بما حاصله:
إنّ كلمة «في» ليست للظرفيّة; لامتناع اعتبار كون البول والروث ظرفاً للمصلّي، فلابدّ من أن يراد منها المصاحبة، ومعه يتمّ الاستدلال، ثمّ أورد على نفسه بأنّ اعتبار الظرفيّة في الروث والبول إنّما هو بملاحظة تلطّخ الثوب أو البدن بواحد منهما، فكأنّه قيل: الصلاة في الثوب المتلطّخ بهما فاسدة.
وعليه: فلا يشمل ما إذا كان شيء من أجزاء غير المأكول محمولا للمصلّي ولا يدلّ على المنع فيه.
ثمّ أجاب بأنّ ذلك المعنى مستلزم للاضمار والحذف، بخلاف ما ذكرنا في معناه; فإنّه مستلزم للمجازيّة، وقد قرّر في الاُصول(3) تقدّم الثاني على الأوّل
- (1) الكافي 3: 397، ح1; تهذيب الأحكام 2: 209، ح818; وعنهما وسائل الشيعة 4: 345، أبواب لباس المصلّي، ب2، ح1.
- (2) كما في رياض المسائل 3: 156; وجواهر الكلام 8: 127.
- (3) الفوائد الحائريّة: 332.
(الصفحة 349)
فيما إذا دار الأمر بينهما(1)، انتهى.
ولكن يمكن أن يقال بإمكان اعتبار الظرفيّة فيما إذا تلطّخ الثوب بهما بملاحظة ملابسة الثوب معهما، فكأنّهما صارا جزءين للثوب، فهو نظير ما إذا كان بعض الثوب من أجزاء غير المأكول دون البعض الآخر.
هذا، ولا يخفى بُعد هذا المعنى، والظاهر بعد امتناع اعتبار الظرفيّة لما عرفت في كلام المجيب هو جعل كلمة «في» بمعنى المصاحبة، ومعه يتمّ الاستدلال ويشمل الدليل جميع الصور حتّى ما إذا كان المصلّي مستصحباً لرطوبات غير المأكول التي لا تعدّ من أجزائه الفعليّة.
ثمّ لا يخفى أنّ التكرار الواقع في قوله(عليه السلام): «إنّ الصلاة» إلخ، والحزازة الواقعة في قوله(عليه السلام): «لا تقبل تلك الصلاة» إلخ، وغير ذلك من الجهات المخالفة للفصاحة، يشعر بأنّ الرواي نقل الرواية بالمعنى، ولم يضبط الألفاظ الصادرة من الإمام(عليه السلام)، ولكنّه لا يضرّ بالاستدلال بالرواية; لمعلوميّة المضمون الصادر منه(عليه السلام).
ويؤيّدها ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن عمر بن عليّ بن عمر بن يزيد، عن إبراهيم بن محمّد الهمداني قال: كتبت إليه: يسقط على ثوبي الوبر والشعر ممّا لا يؤكل لحمه من غير تقيّة ولا ضرورة، فكتب: لا تجوز الصلاة فيه(2).
وغير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة عليه بالعموم أو بالخصوص(3)، وإن كان
- (1) الحاشية على مدارك الأحكام 2: 348; وكذا في مصباح الفقيه 10: 224ـ225.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 209، ح819; الاستبصار 1: 384، ح1455; وعنهما وسائل الشيعة 4: 346، أبواب لباس المصلّي، ب2، ح4.
- (3) وسائل الشيعة 4: 345ـ347، أبواب لباس المصلّي، ب2.