(الصفحة 172)
إلينا، كما هو الشأن في جميع الفتاوى المشهورة الخالية عن الدليل الظاهر.
ثمّ إنّه قد وقع الخلاف بين العامّة في أنّ التغليس بصلاة الصبح أفضل، أو أنّ الأفضل هو الإسفار بها؟ والمراد بالأوّل هو الإتيان بها في الغلس محرّكة; وهي الظلمة، وبالثاني الإتيان بهابعدالإضاءة، فذهب بعضهم إلى الأوّل استناداً إلى فعل النبيّ(صلى الله عليه وآله)(1)، وبعضهم إلى الثاني استناداً إلى عمل بعض الخلفاء(2).
هذا، ولاريب عند الإماميّة في أنّ الأوّل أفضل; للأخبار الصادرة عن أئـمّتهم المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين(3).
المسألة الثامنة ـ فى وقت فضيلة العصر والعشاء
قد عرفت أنّ لكلّ صلاة وقتين; وأنّ افتراقهما إنّما هو بالفضيلة والإجزاء، وأنّ أوّل الوقت هو وقت الفضيلة، وحينئذ فلا إشكال في أنّ الإتيان بالظهر والمغرب والصبح في أوّل أوقاتها أفضل من التأخير عنه. نعم، وردت في الظهر روايات تدلّ بظاهرها على تأخيرها إلى القدم، أو القدمين، أو نحوهما(4). ولكن قد عرفت(5) فيما تقدّم أنّ ذلك إنّما هو لأجل النافلة، فلا يستفاد منها التأخير حتى بالنسبة إلى من لم يكن مريداً للإتيان بالنافلة، أو لم تكن مشروعة في حقّه، أو نحوهما كما هو واضح. فالأفضل في حقّ مثل
- (1) سنن أبي داود: 70، ح394; سنن ابن ماجة 1: 366، ح671; سنن الترمذي 1: 287، ح153; عون المعبود 2: 45.
- (2) المغني لابن قدامة 1: 405ـ406; الشرح الكبير 1: 442ـ443; بداية المجتهد 1: 99ـ100، المسألة الخامسة; الاُم 1: 75ـ76; الإنصاف 1: 438ـ439.
- (3) وسائل الشيعة 4: 207، أبواب المواقيت، ب26.
- (4) وسائل الشيعة 4: 140، أبواب المواقيت، ب8.
- (5) في ص80ـ81.
(الصفحة 173)
هؤلاء التعجيل والإتيان بالفريضة في أوّل الوقت.
وأمّا العصر والعشاء، فحيث يكون وقت كلّ واحد منهما مبائناً لوقت صاحبه من الظهر والمغرب عند الجمهور; لأنّه لا يدخل وقت العصر عندهم إلاّ بعد مضيّ مقدار المثل(1)، والعشاء إلاّ بعد زوال الشفق(2)، فالأفضل عندهم هو الإتيان بهما في أوّل وقتهما.
وأمّا نحن، فقد عرفت(3) أنّ مختارنا هو دخول وقت العصر بمجرّد الزوال بعد مضيّ مقدار أداء الظهر، ودخول وقت العشاء بالغروب بعد مضيّ أداء المغرب(4)، وحينئذ فهل الأفضل الإتيان بهما في أوّل وقتهما كسائر الفرائض، أو أنّ الأفضل تأخير العصر إلى المثل، والعشاء إلى زوال الشفق، أو يفصّل بينهما بكون العصر كسائر الفرائض، فالأفضل الإتيان بها في أوّل وقتها دون العشاء; فإنّ تأخيرها إلى زوال الشفق أفضل؟ وجوه واحتمالات.
ولا يخفى أنّه بناءً على الوجه الأوّل لا يكون للعصر والعشاء إلاّ وقتان: وقت فضيلة ووقت إجزاء. وأمّا بناءً على الوجه الثاني يصير لهما ثلاثة أوقات: وقت فضيلة، ووقتا إجزاء، كما أنّه بناءً على الوجه الأخير يكون للعصر وقتان، وللعشاء ثلاثة أوقات.
ويدلّ على الوجه الأوّل، العمومات الدالّة على أنّ أوّل الوقت
- (1) الاُم 1: 72ـ73; المجموع 3: 21 و 24; المغني لابن قدامة 1: 382ـ384; الشرح الكبير 1: 435ـ436; بداية المجتهد 1: 94; الخلاف 1: 259، مسألة 5; تذكرة الفقهاء 2: 308، مسألة 28.
- (2) المجموع 3: 41; المغني لابن قدامة 1: 392ـ393; الشرح الكبير 1: 440; بداية المجتهد 1: 98; الخلاف 1: 262، مسألة 7; تذكرة الفقهاء 2: 313، مسألة 32.
- (3) في ص103.
- (4) في ص160.
(الصفحة 174)
أفضل(1)، وعلى الوجه الثاني رواية جبرئيل، المشتملة على إتيانه بأوقات الصلاة، المرويّة بطرق الفريقين وقد تقدّمت(2); وكذلك ما نقل بطريق الفريقين أيضاً من أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)كان يفرّق بين الظهر والعصر، وكذا بين المغرب والعشاء(3)، ومن المعلوم أنّ ذلك لم يكن إلاّ لإدراك الفضيلة، لما سيأتي من عدم خصوصية للتفريق بما هو تفريق، بل هو إنّما كان لأجل إدراك الفضيلة.
وبالجملة: فلا إشكال في أنّ العمل المستمرّ من النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان هو التفريق بين الصلاتين; فإنّه(صلى الله عليه وآله) كان يرجع إلى منزله بعد الإتيان بالمغرب، ويتنفّل ثمّ يصبر مدّة ثمّ يرجع إلى المسجد للعشاء(4). نعم، قد ورد منه أنّه كان قد يجمع بين الصلاتين(5)، ولكنّ الظاهر أنّه كان نادراً اتفاقيّاً، ولعلّ الغرض منه بيان الجواز.
فالعمدة في المقام بيان وجه ذلك، مع أنّ التفريق كان مشقّة له(صلى الله عليه وآله)وللناس، ولاوجه له سوى كون التأخير أفضل، فكيف يجتمع ذلك مع الروايات الدالّة على أنّ أوّل الوقت أفضل مطلقاً، وقد عرفت أنّ وقتهما يدخل بمجرّد الزوال والغروب بعد مضيّ مقدار أداء الشريكة.
هذا، وحكي عن الجواهر(6) أنّه أخذ بمقتضى ما استمرّ عليه عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله)
- (1) وسائل الشيعة 4: 118، أبواب المواقيت، ب3.
- (2) في ص87.
- (3) تقدّم أحاديث العامّة في ص87، وأمّا الخاصّة، فروى في وسائل الشيعة 4: 141، أبواب المواقيت، ب8، ح3 و 4; وص143، ح10; وص147، ح27 و 28.
- (4) صحيح البخاري 1: 160ـ161، ح569ـ572; وسنن النسائي 1: 300ـ303، ح527ـ535، وسائل الشيعة 4: 199، أبواب المواقيت، ب21.
- (5) وسائل الشيعة 4: 220، أبواب المواقيت، ب32 وقد تقدّم عن العامّة والخاصّة في ص101.
- (6) جواهر الكلام 7: 492ـ501.
(الصفحة 175)
من أنّ التأخير أفضل في كلتيهما; أعني العصر والعشاء، ولكنّه ذهب المحقّق الهمداني في المصباح إلى التفصيل بينهما، كما هو مقتضى الوجه الثالث. قال في وجه ذلك ماملخّصه: إنّ تأخير العصر وإن كان راجحاً مستحبّاً، إلاّ أنّ تعجيلها والإتيان بها بعد أداء الظهر ونافلة العصر أيضاً حسن، بل أحسن من جهة انطباق عنوان المسارعة والاستباق إلى الخير الذي هو عنوان ثانويّ راجح عليه(1).
ولكنّه يرد عليه: أنّ هذا الكلام يجري بعينه في العشاء أيضاً، فلا وجه للتفصيل بينها وبين العصر، مضافاً إلى أنّ الأمر بالاستباق(2) والمسارعة(3) ليس أمراً مولويّاً استحبابيّاً ناشئاً عن ملاك الاستحباب، بل هو أمر إرشاديّ كما هو واضح، ولو سلّمنا كونه مستحبّاً مولويّاً أيضاً، فنقول:
يقع التزاحم حينئذ بين المستحبيّن، ومن المعلوم أنّ تقديم أحدهما على الآخر يتوقّف على إحراز أقوائيّة ملاكه وكونه أرجح بالنسبة إلى الآخر، ولم يقم في المقام دليل على أرجحيّة ملاك المسارعة والاستباق لو لم نقل بقيام الدليل على أرجحيّة التأخير; لاستمرار عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) كما تقدّم.
نعم، يمكن أن يقال باستحباب المسارعة في خصوص العصر; للروايات المتواترة(4) الدالّة على استحباب الإتيان بالعصر بعد الذراعين; نظراً إلى وضوح عدم خصوصيّة للذراعين، وأنّ التأخير إليهما إنّما هو لمكان النافلة، ولكنّه يرد عليه مخالفة ذلك لما استمرّ عليه عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله)من التأخير إلى المثل.
- (1) مصباح الفقيه 9: 440ـ443.
- (2) سورة البقرة 2: 148.
- (3) سورة آل عمران 3: 133.
- (4) وسائل الشيعة 4: 140ـ151، أبواب المواقيت، ب8.
(الصفحة 176)
والذي يمكن أن يقال في هذا المقام أنّ استمرار عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) على ما ذكر من تأخيره(صلى الله عليه وآله) العصر إلى أن يصير ظلّ الشاخص مثله ممّا لم يثبت، كيف؟ ويستفاد من الروايات الكثيرة التي بلغت من الكثرة حدّاً يمكن دعوى القطع بصدورها، أنّ بناءه(صلى الله عليه وآله) كان على الإتيان بالعصر بعد الذراعين، وحينئذ فيظهر بطلان ما عليه العامّة في مقام العمل من التأخير إلى المثل، وكذا عدم صحّة ما حكوا عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)من أنّه(صلى الله عليه وآله) كان ملتزماً بذلك(1).
فلا بأس بإيراد بعض تلك الأخبار ليتّضح الحال، فنقول:
منها: ما رواه الصدوق بإسناده عن الفضيل بن يسار وزرارة بن أعين وبكير بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي، عن أبي جعفر وأبي عبدالله(عليهما السلام)أنّهما قالا: وقت الظهر بعد الزوال قدمان(2).
ومنها: رواية زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: سألته عن وقت الظهر؟ فقال: ذراع من زوال الشمس، ووقت العصر ذراع من وقت الظهر، فذاك أربعة أقدام من زوال الشمس. ثمّ قال: إنّ حائط مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان قامة، وكان إذا مضى منه ذراع صلّى الظهر، وإذا مضى منه ذراعان صلّى العصر. ثمّ قال: أتدري لِمَ جعل الذراع والذراعان؟ قلت: لِمَ جعل ذلك؟ قال: لمكان النافلة، لك أن تتنفّل من زوال الشمس إلى أن يمضي ذراع، فإذا بلغ فيؤك ذراعاً من الزوال بدأت بالفريضة وتركت النافلة، وإذا بلغ فيؤك ذراعين بدأت بالفريضة وتركت النافلة(3).
- (1) سنن النسائي 1: 285، ح500; السنن الكبرى للبيهقي 2: 95، ح1761ـ1763.
- (2) الفقيه 1: 140، ح649; تهذيب الأحكام 2: 255، ح1012; الاستبصار 1: 248، ح892; وعنها وسائل الشيعة 4: 140، أبواب المواقيت، ب8، ح1 و 2.
- (3) الفقيه 1: 140، ح653; تهذيب الأحكام 2: 19، ح55; الاستبصار 1: 250، ح899; علل الشرائع: 349، ح2; وعنها وسائل الشيعة 4: 141، أبواب المواقيت، ب8، ح3 و 4.