(الصفحة 508)
وأمّا مع عدم الاقتران وتقدّم أحدهما على الآخر في الشروع في الصلاة، كما إذا شرع الرجل مثلا في الصلاة، ثم صلّت المرأة بحذاه، أو إلى أحد جانبيه، فلا إشكال أيضاً في بطلان صلاة المتأخّر منهما; لعدم كونها واجدة لشرطها من حين الشروع فيها.
وهل تبطل صلاة المتقدّم بذلك أيضاً؟ الظاهر العدم; لأنّ المفروض انعقادها صحيحة، والمانع الطارئ في بعض أجزائها لا يصلح للمانعيّة بعد فرض عدم انعقادها صحيحة، ووضوح عدم كونها مانعة مع البطلان، ألا ترى أنّه لو صلّت المرأة بدون الطهارة عن الحدث مثلا بحذاء الرجل المصلّي، لا يوجب ذلك بطلان صلاته.
هذا، مضافاً إلى أنّ الالتزام ببطلان صلاة المتقدّم، خصوصاً مع عدم علمه حين الشروع بوقوع التحاذي بعده، بعيد جدّاً بحيث يعدّ من المنكر عند العرف، ويؤيّد ذلك رواية عليّ بن جعفر المتقدّمة الواردة في إمام يصلّي صلاة الظهر فقامت امرأته بحياله تصلّي، المشتملة على بطلان صلاة المرأة دون الإمام والقوم.
وممّا ذكرنا ينقدح فساد ما استند إليه في الجواهر لبطلان صلاة المتقدّم أيضاً، من معلوميّة قاعدة: مانع صحّة الجميع مانع للبعض، ثمّ إنّه استظهر ذلك أيضاً من ذيل صحيحتي ابن مسلم وابن أبي يعفور وخبر أبي بصير، بل بالغ في ذلك فقال: لعلّه يظهر من باقي النصوص أيضاً(1).
أقول: أمّا صحيحة محمّد بن مسلم، فالظاهر أنّ السؤال فيها عن صحّة صلاة
(الصفحة 509)
الرجل في زاوية الحجرة، والحال أنّ امرأته تصلّي في زاويتها الاُخرى، وظاهر الجواب بطلان صلاته فيما إذا لم يكن بينهما شبر، أو ستر، كما يدلّ عليه قوله(عليه السلام): «لا ينبغي له ذلك»، وكذلك قوله(عليه السلام): «فإن كان بينهما شبر أجزأه».
فهذه الرواية ربما تؤيّد ما ذكرنا، لا أنّها تنافيه، ولو كان المراد خبره الآخر الوارد في حكم صلاة الرجل والمرأة المتزاملين، الذي جعله في الكافي(1) ذيلا للخبر الأوّل، فكذلك أيضاً لا ينافي ما ذكرنا; لأنّ السؤال فيه عن صحّة صلاتهما معاً، وأنّه هل يتحقّق الفراغ عن التكليف إذا صلّيا معاً مقارناً، أو مع التقدّم والتأخّر؟
وظاهر الجواب عدم إمكان صحّة صلاتهما، فلا ينافي ذلك صحّة صلاة المتقدّم فقط; لأنّك عرفت أنّ بطلان صلاة المتأخّر ممّا لا إشكال فيه. ومن هنا يظهر ما في استظهار ذلك من خبر أبي بصير المماثل مع هذا الخبر سؤالا وجواباً من الضعف، كما عرفت.
وأمّا خبر ابن أبي يعفور، فلا دلالة فيه أصلا بل ولا إشعار، كما لا يخفى.
ثمّ إنّه حكى في الجواهر عن جامع المقاصد(2) أنّه احتمل أن لا يكون المدار في الكراهة أو المنع هي صحّة الصلاتين لولا المحاذاة، بل كان المدار على صدق اسم الصلاة عليهما; سواء كانتا فاسدتين من غير جهة المحاذاة أيضاً، أو صحيحتين من غير تلك الجهة; لأنّ الصلاة تطلق على الصور غالباً، ولامتناع تحقّق الشرط على ما هو المفروض، ولا ينفع التخصيص بقيد لولاه; إذ المراد
- (1) الكافي 3: 298، ح4.
- (2) جامع المقاصد 2: 123; وكذا في روض الجنان في شرح إرشاد الأذهان 2: 602ـ603; وكشف اللِّثام 3: 286.
(الصفحة 510)
بالصلاة الواردة في تلك الأخبار إمّا الصلاة الصحيحة، وإمّا الفاسدة، والأوّل قد عرفت امتناع تحقّقها; لفقد شرطها، والثاني لا فرق فيه بين أن تكون فاسدة من جهة المحاذاة، أو من غيرها.
وعليه: فلو صلّى الرجل والمرأة بحذاء الآخر، وكانت صلاة أحدهما فاسدة لفقد الطهارة مثلا، تبطل صلاة الآخر بناءً على القول بالمنع، وقد أيّد ذلك بأنّ المأخوذ في الأخبار هو عنوان الصلاة فقط، من دون أخذ قيد الصحّة حتّى يقال: الصحّة المطلقة ممتنعة، فوجب تقييدها بقيد لولا المحاذاة، وعنوان الصلاة إمّا أن يطلق على الصحيح المطلق الموجب لفراغ الذمّة، وقد عرفت امتناع تحقّقها في المقام، فلم يبق إلاّ أن يكون المراد بها الأعمّ; وهي صورة الصلاة; سواء كانت صحيحة من غير هذه الجهة، أو فاسدة كذلك أيضاً.
ومن هنا قد يخدش في الحكم بالتحريم في أصل المسألة; لأنّه بعد فرض امتناع أن يكون المراد هي الصلاة الصحيحة، فلابدّ أن يكون هي الفاسدة، ومن البعيد جعل الشارع إيّاها موجبة لبطلان اُخرى مع عدم اعتباره لها، كما لا يخفى.
وتنظّر في الجواهر في هذا الكلام الذي حكاه عن جامع المقاصد; بأنّ المراد هي الصلاة الصحيحة، ويكون مدلول الأخبار بطلان صلاة كلّ من الرجل والمرأة بحذاء الآخر، أو تقدّمها عليه بعد انعقادهما صحيحة، ومن المعلوم أنّ هذا يختصّ بما إذا وقعتا صحيحتين من غير جهة المحاذاة; لأنّ الفاسدة من غير تلك الجهة لا تنعقد من رأس حتّى تبطل بالمحاذاة(1).
أقول: لا يخفى أنّ ما ذكره صاحب الجواهر(قدس سره) من الانعقاد ثمّ البطلان خلاف
- (1) جواهر الكلام 8: 518ـ519.
(الصفحة 511)
ما يستفاد من ظاهر الأخبار; لأنّ مدلولها عدم إمكان اجتماع صلاة الرجل والمرأة بحذاء الآخر، ومعناه أنّهما لا تنعقدان معاً، فتدلّ على اعتبار أن لا يكون الرجل محاذياً للمرأة وهي تصلّي، وكذا العكس، فهذه الأدلّة نظير سائر الأدلّة الدالّة على اعتبار وجود الشروط، أو عدم الموانع في الصلاة; لأنّ مقتضى كلّ منهما عدم انطباق عنوان الصلاة على الصلاة الفاقدة لبعض الشروط، أو الواجدة لبعض الموانع، ومنه يظهر الجواب عن كلام جامع المقاصد، فتدبّر.
ثمّ إنّه لو وجدت الصلاة منهما مقارنة لوجودها من الآخر، فالواجب كما عرفت الحكم ببطلانهما; لأنّه بعد فرض عدم إمكان اجتماعهما يحصل التزاحم بين علّتيهما; لأنّ المفروض أنّه لا يكون في البين ما يدلّ على التعيين، فلا يؤثّر واحد منهما في حصول معلوله.
وأمّا لو وجدت الصلاة من أحدهما واجدة لشرطها، وهو عدم المحاذاة مع الآخر، ثمّ شرع الآخر في الصلاة، فالظاهر بطلان صلاة المتأخّر فقط; لأنّه بعد وقوع الاُولى وتحقّقها يمتنع تحقّق الاُخرى; إذ هما متضادّتان، والاُخرى لا تصلح لأن تقاوم الاُولى; لأنّها بوجودها توجب بطلانها، وقد عرفت امتناع تحقّقها مع وجود الاُولى.
وهذا بخلاف ما إذا حدثت الصلاة من كلّ واحد منهما مقارنة لحدوثها من الآخر، أو تحقّقت المحاذاة الموجبة للبطلان في أثناء صلاتهما; فإنّه وإن لم يكن للحدوث بما هو حدوث، وكذا للبقاء بما هو بقاء، مدخليّة في البطلان، بل المناط تحقّق الصلاة منهما، إلاّ انّك عرفت أنّه تتزاحم العلّتان في مقام الثبوت، وهو يوجب البطلان; فإنّه كما تكون المبائنة ثابتة بين معلوليهما، كذلك تسري إلى علّتيهما، فكلّ منهما موجب لعدم الآخر ومضادّ له،
(الصفحة 512)
بخلاف هذه الصورة; فإنّه قد تحقّقت علّة أحدهما بلا مزاحمة، والآخر يمتنع تحقّقه للمضادّة، فهي الفاسدة غير المفسدة.
هذا، ويمكن أن يقال ببطلان صلاة المتقدّم أيضاً، بتقريب أنّه إذا فرض أنّ مدلول الأخبار ليس امتناع حدوث الصلاتين بما هو حدوث; لما عرفت من شمولها لما إذا تحقّقت المحاذاة بينهما في أثناء صلاتهما، فالمناط هو تحقّق المحاذاة ولو في بعض أجزاء الصلاة.
ففيما إذا حدثت الصلاة من أحدهما متقدّماً على الآخر، فالجزء المقارن لحدوثها من الآخر لا ترجيح بينه، وبين ما يحدث من الآخر من حيث الصحّة أو البطلان، والصحّة مخالفة لما هو المفروض من امتناع الاجتماع، فوجب أن لا يقع شيء منهما صحيحة.
هذا، ولكنّ الظاهر هو الأوّل; لما عرفت في وجهه.
بقي الكلام فيما يرتفع به الحرمة أو الكراهة; وهي اُمور:
الأوّل: وجود الحائل بينهما، ويدلّ عليه أكثر روايات محمّد بن مسلم، بناءً على أن يكون الشبر تصحيفاً للستر كما عرفت، ورواية محمّد بن عليّ الحلبي المتقدّمة، وبعض ما رواه عليّ بن جعفر ممّا تقدّم(1).
ومقتضى هذا البعض عدم الفرق بين كون الحائل مشبّكاً أو غيره، وبين كون الحائط قصيراً أو طويلا. نعم، ينبغي تقييده بما إذا لم يخرج عن صدق الحائط، ولو لم يكن حائلا في بعض حالات الصلاة.
نعم، لو حملت روايتي أبي بصير المتقدّمة(2) ـ الدالّة على اعتبار أن يكون
- (1) في ص496ـ498.
- (2) في ص500.