(الصفحة 459)
القدماء، إلاّ أنّ هذا الاحتمال مرجوح; لما عرفت من أنّ الشهرة على خلافه.
ثمّ إنّه يظهر من السيّد(قدس سره) في العروة جريان الحكم المذكور فيما إذا علم قبل الدخول في الصلاة بطهارة ثوبه وصلّى فيه، ثمّ ظهر بعد الفراغ بقاء نجاسته، حيث قال فيها: إنّه لو غسل ثوبه النجس وعلم بطهارته ثمّ صلّى فيه، وبعد ذلك تبيّن له بقاء نجاسته، فالظاهر أنّه من باب الجهل بالموضوع، فلا تجب عليه الإعادة أو القضاء(1) انتهى.
أقول: لو كان مستنده في الحكم المذكور هو شمول الأخبار المتقدّمة ـ الدالّة على عدم وجوب الإعادة فيما إذا صلّى في النجاسة مع الجهل بها ـ لهذا المورد، فمن الواضح: أنّ موردها إنّما هي صورة الجهل بالنجاسة، بأن كان متردّداً فيها، أو غافلا عنها، ولا تشمل صورة العلم بالطهارة أصلا ولو كان جهلا مركّباً.
وإن كان مستنده فيه ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن ميسر قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): آمر الجارية فتغسل ثوبي من المنيّ فلا تبالغ في غسله فأصلّي فيه فإذا هو يابس، قال(عليه السلام): أعد صلاتك، أمّا أنّك لو كنت غسلت أنت لم يكن عليك شيء(2).
وتقريب الاستناد إليه: أنّ ظاهره عدم وجوب الإعادة لو غسل ثوبه نفسه ولو تبيّن بقاء المنيّ بعد الفراغ من الصلاة.
ومن المعلوم أنّ المكلّف المريد لامتثال أمر المولى مع العلم بكونه متوقّفاً على طهارة ثوبه، لا يصلّي فيه إلاّ مع العلم بطهارته، أو إحرازها بالاُصول
- (1) العروة الوثقى 1: 68، مسألة 278.
- (2) الكافي 3: 53، ح2; تهذيب الأحكام 1: 252، ح726; وعنهما وسائل الشيعة 3: 428، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب18، ح1.
(الصفحة 460)
الشرعيّة العمليّة، فالرواية تدلّ على عدم وجوب الإعادة في الفرض المذكور.
ففيه: انّه يلزم بناءً عليه القول بالتفصيل بين ما إذا غسل المصلّي ثوبه، وبين ما إذا وكّل الغير في غسله، كما هو مفاد هذه الرواية، وحينئذ فلا موقع لما ذكره بعد تلك العبارة من عدم وجوب الإعادة أيضاً فيما لو علم بنجاسة الثوب فأخبره الوكيل في تطهيره بطهارته.
هذا، والأقوى وجوب الإعادة أو القضاء في الفرض المذكور، والظاهر أنّ المراد من قوله(عليه السلام) في الرواية: «أمّا إنّك لو كنت غسلت» إلخ هو: أنّه لو كنت غسلت ثوبك لبالغت في غسله بحيث لا يبقى فيه أثر المنيّ أصلا، لا أنّه لا يضرّ العلم بوقوع الصلاة في النجاسة بعد الفراغ عنها إذا علم بالطهارة قبلها، كما لا يخفى.
هذا كلّه فيما لو رأى النجاسة بعد الفراغ من الصلاة.
وأمّا لو رآها في أثنائها، فإن احتمل حدوثها في الأثناء وأمكن له غسله صحّت الصلاة مع غسله; لاستصحاب الطهارة إلى حين الرؤية، ولا يضرّ وقوع بعض الأكوان المتخلّلة بين الأفعال في النجاسة; لما يستفاد من الروايات الكثيرة المستفيضة الواردة فيما لو حصل للمصلّي رعاف في أثناء الصلاة، وأمكن له الغسل من وجوب الغسل والإتمام وعدم وجوب الإعادة أو القضاء.
ومن المعلوم أنّه لا خصوصيّة للرعاف، فلو أصابه في أثناء الصلاة دم من نفسه أو من غيره ثمّ أزاله وأتمّ صلاته صحّت الصلاة، كما أنّه يحكم العرف بعدم اختصاص ذلك الحكم بالدم، بل يجري في كلّ قذارة ونجاسة، كما أنّه لا خصوصيّة للغسل، بل المناط هو رفع النجاسة وإزالتها لئلاّ تقع الصلاة فيها
(الصفحة 461)
ولو بقلع الثوب وإلقائه، فيستفاد من تلك الروايات قاعدة كلية; وهي عدم بطلان الصلاة لو وقع بعض أكوانها المتخلّلة بين أفعالها في النجاسة إذا لم يأت بفعل أو قول معها.
هذا إذا احتمل حدوثها في الأثناء، وإن لم يحتمل حدوثها فيه، بل تبيّن له أنّها كانت من قبل، بحيث وقع بعض أفعال الصلاة معها، فمقتضى قاعدة الإجزاء وجوب الإتمام مع إمكان غسله، وعدم وجوب الإعادة أو القضاء، كما أنّ مقتضى الروايات المتقدّمة ـ الواردة فيما لو تبيّن وقوع الصلاة في النجاسة بعد الفراغ عنها ـ ذلك; لأنّه إذا كانت الصلاة الواقعة بتمامها فيها صحيحة مجزئة، فإذا وقع بعض أفعالها في النجاسة مع الجهل بها، فصحّتها وإجزاؤها بطريق أولى.
وقد عرفت أنّه لا يضرّ وقوع بعض الأكون المتخلّلة بين الأفعال في النجاسة، فمقتضى القاعدة عدم وجوب الإعادة، إلاّ أنّه يظهر من بعض الروايات الفرق بين ما إذاتبيّن الخلاف في الأثناء، وبين ماإذا تبيّن بعد الفراغ، وأنّه تجب الإعادة في الصورة الاُولى، دون الثانية.
مثل رواية أبي بصير المتقدّمة(1) عن أبي عبدالله(عليه السلام)، حيث قال(عليه السلام)في رجل صلّى في ثوب فيه جنابة ركعتين ثمّ علم به: عليه أن يبتدئ الصلاة، وقال في مقام الجواب عن السؤال عمّا إذا علم بوقوعها في النجاسة بعد الفراغ: مضت صلاته ولا شيء عليه. ومثل صحيحة زرارة المتقدّمة(2).
وحيث إنّ الرواية متضمّنة لأحكام وفروع كثيرة، فلا بأس بنقلها بتمامها،
فنقول: روى الشيخ في التهذيب عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد، عن حريز،
- (1) في ص453.
- (2) في ص462.
(الصفحة 462)
عن زرارة قال(1): قلت: أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من منيّ، فعلّمت أثره إلى أن أُصيب له الماء، فأصبت وحضرت الصلاة، ونسيت أنّ بثوبي شيئاً وصلّيت، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال(عليه السلام): تعيد الصلاة وتغسله. قلت: فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه أصابه فطلبته فلم أقدر عليه، فلمّا صلّيت وجدته؟ قال: تغسله وتعيد الصلاة.
قلت: فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك، فنظرت فلم أرَ شيئاً، ثمّ صلّيت فيه فرأيت فيه؟ قال: تغسله ولا تعيد الصلاة. قلت: لِمَ ذلك؟ قال: لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبداً.
قلت: فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك.
قلت: فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن أنظر فيه؟ قال: لا، ولكنّك إنّما تريد أن تذهب بالشكّ الذي وقع في نفسك.
قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطباً قطعت الصلاة وغسلته ثمّ بنيت على الصلاة; لأنّك لا تدري لعلّه شيء أوقع عليك، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ(2).
فإنّ الجواب عن السؤال الثالث يدلّ على عدم وجوب الإعادة فيما إذا
- (1) ورواه الصدوق في العلل عن أبيه، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام)، وعليه: لا تكون الرواية مضمرة «منه».
- (2) تهذيب الأحكام 1: 421، ح1335; الاستبصار 1: 183، ح641; علل الشرائع: 361; وعنها وسائل الشيعة 3: 479; كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، ب42، ح2; وص477، ب41، ح1; وص402، ب7، ح2; وص466، ب37، ح1; وص482، ب44، ح1.
(الصفحة 463)
انكشف الخلاف بعد الفراغ والإتمام، والجواب عن السؤال الأخير يدلّ على وجوب الإعادة فيما إذا التفت إلى النجاسة في الأثناء، وعلم بوقوع بعض الأفعال فيها، وعلى عدم وجوبها في هذه الصورة فيما إذا علم أو احتمل حدوثها في الأثناء.
وبالجملة: فظاهر الرواية التفصيل بين ما إذا تبيّن وقوع الصلاة في النجاسة بعد الفراغ، وبين ما إذا تبيّن ذلك في الأثناء، ولكن قد يدّعى القطع بعدم الفرق بين الصورتين، بل بأولويّة عدم وجوب الإعادة في الصورة الثانية، خصوصاً بعد اشتراكهما في العلّة التي علّل الإمام(عليه السلام) عدم وجوب الإعادة في الصورة الاُولى بها، وهي جريان الاستصحاب واقتضاء دليله الإجزاء، وهذا يوجب طرح الرواية.
مضافاً إلى أنّ من البعيد أن لا يسأل زرارة بعد سؤاله عن علّة الحكم في الصورة الاُولى عن علّة حكم هذه الصورة، خصوصاً بعد اشتراكهما في التعليل كما عرفت آنفاً.
هذا، ولا يخفى أنّه لا وجه لطرح الرواية بعد كونها صحيحة، ومجرّد الاستبعاد لا يوجب ذلك، واقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ودلالته على توسعة المأمور به بالأمر الواقعيّ الأوّلي إنّما هو مقتضى ظاهر دليله، فلا ينافي ورود دليل خاصّ على خلافه، كما قام في الطهارة الحدثيّة على وجوب الإعادة فيما إذا تبيّن كونه فاقداً لها.
وبالجملة: فالظاهر لزوم الأخذ بمقتضى الرواية، وجعلها دليلا على التفصيل في المسألة وإن كان خلاف القاعدة.