(الصفحة 215)
حتى يبدأ بالمكتوبة، الحديث(1).
ومنها: رواية يعقوب بن شعيب، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن الرجل ينام عن الغداة حتى تبزغ(2) الشمس، أيصلّي حين يستيقظ، أو ينتظر حتى تنبسط الشمس؟ فقال: يصلّي حين يستيقظ. قلت: يوتر أو يصلّي الركعتين؟ قال: بل يبدأ بالفريضة(3).
ومنها: رواية زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) أنّه سئل عن رجل صلّى بغير طهور، أو نسي صلوات لم يصلّها، أو نام عنها؟ فقال: يقضيها إذا ذكرها في أيّ ساعة ذكرها; من ليل أو نهار، فإذا دخل وقت الصلاة ولم يتمّ ما قد فاته فليقض ما لم يتخوّف أن يذهب وقت هذه الصلاة التي قد حضرت، وهذه أحقّ بوقتها فليقضها، فإذا قضاها فليصلّ ما فاته ممّا قد مضى، ولا يتطوّع بركعة حتى يقضي الفريضة كلّها(4).
هذه هي الروايات الدالّة على المنع، ولا يخفى أنّ المراد بوقت الفريضة يحتمل أن يكون جميع الوقت الوسيع من أوّله إلى آخره، ويحتمل أن يكون المراد به الوقت الذي لا تكون النافلة فيه مزاحمة للفريضة، كالذراع والذراعين في الظهرين، وسقوط الشفق في العشاء، ويحتمل أن يكون المراد به الوقت الذي تنعقد فيه الجماعة لأجل المكتوبة، كما أنّ هنا احتمالا رابعاً; وهو أن يكون
- (1) ذكرى الشيعة 2: 422; وعنه وسائل الشيعة 4: 283، أبواب المواقيت، ب61، ح6.
- (2) بزغت الشمس بزغاً وبزوغاً: شرقت، القاموس المحيط 3: 106.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 265، ح1056; الاستبصار 1: 286، ح1047; وعنهما وسائل الشيعة 4: 284، أبواب المواقيت، ب61، ح4.
- (4) تهذيب الأحكام 3: 159، ح341; وج2: 172، ح685; الكافي 3: 292، ح3، وعنهما وسائل الشيعة 8: 256، أبواب قضاء الصلوات، ب2، ح3.
(الصفحة 216)
المراد به الوقت الذي يتعيّن فيه الإتيان بالفريضة; لصيرورتها قضاءً لو اُخّرت عنه.
لا إشكال في عدم كون المراد به هو الاحتمال الأخير; لكون الروايات المتقدّمة آبية عن الحمل عليه، بل صريحة في خلافه، كما أنّ الظاهر بطلان الاحتمال الأوّل أيضاً; لأنّ أكثر روايات المنع كما عرفت قد وردت في خصوص الرواتب اليوميّة، أو الأعمّ منها، ولا يمكن حملها على خصوص النافلة المبتدأة، كما مرّ.
وحينئذ فبعدما استقرّ عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) والأئمّـة المعصومين(عليهم السلام) ـ وكذا جميع الصحابة، بل أكثر الناس ـ على الإتيان بالرواتب قبل الفريضة في نافلة الظهرين، وقبل سقوط الشفق في نافلة المغرب، وقبل طلوع الحمرة المشرقيّة في نافلة الصبح، لا ينبغي الشكّ والارتياب في استحباب الإتيان بالنافلة الراتبة في أوّل الزوال مثلا، وكون جواز ذلك بل أفضليّته من الاُمور المرتكزة عند الناس، وحينئذ، فإذا اُلقي إليهم هذه العبارات الدالّة على عدم جواز الإتيان بالنافلة في وقت الفريضة، لا يفهمون منه عدم الجواز في وقت يصحّ فيه الإتيان بالفريضة.
بل لا يتبادر إلى أذهانهم إلاّ أوّل أوقات الفضيلة للفريضة، التي تكون خاتمة الأوقات المضروبة للنوافل، التي تزاحم فيها مع الفريضة، وحينئذ فيكون مدلول الروايات أخصّ من مدّعى المانعين; لأنّ مدّعاهم المنع في جميع الوقت الوسيع الذي يصحّ فيه الإتيان بالفريضة، وحينئذ فلابدّ من التزامهم بالتخصيص فيها; لخروج الرواتب عن هذا الحكم قطعاً. وأمّا بناءً على ما ذكرنا يكون خروج الرواتب بنحو التخصّص; إذ لا تعرّض في الروايات حينئذ لما قبل الذراع
(الصفحة 217)
والذراعين مثلا، وحينئذ فلا دليل على المنع في غير الرواتب أيضاً.
نعم، لابدّ من تعيين المراد من النهي الوارد فيها، وأنّه هل المراد منه الحرمة، أو الكراهة تكليفاً، أو وضعاً، ولكنّه بحث آخر يأتي، والكلام هنا في تعيين موضع النهي في هذه الرواية، وقد عرفت أنّ استقرار عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله)ومن بعده قرينة متّصلة على أنّ المراد بوقت الفريضة ليس مجموع الوقت الوسيع من أوّله إلى آخره. نعم، يستفاد من روايات المنع، منع الإتيان بالرواتب بعد دخول وقت الفضيلة للفريضة، فيكون غيرها أولى بعدم الجواز; وحينئذ فلابدّ من التكلّم فيها من حيث إنّ النهي الوارد فيها هل يكون المراد به الحرمة، أو غيرها؟
فنقول: إنّ النهي فيها يحتمل وجوهاً:
أحدها: أن يكون النهي فيها للتحريم بسبب انطباق عنوان محرّم على النافلة مطلقاً ـ راتبةً كانت أو غيرها ـ بعد مضيّ الذراع مثلا.
ثانيها: أن يكون النهي إرشاداً إلى فساد النافلة في ذلك الوقت.
ثالثها: أن يكون النهي نهياً مولويّاً تنزيهيّاً بسبب انطباق عنوان ذي حزازة ومنقصة على النافلة في ذلك الوقت.
رابعها: أن يكون للإرشاد إلى قلّة الثواب; بمعنى أنّ النافلة لو أتى بها في هذا الوقت تكون أقلّ ثواباً بالنسبة إلى ما لو اُتى بها في غير هذا الوقت.
خامسها: أن لا يكون النهي عن النافلة بسبب حرمتها، أو حزازتها، أو كونها أقلّ ثواباً، بل كان للإرشاد إلى أنّ الأفضل حينئذ البدأة بالمكتوبة; بمعنى أنّه حيث كانت ذمّة المكلّف مشغولة بما هو أهمّ وأكمل، فالأحرى تقديم الأهمّ وعدم تأخيره، فالنهي إنّما هو لمراعاة فضل المبادرة إلى الفريضة، ومقتضى هذا الاحتمال عدم كون التطوّع في وقت الفريضة حراماً، ولا ذا حزازة ومنقصة
(الصفحة 218)
أصلا، ولا ينقص فضلها عن الإتيان بها في غير وقتها، بل هما متساويان بلا تفاضل.
وهذا هو أوجه الاحتمالات كما يظهر بالتدبّر فيها، ويساعده فهم العرف أيضاً; فإنّ العرف المخاطب بمثل قوله(عليه السلام): «إذا دخل وقت الفريضة فابدأ بها» أو «لا تطوّع في وقت الفريضة» لا يفهم منه مع ملاحظة توسعة الوقت إلاّ أنّ مع اشتغال الذمّة بالفريضة ينبغي تقديمها وإفراغها منها، ثمّ الشروع في الإتيان بالنوافل.
هذا كلّه، مع أنّه لو أغمضنا النظر عمّا ذكرنا فنقول:
إنّ الأخبار الدالّة على الجواز صريحة فيه، وروايات المنع ظاهرة في مدلولها، ومقتضى قاعدة الجمع حمل الظاهر على النصّ، وتوجيهه بما لا ينافيه، والشهرة التي ادّعيت على المنع ليست بحدّ توجب خروج أخبار الجواز عن الحجّية، كما لا يخفى.
ثمّ إنّ أكثر الروايات المتقدّمة واردة في النهي عن التطوّع في وقت انعقاد الجماعة للفريضة، أو غير آبية عن الحمل على هذه الصورة، والحمل على هذا الوقت وإن كان بعيداً عن أذهاننا، والمتبادر إليها من معنى الوقت، إلاّ أنّ التتبّع في الأخبار يعطي أنّ المراد بالوقت في لسان الأخبار ليس خصوص ما هو المتبادر منه عند أذهاننا، ويؤيّد ذلك ما رواه العامّة عن أبي هريرة، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)أنّه قال: إذا اُقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة(1).
والظاهر أنّه ليس لهم في المسألة إلاّ هذه الرواية، ولعلّها هي التي أشار إليها
(الصفحة 219)
عمر بن يزيد في روايته المتقدّمة(1)، كما يدلّ عليه التعبير بقوله: «يروون»، ولا ينافي ذلك اختلاف التعبير فيهما; فإنّ رواية أبي هريرة ظاهرة في التحريم، وماحكاه عمر بن يزيد لا يدلّ إلاّ على الكراهة; لأنّه عبّر بكلمة «لا ينبغي»، وذلك لأنّه يمكن أن لا يكون قد فهم من نفي الصلاة إلاّ الكراهة وعدم الحرمة، أو أنّه يمكن أن تكون كلمة «لا ينبغي» مستعملة عندهم في التحريم أيضاً.
وكيف كان فالمتطوّع في وقت الفريضة إمّا أن يكون مترقّباً لانعقاد الجماعة، ومنتظراً لإقامتها، أو يتطوّع مع انعقاد الجماعة حال التطوّع، أو أنّه لا يريد الصلاة جماعة بل فرادى، ففي الصورة الاُولى لا إشكال في جوازه; لرواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة(2)، قال: قلت: أُصلّي في وقت فريضة نافلة؟ قال: نعم، في أوّل الوقت إذا كنت مع إمام تقتدي به، فإذا كنت وحدك فابدأ بالمكتوبة.
وأمّا في صورة انعقاد الجماعة، فظاهر رواية عمر بن يزيد المتقدّمة الجواز، لكن مع كراهيّة، والفضل في البدأة بالفريضة من جهة أفضليّة المبادرة والمسارعة إلى إدراك فضل الوقت والجماعة معاً، وليس المراد بالكراهة هي الكراهة التكليفيّة أو الوضعيّة، بل المراد ما عرفت من كون الإتيان بالفريضة أهمّ وأولى من دون أن يكون في التطوّع حزازة ومنقصة موجبة للكراهة.
ومن هنا يظهر الجواز في صورة الانفراد أيضاً بطريق أولى; لأنّ التطوّع في صورة انعقاد الجماعة يوجب فوات فضيلتي الوقت والجماعة معاً، بخلاف التطوّع منفرداً مع عدم قيام الجماعة; فإنّه لا يوجب إلاّ فوات فضيلة الوقت فقط، كما هو واضح، فجوازه في الاُولى يستلزم الجواز في الثانية بطريق أولى، والأمر