(الصفحة 247)
لأنّ في الصورة الاُولى قد بذل المكلّف جهده في تحصيل مراد المولى، بخلاف الثانية، فالأقوى فيما نحن فيه هو القول بوجوب مقدار يتمكّن منه.
فرع
إذا كان المكلّف المتحيّر متمكّناً من الصلاة إلى الجوانب الأربعة، ولم يأت بشيء منها حتى زال تمكّنه وبقي متمكّناً من الصلاة إلى أحدها، فلا ريب في وجوبها; وهل يجب عليه بعد الوقت أن يصلّي إلى باقي الجهات، أو لا؟ وجهان مبنيّان على سقوط شرطيّة القبلة في هذه الصورة، وعدمه.
والأقوى هو السقوط وعدم وجوب القضاء بعد الوقت; لأنّه لا يزاحم شرطيّة القبلة مع الوقت، كما يعلم بالاستقراء والتتبّع في موارد مزاحمة الوقت مع سائر الشروط، بل بعض الأجزاء، كما في صورة فقدان الماء التي تجب الصلاة مع التيمّم; فإنّه لولا أهمّية الوقت لوجب أن يصلّي المكلّف مع الطهارة المائية ولو بعد الوقت، وكذا لو تنجّس بدنه أو ثوبه; فإنّه في الأوّل يجب عليه أن يصلّي في الوقت مع نجاسة البدن; بمعنى أنّه تسقط شرطيّة الطهارة من الخبث، وفي الثاني يجب عليه أن يصلّي عارياً على قول، أو مع ثوبه المتنجّس على قول آخر، فعلى الأوّل: تسقط شرطيّة الستر، وعلى الثاني: تسقط شرطيّة الطهارة من الخبث، وكما في صورة سقوط السورة لضيق الوقت ونحوه، وتبدّل بعض أجزائها بشيء آخر كما في صلاة الخوف.
وغير ذلك من الموارد; فإنّه يعلم منها أنّ الشارع قد اهتمّ بالوقت، ولم يسقط شرطيّته في صورة المزاحمة مع الشروط الاُخر، ففي المقام إذا قيل بأنّ المكلّف مأمور بالصلاة إلى القبلة الواقعيّة، لزم أن تسقط شرطيّة الوقت; لأنّ الجمع بين
(الصفحة 248)
التكليف الأدائي، وحفظ شرطيّة القبلة أمر ممتنع، فبملاحظة رعاية الوقت يجب الحكم بسقوط شرطيّة القبلة، فالصلاة إلى الجهة الواحدة هي المأمور بها الواقعيّة لهذا المكلّف، ومقتضى الإتيان بها سقوط الأمر، فلا وجه لوجوب الصلاة إلى باقي الجهات بعد الوقت.
إن قيل: مقتضى ما ذكر عدم عصيان المكلّف لأجل تأخيره حتّى زال تمكّنه من الجوانب الأربعة; لأنّه على الفرض قد أتى بما هو المأمور به واقعاً، ولم يتحقّق منه مخالفة أصلا، وليس هنا أمر آخر حتّى يستحقّ المكلّف بمخالفته العقوبة; لأنّ الأمر الذي يتوهّم مخالفة المكلّف له هو الأمر بالصلاة إلى القبلة الواقعيّة، ولكن يدفعه أنّ الأمر قد تعلّق بطبيعة الصلاة، والتخيير بين أفرادها في أجزاء الوقت عقليّ.
ومن المعلوم أنّ الشرائط تختلف باختلاف حالات المكلّف في أجزاء الوقت، ففي حالة وجدان الماء تكون الصلاة مع الطهارة الواقعيّة مصداقاً لطبيعة الصلاة التي هي المأمور بها، وفي حالة فقدانها تكون الصلاة مع الطهارة الترابيّة مصداقاً لها، وفي حالة تمكّن المكلّف من الصلاة إلى القبلة الواقعيّة تكون الصلاة إليها مصداقاً لطبيعة الصلاة، وفي حالة عدم التمكّن تكون الصلاة مطلقاً ـ ولو مع عدم التوجّه إلى القبلة ـ مصداقاً لها.
فباختلاف حالات المكلّف من واجديّته للشرائط أو فاقديّته يختلف المأمور به الواقعي، ففيما نحن فيه تكون الصلاة إلى جهة واحدة هي المأمور بها الواقعيّة وقد امتثلها، فلا وجه للحكم بعصيان المكلّف في مفروض المسألة.
قلت: نعم، مقتضى ما ذكرنا هو ما قيل، ولكن أكثر الفقهاء
(الصفحة 249)
بل جميعهم(1) قد تسالموا على ثبوت العصيان، بل يمكن أن يقال بأنّ العقل أيضاً يحكم بثبوته، فتدبّر.
مسألة: يجوز لمن عليه صلاتان كالظهرين مع اشتباه القبلة أن يأتي بمحتملات الثانية مبتدأ من غير الجهة التي ابتدأ بها في محتملات الاُولى; كأن ابتدأ بالظهر متوجّهاً إلى المشرق، وابتدأ بالعصر متوجّهاً إلى المغرب; لإطلاق مرسلتي الصدوق والكليني المتقدّمتين الدالّتين على أنّ المتحيّر يصلّي إلى أربعة جوانب(2).
وهل يجوز أن يدخل في محتملات الواجب اللاحق قبل الإتيان بجميع محتملات الواجب السابق، كأن صلّى الظهر إلى جهة واحدة والعصر إليها، ثمّ صلّى الظهر إلى جهة اُخرى والعصر إليها، وهكذا إلى أن يأتي بجميع محتملاتهما، أو لا يجوز الدخول في الثاني، بل يعتبر في صحّة الدخول فيه الفراغ اليقيني من الواجب السابق بإتيان جميع محتملاته؟ وجهان، بل قولان مبنيّان على أنّه هل يجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة الخصوصيّة المعتبرة في الصلاة اللاحقة; وهي تأخّرها عن الصلاة السابقة; لأنّ مراعاة العلم التفصيلي لازمة مهما أمكنت، فإذا امتنعت من جهة القبلة فلا وجه للحكم بعدم لزومها من جهة اُخرى، وهي التأخّر والترتّب.
أو أنّه إذا كانت الخصوصيّة المذكورة لا توجب تردّداً في الواجب، زائداً على التردّد الحاصل من جهة اشتباه القبلة كما في المقام; لأنّ ما يأتي به من أوّل محتملات العصر إن كانت هي الصلاة إلى القبلة الواقعيّة فواجديّتها للشرط
- (1) كشف اللثام 3: 175.
- (2) في ص243.
(الصفحة 250)
معلومة، وإن لم يكن هي المأمور بها الواقعيّة، فلا ينفع ترتّبها على الظهر الواقعي؟ فكلّ محتمل يأتي به من العصر إمّا واجد للشرط على تقدير كونه هو المأمور به الواقعي، وإمّا لا ينفع ترتّبه على الظهر على تقدير عدم كونه كذلك، فلا تجب مراعاة العلم التفصيلي من جهة هذه الخصوصيّة أيضاً.
وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا يجوز التمسّك باستصحاب عدم الإتيان بالظهر الواقعي; لأنّ ما يترتّب عليه إنّما هو عدم جواز الدخول في العصر الواقعي، ونحن أيضاً نقول به، ولذا لا نجوّز الإتيان بجميع محتملات العصر قبل الفراغ اليقيني من الظهر، ولكن ندّعي أنّ ما يأتي به هو العصر الواقعي لو كانت الصلاة السابقة عليه هي المأمور بها الواقعيّة; وعلى هذا فترتّبه على الظهر ثابت في جميع محتملاته.
ثمّ إنّه لا يجوز أن يبتدأ في هذا الفرض بمحتملات العصر إلى غير الجهة التي ابتدأ في الظهر بها; لأنّ مقتضى ما ذكرنا أنّ كلّ محتمل يأتي به من العصر مترتّب على الظهر على تقدير أن يكون هو المأمور به الواقعي، وفي صورة تخالف الجهتين لا يعلم بثبوت الترتّب على التقدير المذكور; لأنّ العصر الذي يأتي به على غير جهة الظهر يحتمل أن يكون هو المأمور به الواقعي; وحينئذ لا يكون واجداً لشرطه وهو الترتّب على الظهر، كما هو واضح.
مسألة: إذا كان على المتحيّر ـ الذي يجب عليه أن يصلّي إلى أربعة جوانب ـ صلاتان كالظهرين، ولم يتمكّن من الإتيان بجميع محتملاتهما، كالثمان في الفرض لضيق الوقت أو غيره، بل تمكّن من الإتيان بخمس أو ستّ أو سبع، فهل يجب عليه إيراد النقص على الاُولى وصرف الوقت في محتملات الثانية، أو أنّه يجب عليه رعاية محتملات الاُولى، وإيراد النقص على الثانية؟
(الصفحة 251)
وجهان مبنيّان على أنّ المقدار الذي يختصّ بالعصر من آخر الوقت هل هو مقدار الصلاة إلى القبلة الواقعيّة، فلا يختلف باختلاف حال المكلّف من حيث العلم بالقبلة والجهل بها، أو مقدار ما يجب على المكلّف إتيانه، فيختلف باختلاف حاله، كصورة القصر والإتمام؟
فإنّ المقدار الذي يختصّ بالعصر من الوقت للمسافر هو مقدار إتيان ركعتين، وللحاضر مقدار إتيان أربع ركعات، فعلى الوجه الأوّل: يجب عليه إيراد النقص على الثانية، وعلى الثاني: تجب رعاية محتملات الثانية وإيراد النقص على الاُولى; هذا، والأظهر هو الأوّل.
واحتمل السيّد الطباطبائي(قدس سره) في العروة ثبوت التخيير بين إيراد النقص على الاُولى أو الثانية(1).
والظاهر أنّه لا وجه لهذا الاحتمال; لأنّ الأمر دائر بين الوجهين: إمّا أن نقول باختلاف مقدار وقت صلاة العصر باختلاف حالات المكلّف من حيث علمه بالقبلة أو جهله بها، أو نقول بعدم الاختلاف، فمقداره هو مقدار الصلاة إلى القبلة الواقعيّة، فعلى الأوّل: يتعيّن إيراد النقص على الاُولى، وعلى الثاني: يتعيّن إيراده على الثانية، ولا يبقى وجه للتخيير بين الأمرين.
نعم، قد يقال في وجهه بناءً على الوجه الثاني ـ وهو اختصاص وقت العصر بمقدار الصلاة إلى القبلة الواقعيّة ـ بأنّ الأمر يدور بين الوجهين: أحدهما: حفظ شرطيّة القبلة في صلاة الظهر، وسقوطها بالنسبة إلى صلاة العصر، والآخر: عكس ذلك; لأنّ ما سوى الوقت المختصّ بالعصر مشترك بينه وبين الظهر، فيمكن
- (1) العروة الوثقى 1: 388، مسألة 1242.