(الصفحة 61)
فنقول: أمّا الكلام في الجهة الاُولى، فملخّصه: أنّ الظاهر هو التعدّد وإن جاز التداخل في مقام الامتثال; لوضوح أنّ الرواية الدالّة على مطلوبيّة مطلق التنفّل في ساعة الغفلة، إنّما تدلّ على أنّ المطلوب هو عدم خلوّ هذا الزمان الذي هو زمان الغفلة من التنفّل الذي يكون حقيقته التوجّه إلى المعبود، والتخضّع والتخشّع لديه، فالمطلوب فيه أمر عامّ ينطبق على القليل والكثير، ولا دلالة لها على كيفيّة مخصوصة ونحو خاصّ.
والرواية الاُخرى تدلّ على استحباب ركعتين بالكيفيّة الخاصّة، وهو عنوان آخر يغاير العنوان المأخوذ في تلك الروايات من حيث المفهوم، ولكن لا يأبى من الاجتماع معه في الخارج ومقام الامتثال; فهذان العنوانان في عالم تعلّق الطلب والأمر متغايران، ولذا يجوز تعلّق أمر مستقلّ بكلّ منهما، وفي عالم الامتثال والوجود الخارجي يمكن تصادقهما على أمر واحد.
وبعبارة أُخرى: لـمّا كان من سيرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) التفريق بين المغرب والعشاء، والإتيان بكلّ منهما في وقت فضيلته، فكان يأتي بالعشاء بعد ذهاب الشفق، كما هو المتداول الآن بين المسلمين من أهل السنّة، فلذا يفصل بين الصلاتين زمان قهراً، وكان الناس في ذلك المقدار من الزمان مجتمعين على ذكر الاُمور الباطلة، والاشتغال باللغو والغيبة، ولا أقلّ من الاُمور الدنيويّة، فلذا وقع الحثّ والتحريض على صرف هذا الزمان في ذكر الله الذي هو عبارة عن الصلاة التي حقيقتها التوجّه إلى الخالق المعبود بنحو الخضوع والخشوع، فالمطلوب هو مطلق التنفّل المانع عن الاشتغال بالاُمور الدنيويّة.
ومن الواضح: تحقّق هذا المطلوب بالإتيان بصلاة الغفيلة بكيفيّتها المخصوصة; لوجود الأعمّ في ضمن الأخصّ، وهذا لا ينافي تعلّق أمر مستقلّ بكلّ منهما; لأنّ
(الصفحة 62)
ملاك تعدّد الأمر هو تغاير المتعلّقين في عالم المفهوميّة; سواء كانت النسبة بينهما التساوي، أو التباين، أو العموم المطلق، أو العموم من وجه، غاية الأمر أنّه لا يمكن التداخل في صورة التباين. وأمّا في غيرها من الصور الثلاثة، فيتحقّق التداخل في مقام الامتثال وإن لم يقصد العنوانين معاً.
نعم، لو كان العنوانان من العناوين القصديّة التي قوامها بالقصد، بحيث لا تتحقّق بدونه، لا يمكن التداخل ما لم يقصد كلاهما. فانقدح ممّا ذكرنا أنّ صلاة الغفيلة وكذا الوصيّة تغاير النافلة المأمور بها في ساعة الغفلة في مقام تعلّق الأمر، غاية الأمر أنّه يتحقّق التداخل بينهما في مقام الامتثال إذا أتى بها بصورة الغفيلة أو الوصيّة. وأمّا إذا لم يأت بها بشيء من الصورتين، يتحقّق الامتثال بالنسبة إلى الأمر المتعلّق بمطلق التنفّل، دون الأمر المتعلّق بالغفيلة أو الوصيّة.
وأمّا الكلام في الجهة الثانية، فملخّصه: أنّ فيه وجوهاً ثلاثة، مقتضى الوجه الأوّل منها اتّحاد الغفلية أو الوصيّة مع نافلة المغرب ذاتاً وعنواناً، فتتحدان في مقام الصدق قهراً كما هو واضح. ومقتضى الوجه الثاني عكس ذلك، فهما متغايرتان عنواناً وكذا صدقاً، فلا تجتمعان على وجود واحد. ومقتضى الوجه الثالث التفصيل بين مقام الذات وعالم الصدق، بتحقّق الاختلاف بينهما بحسب الذات، وإمكان التصادق بحسب الخارج ومقام الامتثال.
أمّا الوجوه: فالوجه الأوّل أن يقال: إنّه لـمّا كان الإتيان بنافلة المغرب بين العشاءين متداولا بين المسلمين، بحيث لم يكونوا يتركونه في مقام العمل، فكان قوله(عليه السلام): «من صلّى بين العشاءين ركعتين يقرأ في الاُولى الحمد»، الحديث بياناً لكيفيّة خاصّة للركعتين من النافلة المعهودة بينهم، المعروفة عندهم، وأنّه يترتّب عليها أثر مخصوص مع الإتيان بها بهذه الكيفيّة، زائداً على الأثر المترتّب عليها مع
(الصفحة 63)
الإتيان بها بدون هذه الكيفيّة، فليس في البين أمر آخر متعلّق بعنوان صلاة الغفيلة أو الوصيّة، في مقابل الأمر المتعلّق بنافلة المغرب المركّبة من أربع ركعات، بل الغرض هو جواز الإتيان بركعتين من نافلة المغرب بهذه الكيفيّة لترتّب آثار مخصوصة عليهما.
وحينئذ، فلو أتى بأربع ركعات بعنوان نافلة المغرب من دون هذه الكيفيّة، لا يشرع له الإتيان بصلاة الغفيلة أو الوصيّة; لعدم تعلّق أمر مستقلّ بعنوانهما.
والوجه الثاني أن يقال: إنّ المسلمين حيث استقرّت سيرتهم على الإتيان بنافلة المغرب بعد فريضته، صار في ارتكازهم أنّ نافلة المغرب من توابعه المتصلة به، وحينئذ فلا يفهمون من كلام الإمام الصادق(عليه السلام)في الرواية المتقدّمة الواردة في صلاة الغفيلة: «من صلّى بين العشاءين ركعتين يقرأ في الاُولى الحمد إلخ»، إلاّ الإتيان بالركعتين بين المغرب ونافلته، وبين العشاء.
وحينئذ، فالمقصود بيان استحباب ركعتين أُخريين عدا نافلة المغرب، وحينئذ فهما ـ أي صلاة الغفيلة أو الوصيّة، ونافلة المغرب ـ متبائنتان لا يمكن تصادقهما على فرد واحد، فلو أتى بنافلة المغرب بصورة الغفيلة لا يسقط الأمر الاستحبابي المتعلّق بصلاة الغفيلة، كما أنّه لا يتحقّق امتثال الأمر المتعلّق بنافلة المغرب إذا ضمّ إلى صلاة الغفيلة ركعتين أُخريين; وهكذا بالنسبة إلى صلاة الوصيّة.
والوجه الثالث أن يقال: ليس الأمر كما ذكر في الوجه الأوّل، ولا كما ذكر في الوجه الثاني، بل الظاهر أنّ النافلة المعنونة بعنوان نافلة المغرب تعلّق بها أمر مستقلّ، وصلاة الغفيلة أو الوصيّة تعلّق بها أمر استحبابيّ آخر، ولا بأس بتعلّق أمرين بعد تغاير المتعلّقين من حيث المفهوم والعنوان.
(الصفحة 64)
نعم، يمكن تصادقهما في الخارج وفي مقام الامتثال; لأنّ نافلة المغرب لا تكون
مشروطة بصورة خاصّة، وكيفيّة مخصوصة مغايرة لصورة الغفيلة، والغفيلة أيضاً لا تكون مشروطة بالإتيان بها بعد نافلة المغرب أو قبلها حتّى لا يمكن تصادقهما، بل نافلة المغرب مطلقة من حيث الكيفيّة، والغفيلة مطلقة من حيث الوقت بالإضافة إلى نافلة المغرب، فلا إشكال حينئذ في الإتيان بركعتين بصورة الغفيلة بعنوان نافلة المغرب أيضاً، ويتحقّق الامتثال بالنسبة إلى كلا الأمرين.
نعم، بناءً على ما ذكرنا سابقاً من أنّ نافلة المغرب نافلة واحدة مركّبة من صلاتين مرتبطتين، تكون الركعتان منها المأتيّ بهما بعنوان صلاة الغفيلة أيضاً مأموراً بهما بالأمر الاستقلالي، بالنظر إلى كونهما صلاة الغفيلة، وبالأمر الضمني من جهة كونهما جزءاً من نافلة المغرب التي تعلّق بمجموعها أمر واحد; فالركعتان امتثال للأمر الاستقلالي والضمني معاً، فبالاعتبار الأوّل يكون تامّاً، وبالاعتبار الثاني يكون غير تامّ.
وقد انقدح ممّا ذكرنا أنّه بناءً على الوجه الأوّل ليس هناك إلاّ مستحبّ واحد، وعلى الوجه الثاني هناك مستحبّان متبائنان لا يمكن تداخلهما، وعلى الوجه الثالث مستحبّان يمكن تداخلهما.
واعلم أنّه حيث كان التفريق بين العشاءين وتأخير العشاء الآخرة إلى ذهاب الشفق، ممّا استقرّت عليه سيرة المسلمين في الصدر الأوّل، فلذا يكون المتبادر من قوله(عليه السلام): «من صلّى بين العشاءين ركعتين» هو الصلاة بين الوقتين اللّذين يصلّى فيهما الفريضتان; أعني من ذهاب الحمرة إلى زوال الشفق، وحينئذ فالمتبادر كون وقت الغفيلة هو ما بين المغرب والعشاء المأتيّ بهما في وقت فضيلتهما، لا ما بينهما وإن أخّر العشاء إلى نصف الليل، كما لا يخفى.
(الصفحة 65)
ثمّ إنّه بناءً على تغاير الغفيلة مع صلاة الغفلة، أو مع نافلة المغرب، وجواز التداخل في مقام الامتثال، فهل يجب قصد كلا العنوانين في تحقّقهما، أو يكفي قصد أحدهما في سقوط الأمر المتعلّق بهما إذا كان المأتيّ به منطبقاً عليه كلا العنوانين، كما إذا صلّى ركعتين بكيفيّة صلاة الغفيلة؟ وجهان، وتحقيق الحقّ موقوف على بيان المراد من قصد التعيين وحكمه، والإشارة إلى الموارد التي يجب فيها ذلك.
فنقول: قد يتوهّم أنّ قصد التعيين من شؤون قصد امتثال الأمر، فيقال: إنّه لو كان هناك عنوانان مشتركان في المصاديق، بحيث يجوز أن تكون صورة
واحدة مصداقاً لهذا العنوان تارة، ولذلك العنوان أُخرى، فإن كان المكلّف مأموراً بكلا العنوانين، يجب عليه في مقام الامتثال تعيين العنوان الذي يريد امتثال أمره; وإن لم يكن مأموراً إلاّ بأحدهما لم يجب عليه التعيين، بل يكفي قصد امتثال الأمر المتوجّه إليه.
وهذا التوهّم بمكان من البطلان; لعدم ارتباط مسألة قصد التعيين بمسألة قصد الامتثال.
والتحقيق في المسألة أن يقال: إنّ العناوين الواقعة تحت الأمر على قسمين:
الأوّل: العناوين القصديّة التي تكون انطباقها على العمل الخارجي موقوفاً على قصدها، بحيث لا يصير العمل الخارجي مصداقاً لها، ومنطبقاً عليه لشيء منها إلاّ بالقصد، وهذا لا فرق فيه بين أن يكون هذا العنوان متعلّقاً للأمر أم لا، وأمثلة هذا القسم كثيرة:
فمنها: عنوان التعظيم; فإنّه لا ينطبق على شيء من الأفعال المأتيّ بها في هذا المقام إلاّ مع ضميمة قصد عنوان التعظيم إليها.
ومنها: عنوان الظهريّة والعصريّة ونحوهما من عناوين الصلوات المفروضة;