(الصفحة 227)
من المحقّقين(1)، بل هو المشهور بين الفقهاء(2).
ثمّ اختلف القائلون ـ بأنّ قبلة البعيد هي جهة الكعبة ـ في المراد من الجهة، ففي المعتبر: أنّها السمت الذي فيه الكعبة(3)، ولعلّ المراد من السمت هي إحدى الجهات السّت; فإنّ الشخص إذا أحاطت به دائرة، ووقع في مركزها يكون كلّ ربع من الدائرة إحدى الجهات الأربع لذلك الشخص من اليسار واليمين، والأمام والخلف، فالمراد بالسمت هو الربع الذي وقعت الكعبة في جزء منه، فيكفي بناءً عليه توجّه الوجه نحو ذلك الربع.
وفي المحكي عن نهاية الإحكام: أنّها ما يظنّ به الكعبة، حتى لو ظنّ خروجه عنها لم يصحّ(4). وفي التذكرة: أنّها ما يظنّ أنّه الكعبة، حتى لو ظنّ خروجه عنها لم يصح(5). وفي الذكرى والجعفريّة: أنّها السمت الذي يظنّ كون الكعبة فيه لامطلق الجهة(6)، ولعلّ ذكر الظنّ مستدرك; لأنّ الجهة هي السمت الذي فيه الكعبة، فإن علم بتلك السمت فهو، وإلاّ فيكفي فيه الظنّ، فتنطبق هذه التعاريف الثلاثة على مافسّرت به في المعتبر.
- (1) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 3: 29; الكافي في الفقه: 138; غنية النزوع: 68ـ69; السرائر 1: 204; المعتبر 2: 65; وقواعد الأحكام 1: 250; مختلف الشيعة 2: 61; منتهى المطلب 4: 162; البيان: 114; ذكرى الشيعة 3: 158; المهذّب البارع 1: 306; جامع المقاصد 2: 49; مستند الشيعة 4: 151; رياض المسائل 3: 111.
- (2) زبدة البيان: 102; مفاتيح الشرائع 1: 112; ونسبه إلى الأكثر في مدارك الأحكام 3: 119; وهو خيرة المتأخّرين كما في مسالك الأفهام 1: 151; وأكثر المتأخّرين إن لم يكن جميعهم كما في روض الجنان 2: 512.
- (3) المعتبر 2: 66.
- (4) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 392.
- (5) تذكرة الفقهاء 3: 7.
- (6) ذكرى الشيعة 3: 160; الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) 1: 103.
(الصفحة 228)
وفي جامع المقاصد : أنّ جهة الكعبة هي المقدار الذي شأن البعيد أن يجوّز على كلّ بعض منه أن يكون هو الكعبة، بحيث يقطع بعدم خروجها عن مجموعه(1).
وفي الروضة: أنّها السمت الّذي يحتمل كونها فيه، ويقطع بعدم خروجها عنه لأمارة شرعيّة(2)، ولعلّ هذا التعريف مأخوذ من جامع المقاصد.
ومرجع بعض هذه التعاريف المذكورة وغيرها من التفاسير، إلى أنّ المراد من الجهة هي قطعة من الدائرة المفروضة التي وقعت الكعبة في جزء منها، ويعلم بعدم خروج الكعبة عنها، ويتساوى احتمال وجودها بالنسبة إلى كلّ جزء من القطعة المذكورة، فيكفي توجّه الوجه نحو القوس الذي يحتمل في كلّ جزء منه وجود الكعبة; وهذا المعنى يختلف سعةً وضيقاً باختلاف آحاد المصلّين، من حيث إنّه قديعلم بوجود الكعبة في ربع الدائرة، وقد يعلم بوجودها في أزيد أو أنقص من هذا المقدار.
وحينئذ فيتوجّه عليه الإشكال بأنّ الشطر الذي أمر بتولية الوجه إليه أمر واقعيّ لا ارتباط له بحال المكلّف من حيث العلم والجهل; لأنّ الكلام في الحكم الواقعي الذي جعل لجميع المكلّفين، والآية الشريفة(3) أيضاً ناظرة إليه، والحكم الواقعي هو الذي جعل للناس مع قطع النظر عن حالاتهم من حيث العلم والجهل; وحينئذ فالتفسير المذكور لا يناسبه، بل يناسب الحكم الظاهريّ.
وأغرب التعاريف ما نقله صاحب الجواهر(قدس سره) عن الفاضل المقداد والمحقّق
- (1) جامع المقاصد 2: 49.
- (2) الروضة البهيّة 1: 190.
- (3) سورة البقرة 2: 144 و 150.
(الصفحة 229)
الثاني في شرح الألفية ـ وذهب إليه الشيخ ابن فهد(1) ـ من أنّ جهة الكعبة التي هي القبلة للبعيد خطّ مستقيم يخرج من المشرق إلى المغرب، ويمرّ بسطح الكعبة، ويعتبر أن يخرج من موقف المصلّي خطّ مستقيم آخر واقع على الخطّ المذكور على نحو يحدث بين جنبيه زاويتان قائمتان، فلو كان الخطّ الخارج من موقف المصلّي واقعاً على الخطّ المذكور بحيث يحدث زاويتان: إحداهما حادّة، والاُخرى منفرجة، لا يتحقّق التوجّه نحو الكعبة، ولم يكن المصلّي مستقبلا إليها(2).
وجه الأغربيّة، أنّه لو كان موقف المصلّي قريباً إلى المشرق مثلا، وعلم بفعل المعصوم أو غيره أنّ الكعبة واقعة قريب المغرب، يلزم على هذا بطلان صلاته لو توجّه نحو الكعبة; لأنّ الخطّ الذي يخرج من موقف المصلّي ويقع على الكعبة ليس بحيث يحدث بين طرفيه زاويتان قائمتان، بل تحدث من طرف اليمين زاوية منفرجة ومن اليسار زاوية حادّة، وبطلان التالي ضروريّ، فليس هذا التعريف ممّا يمكن أن يعتمد عليه.
والذي يقوى في النظر في تعريف الجهة، هو الذي ذكره المحقّق في المعتبر واختاره، وقد سبق، ويمكن أن يقال في تقريبه: إنّه وإن كان يتوقّف تحقّق توجّه الوجه إلى شيء على خروج خطّ مستقيم من وسط الوجه، ووقوعه على ذلك الشيء، إلاّ أنّ ذلك إنّما هو بالنسبة إلى القريب. وأمّا البعيد، فيكفي فيه مجرّد خروج خطّ مستقيم من جزء من أجزاء وجهه إليه وإن لم يكن من وسطه; للزوم
- (1) التنقيح الرائع 1: 178; شرح الألفيّة (رسائل المحقّق الكركي) 3: 241; المهذّب البارع 1: 313ـ314.
- (2) جواهر الكلام 7: 538ـ539.
(الصفحة 230)
الحرج في المقام لو أوجبنا خروج ذلك الخطّ من وسط الوجه، وهو منفيّ شرعاً.
ويؤيّد ما ذكرنا صحيحة زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: لا صلاة إلاّ إلى القبلة قال: قلت: أين حدّ القبلة؟ قال: بين المشرق والمغرب قبلة كلّه، الحديث(1).
وصحيحة معاوية بن عمّار أنّه سأل الصادق(عليه السلام) عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعدما فرغ، فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يميناً أو شمالا؟ فقال له: قد مضت صلاته، وما بين المشرق والمغرب قبلة(2).
توضيحه: أنّه ليس المراد من المشرق والمغرب المذكورين في هاتين الروايتين منتهى الخطّ الذي يخرج من طرف اليمين واليسار بالنسبة إلى الشخص الذي وقع في مركز الدائرة متوجّهاً إلى جانب القبلة، بل المراد منهما كلّ ما يصدق عليه أنّه مشرق للشمس أو مغرب لها، ومن المعلوم أنّ لها مشارق ومغارب مختلفة تطلع كلّ يوم من أحدها وتغرب في أحدها، مثلا تطلع أوّل الشتاء من نقطة قريبة إلى الجنوب، وأوّل الصيف من نقطة قريبة إلى الشمال، فالنقاط الفاصلة بين هاتين النقطتين كلّها مشرق للشمس.
وحينئذ فالقبلة التي هي ما بين المشرق والمغرب هو المقدار الذي لا يصدق على جزء منه أنّه مشرق للشمس أو مغرب لها ولو في يوم، وهذا المقدار مساو لربع الكرة تقريباً، فالقبلة بمقتضى الروايتين هو ربع الكرة، وهذاالمقدار يساوي ماذكرنا; لأنّ الخطوط الخارجة من أجزاء الوجه على نحو غير التوازي لا يكون انتهاء البعد بينها أزيد من ذلك المقدار، فلا محالة تقع إحدى الخطوط الخارجة
- (1) الفقيه 1: 180، ح855; وعنه وسائل الشيعة 4: 314، أبواب القبلة، ب10، ح2.
- (2) الفقيه 1: 179، ح846; تهذيب الأحكام 2: 48، ح157; الاستبصار 1: 297، ح1095; وعنها وسائل الشيعة 4: 314، أبواب القبلة، ب10، ح1.
(الصفحة 231)
على الكعبة.
ويؤيّده أيضاً ما دلّ من الأخبار على وجوب الصلاة إلى أربع جهات مع الاشتباه وتعذّر الترجيح(1); فإنّ ظاهرها أنّ مع الإتيان بالصلوات الأربع يكون المصلّي مدركاً للصلاة إلى القبلة واقعاً، وهذا يتم بناءً على ما ذكرنا، وإلاّ فبناءً على اعتبار خروج الخطّ من وسط الوجه يلزم أن يصلّي أكثر من ذلك المقدار; والحاصل أنّه لو خرج من جزء من أجزاء وجه البعيد خطّ مستقيم ووقع على الكعبة يصدق عليه أنّه متوجّه شطرها، فتنطبق عليه الآية الشريفة(2).
ثمّ إنّ الشيخ(رحمه الله)(3) القائل بأنّ قبلة البعيد هي عين الحرم، استند لذلك بأخبار تدلّ على أنّ الكعبة قبلة لمن كان في المسجد، والمسجد قبلة لمن كان في الحرم، والحرم قبلة لأهل الدنيا; وقد تقدّم أكثرها(4)، ورجّحها على الأخبار الدالّة على أنّ الكعبة قبلة لجميع المسلمين بوجه عقليّ، وهو: أنّه لو كان قبلة البعيد هي عين الكعبة يلزم بطلان صلاة بعض الصفّ الذي كان طوله أزيد من طول الكعبة، وبطلان التالي معلوم بالضرورة.
وقد يقال بأنّ هذا الإشكال وارد عليه أيضاً، ولكن يمكن أن يناقش فيه بأنّ الشيخ(قدس سره) يتمسّك في بطلان التالي بالسيرة المستمرّة من زمان النبيّ(صلى الله عليه وآله)إلى يومنا هذا، وهي غير متحقّقة في ما اُشكل عليه، كما لا يخفى.
والحقّ في الجواب عنه أن يقال: إنّه يمكن الالتزام بأنّ القبلة هي عين الكعبة
- (1) وسائل الشيعة 4: 310ـ312، أبواب القبلة، ب8.
- (2) سورة البقرة 2: 144 و 150.
- (3) المبسوط 1: 77; الخلاف 1: 295، مسألة 41; النهاية: 63.
- (4) في ص222ـ223.