(الصفحة 148)
ركعات(1); فإنّ ذلك مورد لاتّفاق المسلمين وإن كان الوجه بينهم مختلفاً، كما عرفت.
وكيف كان، فيظهر من الشيخ عدم الإعراض عن أخبار الفجر ولو في خصوص مواردها، وحينئذ فيقع الكلام ـ بعد عدم إمكان الاعتماد برواية عبيد المتقدّمة الظاهرة في الامتداد مطلقاً; لضعف سندها ـ في أنّه هل يعمل بتلك الأخبار في خصوص مواردها; أعني النائم، والساهي والحائض، فيكون الوقت بالنسبة إليهم أوسع منه بالنسبة إلى غيرهم، أو أنّه يتعدّى عنها إلى مطلق ذوي الأعذار بإلغاء الخصوصيّة، أو يستفاد منها الإطلاق ولو بالنسبة إلى العامد، غاية الأمر أنّه عاص بالتأخير، للأخبار الكثيرة الدالّة على حرمة التأخير عن انتصاف الليل(2)؟ وجوه.
ولا يخفى أنّه لا دلالة لما دلّ على ثبوت كفّارة صوم يوم على من أخّر العشاء عن الانتصاف(3) على انقضاء الوقت بذلك; لأنّه يحتمل أن تكون الكفّارة من جهة حرمة التأخير، لا خروج وقتها بذلك.
ويجري في الأخبار الواردة في خصوص الحائض احتمالات ثلاثة:
أحدها: أن تكون محمولة على الاستحباب، كما حكي عن الشيخ(رحمه الله)(4).
ثانيها: أن تحمل على الوجوب، ويكون المراد إتيانها إلى طلوع الفجر قضاءً، فتكون هذه الأخبار مخصّصة للأخبار الدالّة على عدم وجوب القضاء على
- (1) الخلاف 1: 273، مسألة 14.
- (2) وسائل الشيعة 4: 183، أبواب المواقيت، ب17.
- (3) الفقيه 1: 142، ح658; وعنه وسائل الشيعة 4: 214، أبواب المواقيت، ب29، ح3.
- (4) تهذيب الأحكام 1: 391، ذ ح1207.
(الصفحة 149)
الحائض إذا طهرت بعد انقضاء الوقت(1).
ثالثها: الحمل على ظاهرها، وهو وجوب إتيانهما عليها أداءً; لامتداد وقتهما إلى الفجر، ولا يخفى أنّ الاحتمال الأوّل خلاف الظاهر، والأظهر منها هو الاحتمال الأخير; فإنّ المتبادر من هذه الروايات امتداد وقت المغرب والعشاء إلى الفجر، كامتداد الظهرين إلى الغروب.
ثمّ إنّه قد يقال بترجيح الاحتمال الثالث; نظراً إلى أنّ مقتضى الاحتمال الثاني تخصيص العمومات الدالّة على عدم وجوب القضاء على الحائض إذا طهرت بعد مضيّ الوقت; ومقتضى الاحتمال الثالث خروج مورد الروايات عن تلك العمومات بنحو التخصّص، فيدور الأمر بين التخصيص والتخصّص، ولا ريب أنّ الترجيح مع الثاني، ولكن لا يخفى أنّ ذلك فيما إذا كان مراد المتكلّم مجهولا، فبأصالة العموم النافية للتخصيص يستكشف المراد.
وأمّا في مثل المقام ممّا إذا كان المراد معلوماً ـ لأنّ المفروض ثبوت الوجوب بالنسبة إلى الحائض بعد الانتصاف; سواء كان من باب التخصيص أو التخصّص ـ فلا مجال حينئذ للتمسّك بأصالة العموم كما حقّقناه في الاُصول(2)، فانقدح ممّا ذكرنا أنّ مقتضى هذه الطائفة امتداد وقت المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر، وقد عرفت عدم ثبوت الإعراض عنها، فلابدّ من الجمع بينها، وبين الطائفة الرابعة الظاهرة في الامتداد
- (1) الكافي 3: 102، ح1 و 2; تهذيب الأحكام 1: 389، ح1198 و 1199; الاستبصار 1: 142، ح484 و 485; وعنها وسائل الشيعة 2: 361ـ362، أبواب الحيض، ب49، ح2 و 3.
- (2) نهاية الاُصول: 342ـ343.
(الصفحة 150)
إلى نصف الليل.
والاحتمالات في وجه الجمع ثلاثة:
الأوّل: أن يحمل أخبار الانتصاف على بيان آخر الوقت للمختار، وأخبار الفجر على بيان آخر الوقت للمضطرّ.
الثاني: أن يحمل أخبار النصف على بيان آخر وقت الفضيلة، وأخبار الفجر على بيان آخر وقت الإجزاء، ومرجع هذين الوجهين إلى وجه واحد; وهو كون كلّ من الطائفتين متعرّضة لتحديد أحد الوقتين المجعولين لكلّ صلاة، غاية الأمر أنّ اختلافهما بالاختيار والاضطرار عند الشيخ ومن تبعه(1)، وبالفضيلة والإجزاء عند غيرهم(2)، وهو الأقوى كما عرفت.
هذا كلّه بناءً على إلغاء الخصوصيّة من حيث الحيض، والنوم، والنسيان من أخبار الفجر، واستفادة العموم منها، وإلاّ وجب العمل بمضمونها في خصوص موردها.
الثالث: حمل أخبار الفجر على التقيّة; لموافقتها للعامّة إجمالا، وإن اختلفوا من حيث الامتداد إلى الفجر مطلقاً، كما ذهب إليه مالك(3)، أو الامتداد إليه في موارد مشروعيّة الجمع(4)، وحينئذ فلابدّ من طرح أخبار الفجر والأخذ بأخبار الانتصاف; لكونها بصدد بيان الحكم الواقعي، لما عرفت من أنّه ليس من الانتصاف في كلماتهم أثر أصلا; وهذا الاحتمال هو الذي يستفاد من فتاوى
- (1) المبسوط 1: 72 و 75; الخلاف 1: 271، مسألة 13; المهذّب 1: 71; الوسيلة: 81.
- (2) مسائل الناصريّات: 195; المراسم: 62; السرائر 1: 196; المعتبر 2: 26; الجامع للشرائع: 60; تذكرة الفقهاء 2: 300، مسألة 23; وحكاه عن ابن الجنيد في مختلف الشيعة 2: 4.
- (3) تقدّم في ص139.
- (4) تقدّمت في ص147.
(الصفحة 151)
فقهائنا الإماميّة في متونهم الفقهيّة(1)، مع أنّ مقتضى القاعدة الجمع بين الطائفتين بأحد من الوجهين الأوّلين; لأنّ الجمع الدلالي مقدّم على الجمع من حيث الجهة.
وحينئذ فطرح أخبار الفجر مشكل، إلاّ أن يثبت الإعراض، وقد عرفت عدم ثبوته، ولكنّ الأحوط حتى بالنسبة إلى موارد أخبار الفجر من الحائض، والنائم، والساهي، عدم قصد الأداء ولا القضاء بعد انتصاف الليل، بل قصد الإتيان بما في الذمّة، كما لا يخفى.
المسألة الخامسة ـ في أوّل وقت صلاة العشاء
قال الشيخ في كتاب الخلاف ما لفظه: الأظهر من مذهب أصحابنا ومن رواياتهم أنّ أوّل وقت العشاء الآخرة غيبوبة الشفق الذي هو الحمرة(2)، وفي أصحابنا من قال: إذا غابت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين(3).
ولا خلاف بين الفقهاء أنّ أوّل وقت العشاء الآخرة غيبوبة الشفق، وإنّما اختلفوا في ماهيّة الشفق، فذهب الشافعي إلى أنّه الحمرة، فإذا غابت بأجمعها فقد دخل وقت العشاء الآخرة، وروي ذلك عن عبدالله بن عمر، وعبدالله بن مسعود، وأبي هريرة، وعبادة بن الصّامت، وشدّاد بن أوس، وبه قال مالك، والثوري، ومحمّد(4). وقال قوم: الشفق هو البياض، لا تجوز الصلاة إلاّ بعد
- (1) مسائل الميافارقيات (رسائل الشريف المرتضى) 1: 274، مسألة 5; المراسم: 62; المبسوط 1: 75; غنية النزوع: 70; الوسيلة: 83; السرائر 1: 195; المعتبر 2: 43; الجامع للشرائع: 60; الدروس الشرعيّة 1: 139; مفاتيح الشرائع 1: 87.
- (2) الهداية: 130; المقنعة: 93; مسائل الناصريّات: 195; الكافي في الفقه: 137; المراسم: 62.
- (3) مسائل الناصريّات: 195ـ197.
- (4) السنن الكبرى للبيهقي 2: 104ـ106، ح1782ـ1789; أحكام القرآن للجصّاص 3: 258; المجموع 3: 44.
(الصفحة 152)
غيبوبته، ذهب إليه الأوزاعي، وأبو حنيفة، وزفر، وروي ذلك عن عمر بن عبدالعزيز، وهو اختيار المزني(1).
وذهب أحمد إلى أنّ وقتها في البلدان والأبنية غيبوبة البياض، وفي الصحاري والفضاء غيبوبة الحمرة; فإنّ البنيان يستر، فاحتيط بتأخير الصلاة إلى غيبوبة البياض ليتحقّق معه غيبوبة الحمرة. وفي الصحراء لا حائل يمنع من ذلك، فلم يعتبر ذلك، لا أنّه جعل الوقت مختلفاً في الصحاري والبنيان(2).
دليلنا: أنّ ما اعتبرناه من ذلك لا خلاف بين الطائفة المحقّة أنّه من الوقت، وليس هاهنا إجماع على أنّ ما قبله وقت، فوجب الاحتياط لئلاّ يصلّي قبل دخول الوقت، وقد تكلّمنا في الأخبار المختلفة في هذا المعنى في الكتابين المقدّم ذكرهما(3)، انتهى.
ويستفاد من ذلك تسالم المسلمين إجمالا على كون ما بين ذهاب الشفق بمعنى البياض، وثلث الليل وقتاً للعشاء، وإنّما وقع الاختلاف بينهم في وقتها أوّلا وآخراً، هذا. وقد نقل(قدس سره) أقوالا ثلاثة:
الأوّل: أنّ وقتها هو غيبوبة الشفق بمعنى الحمرة.
الثاني: دخول وقتها بغيبوبة الشمس، وهذا إنّما هو مع قطع النظر من حيث الاشتراك والاختصاص.
الثالث: دخول وقتها بغيبوبة الشفق بمعنى البياض، ولا يخفى أنّ العامّة
- (1) المجموع 3: 44; مغني المحتاج 1: 123; أحكام القرآن للجصّاص 3: 258.
- (2) مسائل أحمد بن حنبل 1: 230، الرقم 132.
- (3) الخلاف 1: 262، مسألة 7.