(الصفحة 174)
أفضل(1)، وعلى الوجه الثاني رواية جبرئيل، المشتملة على إتيانه بأوقات الصلاة، المرويّة بطرق الفريقين وقد تقدّمت(2); وكذلك ما نقل بطريق الفريقين أيضاً من أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)كان يفرّق بين الظهر والعصر، وكذا بين المغرب والعشاء(3)، ومن المعلوم أنّ ذلك لم يكن إلاّ لإدراك الفضيلة، لما سيأتي من عدم خصوصية للتفريق بما هو تفريق، بل هو إنّما كان لأجل إدراك الفضيلة.
وبالجملة: فلا إشكال في أنّ العمل المستمرّ من النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان هو التفريق بين الصلاتين; فإنّه(صلى الله عليه وآله) كان يرجع إلى منزله بعد الإتيان بالمغرب، ويتنفّل ثمّ يصبر مدّة ثمّ يرجع إلى المسجد للعشاء(4). نعم، قد ورد منه أنّه كان قد يجمع بين الصلاتين(5)، ولكنّ الظاهر أنّه كان نادراً اتفاقيّاً، ولعلّ الغرض منه بيان الجواز.
فالعمدة في المقام بيان وجه ذلك، مع أنّ التفريق كان مشقّة له(صلى الله عليه وآله)وللناس، ولاوجه له سوى كون التأخير أفضل، فكيف يجتمع ذلك مع الروايات الدالّة على أنّ أوّل الوقت أفضل مطلقاً، وقد عرفت أنّ وقتهما يدخل بمجرّد الزوال والغروب بعد مضيّ مقدار أداء الشريكة.
هذا، وحكي عن الجواهر(6) أنّه أخذ بمقتضى ما استمرّ عليه عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله)
- (1) وسائل الشيعة 4: 118، أبواب المواقيت، ب3.
- (2) في ص87.
- (3) تقدّم أحاديث العامّة في ص87، وأمّا الخاصّة، فروى في وسائل الشيعة 4: 141، أبواب المواقيت، ب8، ح3 و 4; وص143، ح10; وص147، ح27 و 28.
- (4) صحيح البخاري 1: 160ـ161، ح569ـ572; وسنن النسائي 1: 300ـ303، ح527ـ535، وسائل الشيعة 4: 199، أبواب المواقيت، ب21.
- (5) وسائل الشيعة 4: 220، أبواب المواقيت، ب32 وقد تقدّم عن العامّة والخاصّة في ص101.
- (6) جواهر الكلام 7: 492ـ501.
(الصفحة 175)
من أنّ التأخير أفضل في كلتيهما; أعني العصر والعشاء، ولكنّه ذهب المحقّق الهمداني في المصباح إلى التفصيل بينهما، كما هو مقتضى الوجه الثالث. قال في وجه ذلك ماملخّصه: إنّ تأخير العصر وإن كان راجحاً مستحبّاً، إلاّ أنّ تعجيلها والإتيان بها بعد أداء الظهر ونافلة العصر أيضاً حسن، بل أحسن من جهة انطباق عنوان المسارعة والاستباق إلى الخير الذي هو عنوان ثانويّ راجح عليه(1).
ولكنّه يرد عليه: أنّ هذا الكلام يجري بعينه في العشاء أيضاً، فلا وجه للتفصيل بينها وبين العصر، مضافاً إلى أنّ الأمر بالاستباق(2) والمسارعة(3) ليس أمراً مولويّاً استحبابيّاً ناشئاً عن ملاك الاستحباب، بل هو أمر إرشاديّ كما هو واضح، ولو سلّمنا كونه مستحبّاً مولويّاً أيضاً، فنقول:
يقع التزاحم حينئذ بين المستحبيّن، ومن المعلوم أنّ تقديم أحدهما على الآخر يتوقّف على إحراز أقوائيّة ملاكه وكونه أرجح بالنسبة إلى الآخر، ولم يقم في المقام دليل على أرجحيّة ملاك المسارعة والاستباق لو لم نقل بقيام الدليل على أرجحيّة التأخير; لاستمرار عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) كما تقدّم.
نعم، يمكن أن يقال باستحباب المسارعة في خصوص العصر; للروايات المتواترة(4) الدالّة على استحباب الإتيان بالعصر بعد الذراعين; نظراً إلى وضوح عدم خصوصيّة للذراعين، وأنّ التأخير إليهما إنّما هو لمكان النافلة، ولكنّه يرد عليه مخالفة ذلك لما استمرّ عليه عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله)من التأخير إلى المثل.
- (1) مصباح الفقيه 9: 440ـ443.
- (2) سورة البقرة 2: 148.
- (3) سورة آل عمران 3: 133.
- (4) وسائل الشيعة 4: 140ـ151، أبواب المواقيت، ب8.
(الصفحة 176)
والذي يمكن أن يقال في هذا المقام أنّ استمرار عمل النبيّ(صلى الله عليه وآله) على ما ذكر من تأخيره(صلى الله عليه وآله) العصر إلى أن يصير ظلّ الشاخص مثله ممّا لم يثبت، كيف؟ ويستفاد من الروايات الكثيرة التي بلغت من الكثرة حدّاً يمكن دعوى القطع بصدورها، أنّ بناءه(صلى الله عليه وآله) كان على الإتيان بالعصر بعد الذراعين، وحينئذ فيظهر بطلان ما عليه العامّة في مقام العمل من التأخير إلى المثل، وكذا عدم صحّة ما حكوا عن النبيّ(صلى الله عليه وآله)من أنّه(صلى الله عليه وآله) كان ملتزماً بذلك(1).
فلا بأس بإيراد بعض تلك الأخبار ليتّضح الحال، فنقول:
منها: ما رواه الصدوق بإسناده عن الفضيل بن يسار وزرارة بن أعين وبكير بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي، عن أبي جعفر وأبي عبدالله(عليهما السلام)أنّهما قالا: وقت الظهر بعد الزوال قدمان(2).
ومنها: رواية زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: سألته عن وقت الظهر؟ فقال: ذراع من زوال الشمس، ووقت العصر ذراع من وقت الظهر، فذاك أربعة أقدام من زوال الشمس. ثمّ قال: إنّ حائط مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان قامة، وكان إذا مضى منه ذراع صلّى الظهر، وإذا مضى منه ذراعان صلّى العصر. ثمّ قال: أتدري لِمَ جعل الذراع والذراعان؟ قلت: لِمَ جعل ذلك؟ قال: لمكان النافلة، لك أن تتنفّل من زوال الشمس إلى أن يمضي ذراع، فإذا بلغ فيؤك ذراعاً من الزوال بدأت بالفريضة وتركت النافلة، وإذا بلغ فيؤك ذراعين بدأت بالفريضة وتركت النافلة(3).
- (1) سنن النسائي 1: 285، ح500; السنن الكبرى للبيهقي 2: 95، ح1761ـ1763.
- (2) الفقيه 1: 140، ح649; تهذيب الأحكام 2: 255، ح1012; الاستبصار 1: 248، ح892; وعنها وسائل الشيعة 4: 140، أبواب المواقيت، ب8، ح1 و 2.
- (3) الفقيه 1: 140، ح653; تهذيب الأحكام 2: 19، ح55; الاستبصار 1: 250، ح899; علل الشرائع: 349، ح2; وعنها وسائل الشيعة 4: 141، أبواب المواقيت، ب8، ح3 و 4.
(الصفحة 177)
ومنها: ما رواه عبدالله بن سنان، عن أبي عبدالله(عليه السلام) في حديث قال: كان حائط مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله) قبل أن يظلّل قامة، وكان إذا كان الفيء ذراعاً وهو قدر مربض عنز صلّى الظهر، فإذا كان ضعف ذلك صلّى العصر(1).
ومنها: رواية صفوان الجمّال قال: صلّيت خلف أبي عبدالله(عليه السلام) عند الزوال، فقلت: بأبي أنت واُمّي وقت العصر؟ فقال: ريثما تستقبل إبلك، فقلت: إذا كنت في غير سفر؟ فقال: على أقلّ من قدم ثلثي قدم وقت العصر(2).
ومنها: رواية إسماعيل الجعفي، عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: كان رسول الله(صلى الله عليه وآله)إذا كان فيء الجدار ذراعاً صلّى الظهر، وإذا كان ذراعين صلّى العصر، قال: قلت: إنّ الجدار يختلف، بعضها قصير وبعضها طويل، فقال: كان جدار مسجد رسول الله(صلى الله عليه وآله)يؤمئذ قامة(3).
ومنها: رواية علي بن حنظلة قال: قال لي أبو عبدالله(عليه السلام): القامة والقامتان الذراع والذراعان في كتاب علي(عليه السلام)(4). والمراد أنّه قد فسّرت القامة بالذراع في كتابه(عليه السلام)، أو أنّ المذكور فيه بدل القامة الذراع.
ومنها: غير ذلك ممّا يستفاد منه عدم تأخير العصر إلى المثل، وأنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله)كان يصلّيها قبله، وحينئذ فلا ينبغي الارتياب بمقتضى اُصول المذهب في بطلان ما عليه العامّة; لحجّية أقوال العترة الطاهرة في حقّنا، بل في حقّ من لم يقل بإمامتهم أيضاً; فإنّهم أحد الثقلين(5) اللذين تركهما النبيّ(صلى الله عليه وآله)في الاُمّة في عرض
- (1) الكافي 3: 295، ح1; تهذيب الأحكام 3: 261، ح738; وعنهما وسائل الشيعة 4: 142، أبواب المواقيت، ب8، ح7.
- (2) الكافي 3: 431، ح1; وعنه وسائل الشيعة 4: 143، أبواب المواقيت، ب8، ح8.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 21، ح58; وعنه وسائل الشيعة 4: 143، أبواب المواقيت، ب8، ح10.
- (4) تهذيب الأحكام 2: 23، ح64; وعنه وسائل الشيعة 4: 144، أبواب المواقيت، ب8، ح14.
- (5) راجع ص153.
(الصفحة 178)
الثقل الآخر الذي هو الكتاب العزيز، ويستفاد من ذلك أنّه كما يجب التمسّك بالكتاب لأجل فهم الأحكام الشرعيّة، كذلك يجب الاعتصام بحبلهم لاستفادة ما لم يكن مبيّناً في الكتاب من الأحكام والشرائع، فلا عذر في طرد قولهم والاستغناء عنهم بالكتاب، كما هو واضح.
هذا كلّه بالنسبة إلى صلاة العصر.
وأمّا صلاة العشاء، فاستفادة استحباب تأخيرها إلى زوال الشفق من مجرّد تأخير النبيّ(صلى الله عليه وآله) إليه على فرض ثبوته مشكل; إذ لعلّ تأخيره لم يكن لأجل كونه أفضل، بل كان لجهات خارجيّة، كتعشّي الناس واستراحتهم مثلا، حيث كان أكثرهم في النهار مشتغلين بتحصيل المعاش وتحمّل المشقّة، فلم يقدروا في الليل على الإتيان بالصلاتين متعاقباً.
وبالجملة: فمجرّد الفعل من دون وضوح وجهه لا يدلّ على الاستحباب أصلا، وتسالم العامّة على ذلك قولا وفعلا لا يدلّ على ذلك، خصوصاً بعدما ظهر فساد أكثر ما تسالموا عليه، كما عرفت في صلاة العصر، مضافاً إلى وضوح أنّ بناءهم في ذلك على اُمور لا اعتبار بها أصلا، كالاعتماد على قول صحابيّ ولو كان مثل أبي هريرة، الذي روى عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) ما يزيد عن خمسة آلاف حديث مع قلّة صحبته له(صلى الله عليه وآله)، وعدم كونه ممّن يصلح لأخذ الرواية، كما يشهد به التواريخ(1)، فاتّفاقهم على شيء لا يجدي لنا أصلا.
نعم، ورد في المقام من طرق الإماميّة روايات ظاهرة في أفضليّة التأخير
- (1) المعارف لابن قتيبة: 121; الفائق 1: 102; شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 67ـ69; الكنى والألقاب 1: 179ـ181.