(الصفحة 222)
إلى الكعبة؟ قال: بعد رجوعه من بدر(1); فإنّها تدلّ على أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)كان يصلّي إلى الكعبة، وهذا المعنى كان مسلّماً عند الراوي، ولذا لم يسأل عنه، بل سأل عن زمان صرف فيه رسول الله(صلى الله عليه وآله)إلى الكعبة.
ومثل ما رواه أيضاً بإسناده عنه، عن وهيب، عن أبي بصير، عن أحدهما(عليهما السلام)في حديث قال: قلت له: إنّ الله أمره أن يصلّي إلى بيت المقدس؟ قال: نعم، ألا ترى أنّ الله يقول: (وَ مَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ)(2)، ثم قال: إنّ بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلّوا ركعتين إلى بيت المقدس، فقيل لهم: إنّ نبيّكم صرف إلى الكعبة فتحوّل النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة، فصلّوا صلاة واحدة إلى قبلتين، فلذلك سمّي مسجدهم مسجد القبلتين(3).
ورواية معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): متى صرف رسول الله(صلى الله عليه وآله)إلى الكعبة؟ قال: بعد رجوعه من بدر، وكان يصلّي في المدينة إلى بيت المقدّس سبعة عشر شهراً، ثمّ اُعيد إلى الكعبة(4).
والروايات بهذه المضامين كثيرة يقرب عشرين رواية.
وفي مقابلها ما يدلّ على أنّ الكعبة قبلة لمن كان في المسجد، والمسجد قبلة لمن كان في الحرم، والحرم قبلة لأهل الدنيا.
كمرسلة عبدالله بن محمّد الحجّال، عن أبي عبدالله(عليه السلام): إنّ الله ـ تعالى ـ جعل
- (1) تهذيب الأحكام 2: 43، ح135; وعنه وسائل الشيعة 4: 297، أبواب القبلة، ب2، ح1.
- (2) سورة البقرة 2: 143.
- (3) تهذيب الأحكام 2: 43، ح138; إزاحة العلّة في معرفة القبلة: 71ـ72; وعنهما وسائل الشيعة 4: 297، أبواب القبلة، ب2، ح2; وفي بحار الأنوار 84: 76 عن إزاحة العلّة.
- (4) إزاحة العلّة: 71; وعنه بحار الأنوار 84: 76; و وسائل الشيعة 4: 298، كتاب الصلاة، أبواب القبلة، ب2، ح3.
(الصفحة 223)
الكعبة قبلة لأهل المسجد، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا، ورواه الصدوق في العلل مثله(1).
ورواية ابن عقدة، عن الحسين بن محمّد بن حازم، عن تغلب بن الضحّاك، عن بشر بن جعفر الجعفي، عن جعفر بن محمّد(عليهما السلام) قال: سمعته يقول: البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة للناس جميعاً(2). وغيرهما من الأخبار الواردة بهذا المضمون.
ولكنّها لا تصلح لمعارضة الأخبار الدالّة على أنّ قبلة المسلمين هي الكعبة; لضعف سند بعضها، وثبوت الإرسال في بعضها الآخر; مع أنّ من عمل بمضمونها كالشيخ(قدس سره) في أكثر كتبه(3)، لا يقول بها فيمن صلّى في الحرم متوجّهاً إلى المسجد على نحو لا يكون مستقبلا إلى الكعبة، كأن صلّى متوجّهاً إلى زاوية من المسجد، فأفتى فيه بوجوب مراعاة الكعبة. وعليه: فيمكن أن يدّعى الاجماع(4) على خلاف مضمون هذه الروايات، بل كاد أن يكون ضروريّاً.
ثمّ إنّه لا تعارض بين الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ الكعبة قبلة للمسلمين، وبين قوله ـ تعالى ـ : (وَ حَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُو)(5)، حيث أمر بتولية الوجه شطر المسجد الحرام; لأنّ المراد بالمسجد في الآية هي الكعبة، والتعبير عنها به باعتبار قلّة التفاوت بينهما من حيث المقدار; لأنّ المسجد الحرام
- (1) تهذيب الأحكام 2: 44، ح139; علل الشرائع: 415، ب156، ح2; وعنهما وسائل الشيعة 4: 303، أبواب القبلة، ب3، ح1.
- (2) تهذيب الأحكام 2: 44، ح140; وعنه وسائل الشيعة 4: 304، أبواب القبلة، ب3، ح2.
- (3) الخلاف 1: 295، مسألة 41; النهاية: 62ـ63; المبسوط 1: 77ـ78; الجمل والعقود (الرسائل العشر): 175.
- (4) كشف اللثام 3: 128ـ129.
- (5) سورة البقرة 2: 144.
(الصفحة 224)
قد توسّع في الأزمنة المتأخّرة.
وليس المراد بالكعبة هو خصوص البناء وما أحاطه من الفضاء، بل المراد به هو البناء وكلّ ما هو مسامت له من تحت الأرض إلى فوق السماء، كما هو ظاهر رواية عبدالله بن سنان، أنّه سأل فيها رجل عن صحّة صلاة صلّى فوق أبي قبيس والكعبة واقعة تحته؟ فقال(عليه السلام): نعم، إنّها قبلة من موضعها إلى السماء(1).
وهل يكفي التوجّه إلى حجر إسماعيل أم لا؟ المنقول عن جماعة هو الكفاية(2)، لكنّ الظاهر عدمها، لأنّ المتبادر من البيت هو البناء المربّع، والحجر خارج عنها.
ثمّ المراد بوجوب التوجّه إلى الكعبة هل هو وجوب التوجّه إليها بجميع مقاديم البدن، أم يكفي توجّه الوجه خاصّة مع خروج طرف الأيمن أو الأيسر؟ وجهان، بل قولان:
من أنّ المذكور في قوله ـ تعالى ـ : (وَ حَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُو) هو الوجه خاصّة; ومن أنّ الوجه المذكور في الآية الشريفة لا خصوصيّة فيه، بل هو كناية عن مقاديم البدن، كما يظهر من صدر الآية، حيث ذكر فيها (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـلـهَا)(3)، فنسب التولية إلى المخاطب دون الوجه.
هذا، ولا يبعد أن يقال بكفاية توجّه الوجه وما يحاذيه من مقاديم البدن إليها،
- (1) تهذيب الأحكام 2: 383، ح1598; وعنه وسائل الشيعة 4: 339، أبواب القبلة، ب18، ح1.
- (2) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 392; تذكرة الفقهاء 3: 22، مسألة 144; ذكرى الشيعة 3: 169; جامع المقاصد 2: 68.
- (3) سورة البقرة 2: 144 و 150.
(الصفحة 225)
ولا يلزم توجّه جميع المقاديم حتى ما هو أوسع من الوجه ممّا لا يحاذيه، كالكتف الأيمن أو الأيسر; لأنّ العرف يفهم من توجّه الوجه إلى شيء أنّ الوجه بوضعه الطبيعي متوجّه إلى ذلك الشيء، وتوجّهه في هذه الحالة يكون ملازماً لتوجّه المقاديم التي يحاذيه. فالآية الشريفة الآمرة بتولية الوجه نحو الكعبة لا تدلّ على أزيد ممّا ذكرنا، ومع فرض الشكّ يرجع إلى أصالة عدم وجوب توجّه أزيد من ذلك المقدار.
ثمّ إنّه بعدما ظهر ممّا ذكرنا ـ أنّ العبرة بتوجّه الوجه وما يحاذيه من مقاديم البدن إليها ـ يقع الكلام في أنّه هل يتحقّق هذا المقدار بخروج خطّ مستقيم من جزء من أجزاء الوجه إلى الكعبة، أو لا يحصل بذلك، بل يلزم أن يخرج ذلك الخطّ من وسط الوجه؟ ومنشأ الاحتمالين أنّ سطح الوجه ليس على نحو تخرج من جميع أجزائه خطوط متوازية كسطح واحد، بل هو على التقريب يكون ربع الدائرة.
ومن المعلوم أنّ الخطوط المستقيمة الخارجة من كلّ جزء من أجزاء الدائرة ليست على نحو التوازي، فالشخص المتوجّه إلى الكعبة قد يخرج من جزء من أجزاء وجهه خطّ مستقيم إليها دون جزء آخر; فعلى هذا يقع النزاع في أنّ العبرة في توجّه الوجه إلى شيء، هل هو أن يخرج من جزء من أجزاء وجهه خطّ مستقيم إلى ذلك الشي، أو أنّه يتوقّف صدق هذا المفهوم على خروج خطّ مستقيم من وسط الوجه إليه، فلا يتحقّق تولية الوجه إلى الكعبة إلاّ إذا خرج خطّ مستقيم من وسط الوجه إليها; وإن كانت الخطوط الخارجة من طرف يسار الوجه أو يمينه قد تصل إلى مكان واقع في طرف يسار الكعبة أو يمينها بعيدة
(الصفحة 226)
منها بفراسخ؟
لا يبعد أن يقال بأنّ توجّه الوجه نحو شيء لا يتحقّق عند العرف إلاّ إذا خرج من وسطه خطّ إليه، ولا يكفي مجرّد وصول الخط الخارج من طرف يسار الوجه أو يمينه.
هذا، واحتمال أنّه يعتبر في تحقّق الاستقبال إلى الكعبة مثلا أن يخرج خطّ مستقيم من كلّ جزء من أجزاء الوجه متواز مع الخطّ الآخر على نحو يحدث بين محلّ تقاطع الخطّ الخارج، والمحلّ الذي يخرج منه زواية قائمة، في غاية البعد، بل ممّا يقطع بخلافه; فإنّ ذلك فرض مستحيل كما هو محسوس. نعم، يمكن هذا الفرض مع حدوث زاوية حادّة.
وكيف كان، فالظاهر أنّ تولية الوجه المأمور بها في قوله ـ تعالى ـ : (فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُو) يكون المراد بها هي تولية بعض الوجه على نحو عرفت; لتحقّقها بنظر العرف بتولية بعضه. نعم، لا يكفي مجرّد وصول الخطّ الخارج من أحد طرفيه كما عرفت.
مسألة: اختلف الفقهاء رضوان الله عليهم ـ بعد الاتّفاق على أنّ قبلة القريب هي عين الكعبة أو الحرم ـ في أنّ قبلة البعيد هل هي عين الكعبة، أو الحرم، أو جهة الكعبة؟ فذهب إلى الأوّل جماعة من العامّة(1) والخاصّة وأكثر المتأخّرين(2)، وإلى الثاني الشيخ في أكثر كتبه(3)، وإلى الثالث جماعة
- (1) المغني لابن قدامة 1: 457; الشرح الكبير 1: 485; المجموع 3: 198; بداية المجتهد 1: 113.
- (2) جواهر الكلام 7: 531ـ540.
- (3) تقدّم في ص223.