(الصفحة 224)
قد توسّع في الأزمنة المتأخّرة.
وليس المراد بالكعبة هو خصوص البناء وما أحاطه من الفضاء، بل المراد به هو البناء وكلّ ما هو مسامت له من تحت الأرض إلى فوق السماء، كما هو ظاهر رواية عبدالله بن سنان، أنّه سأل فيها رجل عن صحّة صلاة صلّى فوق أبي قبيس والكعبة واقعة تحته؟ فقال(عليه السلام): نعم، إنّها قبلة من موضعها إلى السماء(1).
وهل يكفي التوجّه إلى حجر إسماعيل أم لا؟ المنقول عن جماعة هو الكفاية(2)، لكنّ الظاهر عدمها، لأنّ المتبادر من البيت هو البناء المربّع، والحجر خارج عنها.
ثمّ المراد بوجوب التوجّه إلى الكعبة هل هو وجوب التوجّه إليها بجميع مقاديم البدن، أم يكفي توجّه الوجه خاصّة مع خروج طرف الأيمن أو الأيسر؟ وجهان، بل قولان:
من أنّ المذكور في قوله ـ تعالى ـ : (وَ حَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُو) هو الوجه خاصّة; ومن أنّ الوجه المذكور في الآية الشريفة لا خصوصيّة فيه، بل هو كناية عن مقاديم البدن، كما يظهر من صدر الآية، حيث ذكر فيها (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَـلـهَا)(3)، فنسب التولية إلى المخاطب دون الوجه.
هذا، ولا يبعد أن يقال بكفاية توجّه الوجه وما يحاذيه من مقاديم البدن إليها،
- (1) تهذيب الأحكام 2: 383، ح1598; وعنه وسائل الشيعة 4: 339، أبواب القبلة، ب18، ح1.
- (2) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 392; تذكرة الفقهاء 3: 22، مسألة 144; ذكرى الشيعة 3: 169; جامع المقاصد 2: 68.
- (3) سورة البقرة 2: 144 و 150.
(الصفحة 225)
ولا يلزم توجّه جميع المقاديم حتى ما هو أوسع من الوجه ممّا لا يحاذيه، كالكتف الأيمن أو الأيسر; لأنّ العرف يفهم من توجّه الوجه إلى شيء أنّ الوجه بوضعه الطبيعي متوجّه إلى ذلك الشيء، وتوجّهه في هذه الحالة يكون ملازماً لتوجّه المقاديم التي يحاذيه. فالآية الشريفة الآمرة بتولية الوجه نحو الكعبة لا تدلّ على أزيد ممّا ذكرنا، ومع فرض الشكّ يرجع إلى أصالة عدم وجوب توجّه أزيد من ذلك المقدار.
ثمّ إنّه بعدما ظهر ممّا ذكرنا ـ أنّ العبرة بتوجّه الوجه وما يحاذيه من مقاديم البدن إليها ـ يقع الكلام في أنّه هل يتحقّق هذا المقدار بخروج خطّ مستقيم من جزء من أجزاء الوجه إلى الكعبة، أو لا يحصل بذلك، بل يلزم أن يخرج ذلك الخطّ من وسط الوجه؟ ومنشأ الاحتمالين أنّ سطح الوجه ليس على نحو تخرج من جميع أجزائه خطوط متوازية كسطح واحد، بل هو على التقريب يكون ربع الدائرة.
ومن المعلوم أنّ الخطوط المستقيمة الخارجة من كلّ جزء من أجزاء الدائرة ليست على نحو التوازي، فالشخص المتوجّه إلى الكعبة قد يخرج من جزء من أجزاء وجهه خطّ مستقيم إليها دون جزء آخر; فعلى هذا يقع النزاع في أنّ العبرة في توجّه الوجه إلى شيء، هل هو أن يخرج من جزء من أجزاء وجهه خطّ مستقيم إلى ذلك الشي، أو أنّه يتوقّف صدق هذا المفهوم على خروج خطّ مستقيم من وسط الوجه إليه، فلا يتحقّق تولية الوجه إلى الكعبة إلاّ إذا خرج خطّ مستقيم من وسط الوجه إليها; وإن كانت الخطوط الخارجة من طرف يسار الوجه أو يمينه قد تصل إلى مكان واقع في طرف يسار الكعبة أو يمينها بعيدة
(الصفحة 226)
منها بفراسخ؟
لا يبعد أن يقال بأنّ توجّه الوجه نحو شيء لا يتحقّق عند العرف إلاّ إذا خرج من وسطه خطّ إليه، ولا يكفي مجرّد وصول الخط الخارج من طرف يسار الوجه أو يمينه.
هذا، واحتمال أنّه يعتبر في تحقّق الاستقبال إلى الكعبة مثلا أن يخرج خطّ مستقيم من كلّ جزء من أجزاء الوجه متواز مع الخطّ الآخر على نحو يحدث بين محلّ تقاطع الخطّ الخارج، والمحلّ الذي يخرج منه زواية قائمة، في غاية البعد، بل ممّا يقطع بخلافه; فإنّ ذلك فرض مستحيل كما هو محسوس. نعم، يمكن هذا الفرض مع حدوث زاوية حادّة.
وكيف كان، فالظاهر أنّ تولية الوجه المأمور بها في قوله ـ تعالى ـ : (فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُو) يكون المراد بها هي تولية بعض الوجه على نحو عرفت; لتحقّقها بنظر العرف بتولية بعضه. نعم، لا يكفي مجرّد وصول الخطّ الخارج من أحد طرفيه كما عرفت.
مسألة: اختلف الفقهاء رضوان الله عليهم ـ بعد الاتّفاق على أنّ قبلة القريب هي عين الكعبة أو الحرم ـ في أنّ قبلة البعيد هل هي عين الكعبة، أو الحرم، أو جهة الكعبة؟ فذهب إلى الأوّل جماعة من العامّة(1) والخاصّة وأكثر المتأخّرين(2)، وإلى الثاني الشيخ في أكثر كتبه(3)، وإلى الثالث جماعة
- (1) المغني لابن قدامة 1: 457; الشرح الكبير 1: 485; المجموع 3: 198; بداية المجتهد 1: 113.
- (2) جواهر الكلام 7: 531ـ540.
- (3) تقدّم في ص223.
(الصفحة 227)
من المحقّقين(1)، بل هو المشهور بين الفقهاء(2).
ثمّ اختلف القائلون ـ بأنّ قبلة البعيد هي جهة الكعبة ـ في المراد من الجهة، ففي المعتبر: أنّها السمت الذي فيه الكعبة(3)، ولعلّ المراد من السمت هي إحدى الجهات السّت; فإنّ الشخص إذا أحاطت به دائرة، ووقع في مركزها يكون كلّ ربع من الدائرة إحدى الجهات الأربع لذلك الشخص من اليسار واليمين، والأمام والخلف، فالمراد بالسمت هو الربع الذي وقعت الكعبة في جزء منه، فيكفي بناءً عليه توجّه الوجه نحو ذلك الربع.
وفي المحكي عن نهاية الإحكام: أنّها ما يظنّ به الكعبة، حتى لو ظنّ خروجه عنها لم يصحّ(4). وفي التذكرة: أنّها ما يظنّ أنّه الكعبة، حتى لو ظنّ خروجه عنها لم يصح(5). وفي الذكرى والجعفريّة: أنّها السمت الذي يظنّ كون الكعبة فيه لامطلق الجهة(6)، ولعلّ ذكر الظنّ مستدرك; لأنّ الجهة هي السمت الذي فيه الكعبة، فإن علم بتلك السمت فهو، وإلاّ فيكفي فيه الظنّ، فتنطبق هذه التعاريف الثلاثة على مافسّرت به في المعتبر.
- (1) جمل العلم والعمل (رسائل الشريف المرتضى) 3: 29; الكافي في الفقه: 138; غنية النزوع: 68ـ69; السرائر 1: 204; المعتبر 2: 65; وقواعد الأحكام 1: 250; مختلف الشيعة 2: 61; منتهى المطلب 4: 162; البيان: 114; ذكرى الشيعة 3: 158; المهذّب البارع 1: 306; جامع المقاصد 2: 49; مستند الشيعة 4: 151; رياض المسائل 3: 111.
- (2) زبدة البيان: 102; مفاتيح الشرائع 1: 112; ونسبه إلى الأكثر في مدارك الأحكام 3: 119; وهو خيرة المتأخّرين كما في مسالك الأفهام 1: 151; وأكثر المتأخّرين إن لم يكن جميعهم كما في روض الجنان 2: 512.
- (3) المعتبر 2: 66.
- (4) نهاية الإحكام في معرفة الأحكام 1: 392.
- (5) تذكرة الفقهاء 3: 7.
- (6) ذكرى الشيعة 3: 160; الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي) 1: 103.
(الصفحة 228)
وفي جامع المقاصد : أنّ جهة الكعبة هي المقدار الذي شأن البعيد أن يجوّز على كلّ بعض منه أن يكون هو الكعبة، بحيث يقطع بعدم خروجها عن مجموعه(1).
وفي الروضة: أنّها السمت الّذي يحتمل كونها فيه، ويقطع بعدم خروجها عنه لأمارة شرعيّة(2)، ولعلّ هذا التعريف مأخوذ من جامع المقاصد.
ومرجع بعض هذه التعاريف المذكورة وغيرها من التفاسير، إلى أنّ المراد من الجهة هي قطعة من الدائرة المفروضة التي وقعت الكعبة في جزء منها، ويعلم بعدم خروج الكعبة عنها، ويتساوى احتمال وجودها بالنسبة إلى كلّ جزء من القطعة المذكورة، فيكفي توجّه الوجه نحو القوس الذي يحتمل في كلّ جزء منه وجود الكعبة; وهذا المعنى يختلف سعةً وضيقاً باختلاف آحاد المصلّين، من حيث إنّه قديعلم بوجود الكعبة في ربع الدائرة، وقد يعلم بوجودها في أزيد أو أنقص من هذا المقدار.
وحينئذ فيتوجّه عليه الإشكال بأنّ الشطر الذي أمر بتولية الوجه إليه أمر واقعيّ لا ارتباط له بحال المكلّف من حيث العلم والجهل; لأنّ الكلام في الحكم الواقعي الذي جعل لجميع المكلّفين، والآية الشريفة(3) أيضاً ناظرة إليه، والحكم الواقعي هو الذي جعل للناس مع قطع النظر عن حالاتهم من حيث العلم والجهل; وحينئذ فالتفسير المذكور لا يناسبه، بل يناسب الحكم الظاهريّ.
وأغرب التعاريف ما نقله صاحب الجواهر(قدس سره) عن الفاضل المقداد والمحقّق
- (1) جامع المقاصد 2: 49.
- (2) الروضة البهيّة 1: 190.
- (3) سورة البقرة 2: 144 و 150.